البشير قادرة
ان الحياة البشرية لا تستقيم ولا ترقى، ولا يحدث لها التوازن المنشود، الذي يسعد الإنسان كفرد وكجماعة، في الدنيا ويفوز في الآخرة، إلا إذا ظللتها الحياة الروحية التي تقوم على صفاء الروح وطهارة النفس، كثمرة من ثمرات التربية الروحية، التي أمر بها الإسلام، والتزمها الربانيون على مر العهود، كفهم صحيح لما يدعو إليه الإسلام، من كتاب وسنة، ومن ثم سنحاول وفي هذه العجالة التي يسمح بها الوقت، ومن خلال عنوان المحاضرة أن نجيب على السؤالين التاليين :
الأول : ما هي حقيقة التربية الروحية ؟ وكيف جسدها العلامة الثعالبي من خلال كتابيه المذكورين آنفا.
الثاني : حقيقة واثر الذكر في استمرار التوهج الروحي والطهارة النفسية والسمو الخلقي لدى الفرد والمجتمع ؟ مستعينين بنماذج أوردها العلامة عبد الرحمن الثعالبي في كتابيه المذكورين.
مع الإشارة إلى بعض النقاط التي ترتبط بالموضوع حسب ما تقتضيه منهجية البناء والتسلسل في المحاضرة.
أولا : مفهوم التربية الروحية في الإسلام ومظاهرها والسند الشرعي لها .
1 ـ المفهـــوم : إن المقصود بالتربية الروحية في الإسلام أو تزكية النفس أو السير إلى الله سبحانه وتعالى، أو غير ذلك من المصطلحات التي نجدها عند الصوفية وفي كتب التربية الروحية عموما، تصب كلها في وعاء واحد وهدف واحد هو الانتقال من نفس غير مزكاة إلى نفس مزكاة، ومن عقل غير شرعي إلى عقل شرعي ومن قلب قاس مريض إلى قلب مطمئن سليم، ومن روح شاردة عن باب الله غير متذكرة لعبوديتها وغير متحققة بهذه العبودية، إلى روح عارفة بالله قائمة بحقوق العبودية له، ومن جسم غير منضبط بضوابط الشرع إلى جسم منضبط بشريعة الله عز وجل، وبالجملة من ذات أقل كمالا إلى ذات أكثر كمالا في صلاحها وفي إقتدائها برسول الله قولا وفعلا وحالا(1).
2 ـ من مظاهر التربية الروحية : ومن مظاهر هذه التربية أن يتحكم الإنسان في نفسه، فلا يجده الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، ولا يظهر منه ما يغضب الله عز وجل، فهو كالغيث أينما وقع نفع، صالح في نفسه مصلح لغيره، مفيد لمجتمعه وأمته، وعلى العموم هو باقة من الفضائل والمثل الرفيعة والقيم الصالحة، القائمة على العلم والمحاسبة والمراقبة والمجاهدة الذاتية والإيثار والتضحية، وحب الآخرين، فهو كله خير ولا يعرف الشر إليه سبيلا.
والتربية الروحية بهذا المفهوم، وبهذه المظاهر لا تعني الانسلاخ من المجتمع والهروب من دنيا الناس فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولأن الإسلام لا يضحي بمصالح العباد في الدنيا من أجل الفوز بالآخرة، ولا يعرف الخصام بين المعاش والمعاد، ولا خصاما بين الروح والجسد. بل هذا الخصام مفتعل ، وضعه القاصرون في فهم الدين ، والإسلام منه بريء(2).
إن الحياة الصحيحة للإنسان في هذه الدنيا هي اساس تكريمه وخلوده في الآخرة ، وإذا انهارت دنياه بسبب انحرافه انهارت آخرته ، قال تعالى : ومن كان في هذه الدنيا أعمي فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .(3)
وجسد الإنسان هو وسيلة في بلوغ غاياته ، فإذا وهن الجسد واعتل ، قصرالمرء في تحقيق ما يريد ، فما استطاع تعلما ولا جهادا ولا سعيا لنفع نفسه أو نفع أمته(4)
03 ـ السند الشرعي للتربية الروحية في الإسلام: عندما نقرأ القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة نجد حديثا وذكرا والإيمان، وأمراض القلوب، ودواء هذه الأمراض، ونجد كذلك ذكرلصمم القلب وعماه ، عن سلامته وسقمه ، وعن تقواه وفسوقه ، وعن النفس البشرية ، عن زكاتها وعن فجورها ، وأمثال هذه المعاني (5).
ومن ثم كانت ضرورة التربية الروحية والسير الى الله ، والبعد عن الغفلة والشرود، الى اليقظة والالتزام، ومن مرض النفس والقلب الى صحتهما، وهو علم عملي قائم بذاته يحتاجه كل مسلم ، وهناك فرق كبير بين الإيمان العقلي النظري ، وبين الإيمان الشعوري الذوقي.
ـ ومن بين النصوص الشرعية الكثيرة التي تستند اليها التربية الروحية ما يلي :
قال تعالى :{ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها}(6)
فبعد القسم و المقسم به بين الله للنفوس ما ينبغي لها أن تأتي أو تذر، من خير أو شر، من طاعة أو معصية، وبمقتضى ذلك التبيين والتمييز، فلقد فاز بالمطلوب، ونجا من المكروه من أنمى نفسه وأعلاها بتطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال، وقد خاب وخسر من دساها، أي من نقصها وأخفاها بالفجور جهلا وفسوقا(7).
قال تعالى : {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى}(8)
أي : أن من خاف قيامه بين يدي ربه عز وجل للحساب يوم الطامة الكبرى، وزجر نفسه وكفها عن الميل الى الشهوات ولم يغتر بالدنيا وزينتها ، فإنه فائز لا محالة ، وأن الجنة هي مقامه الذي سيرجع إليه(9).
ـ وأن هذه النفس في حاجة الى تربية ومجاهدة، قال تعالى : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(10)
أي من بذل جهدا خالصا لوجه الله، سيوفقه الله الى السبيل الموصل لمرضاة الله(11).
قال تعالى : {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة}(12).
وهو من باب الامتنان على أمة الإسلام من خلال وظيفة الرسول فيهم وهو يتلو عليهم آيات الله ليطهرهم من الشرك والذنوب ورذائل الأخلاق وأعمال الجاهلية، ويعلمهم القرآن والسنن والفقه في الدين(13).
والآيات في موضوع التزكية كثيرة إما تصريحا أو إشارة وتلميحا وهي تتحدث عن التحذير من قسوة القلوب، وما ينتج عن ذلك، وتحث على ما يجب أن تكون عليه الطهارة والطمأنينة، وكذلك عن علم الله بما في النفوس والتحذير من الظلم لها بالمعاصي، حتى يأخذ المسلمون منها الزاد، والجانب العملي في التربية الروحية وأخلاق الباطن لتنبع منها أخلاق الظاهر.
وكذلك أحاديث المصطفى في الموضوع ولعل في مقدمتها حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك(14).
والمحسن هو من أخذ من كل شيء أحسنه، وبقي في دائرة الحسن، لا يتجاوزها إلى القبح، ولا يحصل للمسلم ذلك إلا بمجاهدة النفس وإقبال على الله بالذكروالطاعة(15).
ثانيا : الأصول التي تقوم عليها التربية الروحية في الإسلام والجانب العملي
الناجم عنها :
إن لكل شيء أصل ينتج عنه كعلاقة الأصل بالفرع والشجرة بالثمرة والسبب بالنتيجة، والتربية الروحية لا يمكن أن تتحقق في الميدان وعمليا، إذا لم تقم على مفاهيم شرعية، صحيحة واضحة الدلالة، يقينية الثبوت، تثمر سلوكات عملية وثيقة الصلة بتلك المفاهيم.
المفاهيم في هذا المجال هي :
1 ـ حقيقة الدنيا والآخرة : فقد بين القرآن الكريم في مواضيع كثيرة أن الدنيا متاع قد يغتر بها الكثير، ويلهو ويلعب ويتفاخر بها من لا يعرف قصر عمره في هذه الدنيا، وحقيقة الدنيا من الآخرة، وعندما يستيقظ، وقد أدركته ساعة الرحيل، يتألم ويندم، ولكن لن ينفعه الندم.
قال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ، ثم يكون حطاما . وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(16).
والآية صريحة وواضحة، وهي منهج للحياة لمن تدبرها، وقد بينت ما يقع من الناس في هذه الدنيا من اللهو والتفاخر المذموم، وبينت كذلك ومن خلال مثال الغيث المنبت للعشب، القصير العمر، فكذلك الدنيا في قصر أجلها، وجزاء الناس بعد ذلك في الآخرة، عذاب شديد للتائهين في هذه الدنيا، المغترين بها، الخارجين عن الحدود التي رسمها الله، ومغفرة ورضوان من الله لمن عرف حقيقة الدنيا ولم تفتنه عن الآخرة. وأكدت الآية مرة أخرى عن حقيقة الحياة الدنيا إن هي إلا متاع الغرور.
وحذر القرآن الكريم من إيثار الحياة الدنيا عن الباقية قال تعالى : {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى} (17)، أي من أخطأ في التقدير وفضل الحياة الدنيا عن الآخرة واستسلم لشهواته، وظلم فيها، فإنه خاسر في الآخرة، وهذه الأدلة على سبيل المثال، لا الحصر، تجنبا للإطالة.
وأما أحاديث المصطفى ، فنأخذ منها : ما مَثَلُ الدنيا في الآخرة إلا ِمِثْلُ ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظرْ بما يرجع(18)، فهو حديث بالغ في التصوير والتمثيل حتى يعي الإنسان حقيقة أمر الدنيا بالنسبة للآخرة.
وقال أيضا في إظهار قصر عمر الإنسان بالنسبة لهذه الدنيا القصيرة إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها(19)
2 ـ تأثير الموت في حياة الإنسان : لم يتحدث القرآن الكريم عن شيء حديثه عن الموت واليوم الآخر والجزاء الذي ينتظره الإنسان إذ أن أكثر من ثلث القرآن الكريم هذا هو موضوعه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على القيمة العقدية والسلوكية والوجدانية للموت والحياة البرزخية واليوم الآخر في حياة المسلم، وتبدأ تلك المرحلة من الحياة في عقيدة المسلم بانقطاعه عن هذه الحياة الدنيا وانقطاع عمله ودخوله إلى الحياة البرزخية.
وما يتبع ذلك من جزاء في القبور إلى البعث إلى الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، إلى الميزان والصراط، والجزاء، فإما فوز أبدا، وإما عذاب مهين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول تعالى كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(20) وفي الآية تذكير بحتمية الموت للجميع وجزاء الجميع يوم القيامة وعن نوع الجزاء والتحذير ثانية من الاغترار بالدنيا.
3 ـ أداء الفرائض و التزود بالنوافل : و متى تم فهم الأصلين السابقين فهما صحيحا، وهما المعرفة الصحيحة بقيمة الحياة الدنيا من الآخرة ،و كذلك ما يترصد الإنسان في أي لحظة من هادم اللذات، و مفرق الجماعات،سينتقل الإنسان حتما الى الجانب العملي المأمور به،الا و هو الإلتزام الكامل بما شرعه الله أداءا واجتنابا بأداء الفرائض والتزود بالنوافل، والمسارعة الى الخيرات بروح يقظة حذرة، خوفا من التفريط، والحذر من مكائد الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وقد بين الرسول في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه،في مدارج السالكين من خلال أداء الفرائض و التزود بالنوافل : ما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش ورجله الذي يمشي بها ، وان سألني لأعطينه، ولأن إستعاذني لأعيذنه(21).
و هكذا اتضح أن الوصول الى درجة الربانيين الذين لو اقسموا على الله لا برهم، يعتمد أساسا على أداء الفرائض و التزود بالنوافل.
4-تلاوة القران الكريم : قال تعالى:{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وفي الحديث الشريف:لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار، ورجل أتاه الله المال فهو ينفق منه أناء الليل وأناء النهار}(23)، والحسد هنا بمعنى الغبطة أي لا غبطة إلا في هذين، أحدهما تلاوة القرآن، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : {من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن : ألف حرف ولام حرف وميم حرف}(24).
وتلاوة القرآن بتدبر هي مفتاح كل شيء، هي مفتاح العلم، وهي الذكر، وهي الأجر، وهي الصلة القوية بالله تعالى، وهي الحصن الحصين، وهي تزكية النفس، وهي طهارة الروح، وهي كل شيء، ألم يصل السلف الصالح إلى مدارج العلوم والرفعة بغير القرآن الكريم تلاوة وفهما وعملا ؟ بلى.
وللقرآن فضل عظيم في تطهير النفس والوجدان فهو أس التربية الروحية والمجاهدة وتزكية النفس إذ أن قراءته وتفهم معانيه تخشع له النفس وتسمو فيه الروح وتنكسر في العاطفة فتقشعر الأبدان من قراءته ، وتبكي الأعين دمعا رقراقا من فرط وجدانها، كما أنه جامع لكل الأذكار والدعوات، فهو الذي عبقت منه رائحة الجنة بأسماء الله الحسنى التي يذكر بها الذاكرون وبه تفتتح الدعوات وفيه فصلت سبل الخيرات وهو الشفيع يوم القيامة لقول النبي :أنا الشفيع المشفع لا أحد يشفع قبلي إلا القرآن، فيقول أي ربي إن كل عامل قد وفيته أجر عمله، فيقال له : أبسط يمينك فتملى من رضوان الله تعالى، ثم يكسى كسوة الكرامة، فإن كان ممن يقرأه نظرا، أعطي أجر العابدين لأن النظر في المصحف عبادة ، ويضيف الثعالبي قول الشعبي ” إذا قرأت القرآن فاقرأه قراءة تسمع أذنيك ، ويفقه قلبك ، فإن الأذن عدل بين اللسان والقلب ” .
أما فيما يخص آياته وصوره الشهيرة ففصل عبد الرحمن الثعالبي فضائلها ومزاياها وأسرارها ولآلئها ومواقيتها وهي موصولة بالذكر بل هي تفضله لأنها منزلة من الحكيم القدير، فعن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : {من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال}(25)، وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : {ألم تر آيات أنزلت لم ير مثلهن قط ، قل أعوذ برب الفلق ، قل أعوذ برب الناس}(26) .
وقد ميزت سورة البقرة على أن الشيطان يفر من الدار التي تقرأ فيها، وفيها سيدة آي القرآن وهي آية الكرسي .
وقد سميت الفاتحة بأم الكتاب وسميت بالمثاني، لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل لأنها
استثنيت لهذه الأمة، أما سورة الزلزلة فهي سورة جامعة، أما سورة الملك فهي مانعة من عذاب القبر، أما طه والطواسين والحواميم فهي من ألواح موسى.
5 ـ الذكر بين العقل والقلب : سئل مرة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي عالم سوريا الكبير أمد الله في عمره ونفع به، عن السر الذي جعل الصحابة رضي الله عنهم في أعلى درجات السمو والتطهر والرفعة الروحية، في حين أن ذلك لم يتكرر وبنفس العمق والاتساع لدى المسلمين في العصور الخوالف ؟ فكان جوابه في مقدمة كتيب صغير سماه حزب الإمام النووي هو عبارة عن أذكار كان يؤديها الإمام النووي كورد يومي، ان الفرق بين السلف في عصر الصحابة والخلف فيما بعد ذلك، أن السلف وكما وصفهم ربهم كانوا يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض وفي آيات الله وفي كل الحالات، وأن العقل عندهم كان مربوطا بالقلب بشريان من الذكر يؤديه اللسان عن فهم وتدبر، أما نحن فقد لا نذكر الله، وإن ذكرناه فهو ذكر لاه باللسان .
مع العلم أن الدكتور البوطي من المداومين على ورده في الذكر على الطريقة الصوفية النقشبندية المعروفة في سوريا.
6 ـ دور السلوك الروحي : تتوقف التربية الروحية على السلوك في التكامل الإنساني، فالإنسان العادي يسير بعيدا عن المحور، يحوم حول حمى المحيط، ممزقا بين حاجاته اليومية الدنيوية، والميل للسير نحو الخارج، لذلك ينبغي أن تعكس وجهته للداخل نحو المحور، فالسالك الصوفي يتميز بالحضور الإلهي في أفعاله وبالبركة الربانية في مصيره ، فالإنسان بين العالم المرئي المحسوس والعالم الغيبي اللامحسوس ” يختار بين خداع الحواس والمظاهر، والحقيقة التي يتذوقها أهل المعارف فقط، فإذا أنكر علماء الظاهر، مسالك التصوف فلاشك أن هؤلاء يتلقون الحجة من الواقع الماثل أمامهم، في أن البركة الإلهية تحفظ أولئك وتجعلهم يسلكون طريق التوفيق بالتأييد الرباني .
في “المثنوي ” لجلال الدين الرومي نجد أن المريد ينبغي أن يواصل الذكر في الخلوة حتى تأخذ أصابع رجليه في التسبيح لله، المقصود هو التكامل بين الروح والجسد، فهذا الإنسان يشفى من جميع أمراض النفس و حاجاتها التي تسبب لها التوتر، عن طريق التطهير الروحي الذي يحقق كفايتها، فهو يشفي من داء النفاق الذي يصيب البشر، فإذا أخذت الحجب في الانكشاف فإنه يصبح كالشمس نورها يحل في كل مكان يحل فيه، والتفكير مقترن لديه بالفعل في وحدة تامة، يبعث حوله الجمال والشذى الروحي أينما حل في كل فعل وقول وهذا له صلة بالبركة الإلهية التي تجري مع تسابيـح الكون، فبلوغ كامل الإيمان هو لباب الإسلام وأساسـه الراسخ “(27).
وفي شعر رقيق للأبي عبيدة الخواص :
سبحان من لو سجدنا بالعيون له
على شباك الشوك والمحمي من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته
ولو العشير ولاعشرا مـن العشــر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركـه
سبحانه من ملـك نافــذ القــدر
سبحان من هو أنسي إن خلوت به
في جوف ليل وفي الظلماء والسحر
أنت الحبيب وأنت الحب يا أملي
من لي سواك ومن أرجـــوه ياذخري
ثم أنشأ يقول :
كم قد زللت فلم أذكرك في زلل
وأنت ياسيدي في الغيب تذكرني
لأبكين بدمع العين من أسـف
لأبكين بكاء الآســـف الحزن
7 ـ التصوف مدرسة التربية الروحية : التصوف له أسلوب مستوفى في شفاء أمراض النفس ، وقد كتب السلمي في ذلك ، ونجح حيث فشلت أساليب حديثة في المعالجة النفسية والتحليل النفسي، فلا “فرويد” أو “آدلر” أو “لاكون” أو غيرهم ممن قرأنا كتبهم استوفوا بادعائهم معرفة أغوار الروح البشرية .
فالإنسان الذي حظيت نفسه بالتكامل والاستنارة يستطيع أن يحدد وسائل الشفاء بالنسبة لنفوس الآخرين ، وفي علم نفس التصوف ، فإن فهم الإنسان لأبعاد وجود الكون تكون ذات طبيعة نوعية ورمزية ، فسالك الطريق يعرف أن الهبوط من الأعلى إلى الأسفل مهلك، لذا ينبغي أن ترتقي النفس إلى العالم العلوي ، والغيبيات تقتضي من المريد أن يعرف بأن الموت هي مرحلة من السفر نحو صعيد آخر من الوجود وذلك تيمنا بوصية الرسول موتوا قبل أن تموتوا فالنفس أمارة بالسوء ، أما أهل الأحرف والأشكال فلا يدركون أن مسالك التصوف تطبيق لأحكام الشريعة وإلا تحول إلى زندقة ، فهو ممارسة لأحكام الشريعة، وتذوق يتم عن طريق التحقق الروحي ، فالصلاة اليومية هي أهم الوسائل في تكامل عناصر الإنسان النفسية، مع وجوده الجسدي، لذلك لابد من تزكية النفس البشرية .
يقول أبو القاسم اللجائي” هم الواقعون تحت تأثير الاستدراج، أي أنه يأخذهم قليلا قليلا وهم لا يشعرون، فمن حسن إسلام المرء ألا يعتقد أن في الناس أشر منه وإن كان عاصيا، وأنت مطيع، فإن الأمر يحدث بعد الأمر، سر الله في خلقه غامض والشقاوة السعادة خافيتان، ومقام الله على قلب الإنسان بين أصبعيه يغيره كيفما شاء، فإن كان مقام الله عز وجل أهم إليك فذلك هو المطلوب والمرغوب، وإن كان الأمر الذي عرض لك أهم إليك فهو العمى والبعد عن الله عز وجل، وإليه الإشارة في قوله عز وجل، فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى .
ويورد أبو القاسم حديث النبي يخرج من آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحكام، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من خير قول البرية “يصرفون من الدين كما يصرف السهم من الرمية يضيف : إياك أن يكون القلب خاليا من عظمة المولى عز وجل، لأن نور المعرفة يجرف حب الدنيا من القلوب ، وعظمة الله إذا دخلت في قلب أورثته الحياء والهيبة ، ومن لم يعرف مولاه ، عظمت دنياه في قلبه).
ثالثا : كيف جسد العلامة الثعالبي ذلك في كتابيه المذكورين ؟
1 ـ إن الدارس لآثار الثعالبي يجد أنها ذات صبغة روحية تربوية حتى وهو يعالج أمور الشريعة، ولا يخرج عن النصوص الشرعية من الأصلين، لاسيما الحديث النبوي الشريف، إذ في مخطوطه : الأنوار المضيئة، يورد أحاديث المصطفى في كامل أعمال المسلم على مدار اليوم من الاستيقاظ من النوم حتى عودته ثانية إلى فراشه .
2 ـ يمزج الثعالبي بين التربية الروحية كتطهير للباطن، والسلوك العملي الناجم عنها كعمل للجوارح، لاسيما في المجال الاجتماعي، إذ الأربعون حديثا التي أوردها في كتابه الأنوار المضيئة كلها ذات طابع اجتماعي في اصطناع المعروف إلى المسلمين، وقضاء حوائج المهمومين منهم والمكروبين ورفع الظلم عن المظلومين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر هذا الحديث الشريف الذي أورده الثعالبي قال : قيل يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال : أنفع الناس للناس، قال فأي العمل أفضل ؟ قال : إدخالك السرور على المؤمن، قيل وما سرور المؤمن ؟ قال : إشباع جوعته، وتفريج كربته، وقضاء دينه ومن مشى مع أخيه في حاجة قضاها أو لم يقضيها، كان كصيام شهر أو اعتكافه، ومن مشى مع مظلوم ليعينه ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام ، ومن كف غضبه ستر الله عورته، وإن الخلق السيء يعسر العمل كما يعسر الخل العسل “(29).
3 ـ الإشارة إلى بعض محتويات مخطوط الأنوار المضيئة والتي لها صلة بعنوان المحاضرة .
أ ـ باب في فضل العلم : وهو يوافق ما أسميناه في محاضرتنا حقيقة الدنيا من الآخرة .
ب ـ باب ما جاء في ذكر الموت وما بعده من الأبواب التي تتعرض لكل الحالات : من الحشر، وطول يوم القيامة والشفاعة، والحساب، والعرض، وتطاير الصحف، والميزان والصراط وصفة جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ وصفة الجنة ونعيم أهلها ، حيث ربع الكتاب المخطوط تقريبا حول هذا المحور، أي ثلاث وتسعون صفحة من مخطوط الأنوار المضيئة الذي يتكون أصلا من أربع مئة وخمس وثلاثين صفحة ، وهذا يوافق الأصل الثاني في محاضرتنا الذي أسميناه ” أثر الموت في حياة الإنسان “.
ج ـ أداء الفرائض والتزود بالنوافل والمسارعة إلى الخيرات ، ويتمثل في الأبواب التالية :
الخشوع في الصلاة وغيرها ، وذكر الأحوال الخاشعة ، ما جاء في فضل التنفل، الحرص على الطاعات والمسارعة إلى الخيرات قبل الممات، وهذا يوافق العنصر الثالث من الأصول التي تقوم عليها التربية الروحية في محاضرتنا .
د ـ تلاوة القرآن الكريم كما جاء في باب فضل القرآن .
هـ ـ الذكر بين العقل والقلب ، ويتمثل في الأبواب التالية : في فضل الذكر ، فضل الدعاء، باب جامع الدعوات وجملة من الأذكار ونماذج من الأدعية، وما جاء من التكبير .
أما من الدر الفائق فنأخذ ما جسده الثعالبي خاصة في الذكر والدعاء وقد ركز على الدعاء لأنه مخ العبادة .
1 ـ فـضـل الدعــاء : إذ يفتتح مختصره بقوله تعالى {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان} (30).
وفي الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي ، وأنا معه إذا دعاني ، فبالدعاء يستطيع المسلم أن يربي نفسه على الوصل والاتصال بالله عز وجل ، هو دليل المحبة عند أهل التصوف.
فهذه الثقة المطلقة التي تجعل المسلم يستغني عن طلب الإعانة من البشر، ويتوجه إلى السميع المجيب بقلب صاف وروح نقية ، ” فإدراك معرفة الله ليست بسمع ولا بصر ولا تقليد”(31) . ويضيف الثعالبي بالاستناد إلى حديث قدسي آخر يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته عليكم محرما ، فلا تظالموا … (32) ، فهنا ترتبط قواعد السلوك بالقدوة، فالإقتداء بالله عز وجل والسمو في حد ذاته نحو تهذيب النفس البشرية من الغلو والجور، وكان أبو ادريس يجثو على ركبتيه تعظيما لمعانيه ، وتأثرا بإشاراته.
ومن أبواب الاستجابة التي يطرقها المؤمن فتفتح له هو الدعاء في وقت الرخاء ، حيث أن الله لا يحب من ينساه وقت النعمة ويتضرع إليه وقت النقمة ، وذلك من قول النبي : من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
ما يرغب فيه المسلم بعد الدعاء هو الاستجابة من الله عز وجل، في وقت الانتظار لا ينبغي أن يخامره ريب أو شك، لأنه في الأصل امتحان الله لعبده، إذا كان مخلصا في دعائه، فهو متيقن من الاستجابة العاجلة أو المؤجلة .
إن مكانة الدعاء عند الله عظيمة وقد مجدها النبي لدرجة أنها تلتقي مع القدر، أي ما كتب في اللوح المحفوظ، فيتعالجان إلى يوم القيامة ، لذلك يتوجب على المسلم أن يرتقي إلى هذا المقام ، فهو صعب في إدراكه لأن مكانته القلب قبل اللسان ، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل وإن البلاء ليتنزل فيتلقاه الدعاء ، فيتعالجان إلى يوم القيامة ” وفي رواية أخرى يعتلجان بمعنى يتصارعان … فمن ذا الذي يتعالج قدره مع دعائه ؟ لاشك أنه من أصحاب الحظوظ ذوي القلوب السليمة، تتجلى لهم لوائح وإشارات ربانية، فهم يتمتعون بمعرفة ذوقية، بعد المعرفة السمعية، فيقتدي بالعارفين الموفقين في حضرة القدس العلي، أما من يصعب عليه ذلك فهو من يريد الترقي من أسفل إلى أعلى بغير توفيق، ويجد في المعرفة الذوقية عسرا وصعوبة، فهذا الأمر هو إحساس باطني، بمن حبب إليه الارتقاء بتوفيق ومنة منه، إنه على كل شيء قدير .
أما الاستجابة فهي نوعان : إجابة عاجلة وإجابة مؤجلة ، فالإنسان خلق من عجل، لذلك يربينا الله على الاستكانة، والرجاء في ادخارها إلى يوم الدين، وهو أدرى بنفوسنا وإنه يعجل لنا الاستجابة، في حين يفضل عباده الشاكرون مقام الصبر على الوعد في حديث الرسول : فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له، إما أن يكون عجَّل له في الدنيا، وإما أن يكون ادخرها له في الآخرة، قال فيقول المؤمن في ذلك المقام ياليته لم يكن عجل له شيئا من دعائه.
والأدعية المأثورة عن النبي التي أوردها الثعالبي تبين أن تخصيص الله سبحانه وتعالى ببعض صفاته تحبب إليه عباده، وهذه من أسرار أسماء الله الحسنى عند العارفين، ومن حديث النبي قال : أن الله جعل ملكا موكلا بمن يقول يا أرحم الراحمين، فقال الرسول : سل فقد نظر الله إليك، وقال معاذ بن جبل أن الرسول رجلا يقول : يا ذا الجلال والإكرام ” قال ” قد استجيب لك”، وقد ذكر محي الدين بن عربي أسرار الحروف وأسرار أسماء الله الحسنى والبركات النورانية التي تكتنف من يدعو بها.
وهذا ما يدحض الآراء القائلة بأن علماء الحقيقة يخالفون الشريعة والسنة المطهرة وقد ذكر اللجائي في القطب الثاني من الثلاثة، والذي اعتمد عليه الثعالبي في مصادره بأن غاية المعرفة في التهذيب والرياضة، فمن عرف تنزيه مولاه، ولم ينزه نفسه عن معاصي الله تعالى، ولم يؤثر الآخرة على الدنيا، نسبته إلى العارفين باطلة، فالعارف هو من عرف مولاه، ونزهه عما لا يليق، وانكسر قلبه بالهيبة والتعظيم والاجلال واستحيا من الله عز وجل، فلا يراه حيث نهاه، وهذا طرف من صفات العارفين، ومن ثم فكما يقول عليه السلام : الهوى حجاب العقول(33) وإذا حجبت العقول فلا سبيل إلى المعرفة، لأن المعرفة نتيجة من نتائج العقل والبصيرة نتيجة من نتائج المعرفة ومنبع العلم من العقل، فإن نسبة العلم من العقل كنسبة نور الشمس إلى الشمس، ومستقر العقل في الرأس وأعني بالرأس القلب وهو قول أبي جعفر رحمه الله تعالى لأن القلب رأس الجوارح وأميرها ( انتهى قول اللجائي).
وقد قال النووي بأن العلماء قد أجمعوا على استحباب الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه سبحانه ثم الصلاة على رسول الله ـ قال وكذلك يختم الدعاء، قال الخطابي :”وإن من الأدب أن يكون اليدان في حال رفعهما في الدعاء مكشوفتين” .
2 ـ الصلاة على النبي : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تذكرنا بفضائل النبي ومحامده التي ينكرها أصحاب العقول المغلقة والقلوب الغلف، وقد قال الله عز وجل في هذا الباب :{ إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(34).
فقد صلى عليه بنفسه أولا وأمر ملائكته بالصلاة عليه، ثم أمر المؤمنين بأن يصلوا عليه، والصلاة عليه تشّفع نبيهم فيهم كما جاء في الأثر عن سفيان الثوري رضي الله عنه وأرضاه.
إن الله عز وجل، قد هذب طريقتنا بالصلاة على النبي وذلك لإعلاء مقامه بيننا، والاحتفاء به متى وجدنا إلى ذلك سبيلا، أليس ذلك ذكر وتذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكيف لنا أن ننسى خصاله وفضائله، وفضل الثناء عليه بما هو أهل له إذا تمثلنا قصيدة البردة للبصيري ـ رحمه الله ـ التي ترقُّ معها الأحاسيس، وتوصلنا إلى مقام المحبة، فلا محبة لله دون محبة رسوله الكريم، وكذلك ما لم يصل على آله فلا صلاة له، فقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشرة، ثم قال :ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم وترة هي النقص وقيل التبعة.
إن النفس البشرية من طبعها البخل والعجب أوالتكبروهي صفات ذميمة يذكرها السلمي في أمراض النفوس، وهي نفسها أمراض القلب، فما يزكيها إلا الصلاة على النبي فقد قال الرسول:{ ما من رجل يصلي علي مائة مرة إلا غفر له } ، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم :{البخيل الذي إذا ذكرت عنده فلم يصل علي }وقال صلى الله تعالى عليه وسلم:{أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة}.
كذلك أدبنا الرسول فيما أدبه به ربه، لأن طبع النفس البشرية الاستهتار والغفلة، والسلوك هو حسن الأدب وقرينه، فنحن في هذا العالم المادي قد أصابتنا الآفات بغبرها، ونزلت بنا الملمات وابتعدنا عن الحقائق من خلال إعراضنا عن الدقائق، وقد ذكرنا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله :{ رغم أنف إمرئ ذكرت عنده فلم يصل علي}.
إن شخصية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تتميز عن البشر لكونها منزهة باكتمال، عارفة بأسرار النفس البشرية، وحاجاتها المتعددة، المادية والدنيوية والروحية الآخروية، لذلك فلم يحرم من تشفع، وصلى عليه، من خير الدنيا والآخرة،وهذه ميزة تجمعه مع الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ومن ثم قوله :من صلى علي في اليوم مائة مرة ، قضى الله له مائة حاجة سبعين منها في الآخرة وثلاثين في الدنيا.
وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : {إن الله خلق الخلق وأفاض عليه من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل وغوى}، ففي سر هذا الحديث أعطى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم جوامع الكلم، وتشتق من كل كلمة من كلامه، معاني وفوائد فهو لا ينطق عن الهوى، علمه شديد القوى، وهذه الأنوار الربانية تدرك في الحياة، وفي الدار الباقية، فعن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال :{ من صلى علي يوم الجمعة مائة مرة جاء يوم القيامة ومعه نور لو قسم ذلك النور بين الخلق كله لوسعهم}.
كثيرا ما نردد الدعاء “اللهم آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وأقمه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد”، وما ندري ما الوسيلة ؟ فقد روي عنه أنه قال للصحابة : صلوا علي فإن ذلك زكاة لكم، واسألوا لي الوسيلة، فقالوا ما الوسيلة يا رسول الله ؟ قال : أعلى درجة في الجنة لا يدخلها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو الرجل صدق رسول الله تسليما يليق بمقامه.
3 ـ فـي مجـال الذكــر : يبتدئ العلامة عبد الرحمن الثعالبي الباب الذي يسميه في: فضل الذكر والأمر به قوله سبحانه وتعالى : فاذكروني أذكركم والإمام القشيري يبدؤها بقوله عز وجل : يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا والذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، وهو العمدة في هذه الطريق ، وهو المكتمل سلوكا، ويقول ذكر الله بالقلب سيف المريدين به يقاتلون أعداءهم، وبه يدفعون الآفات التي تقصدهم.
أفضل ذكر أيضا في شعيرة من أعظم الشعائر وهي حج بيت الله الحرام وفي ركن من أركانه، وهو الوقوف بعرفة، فنجد في كتاب الله العزيز : فإذا أفضيتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم أباءكم أو أشد ذكرا(35)، وفي هذا يقول ذو النوى المصري “من ذكر الله ذكرا على الحقيقة نسى في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله تعالى عليه كل شيء، وكان له عوضا عن كل شيء”.
وفي الآية الكريمة من قوله تعالى : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا على جنوبهم(36)، فمن خصائص الذكر كما يقول صاحب الرسالة القشيرية إنه غير مؤقت، بل ما من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بأن يذكر الله تعالى، إما فرضا وإما ندبا، والصلاة وإن كانت أشرف العبادات فقد لا يجوز في بعض الأوقات والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات قال القشيري في محاورة بين العارفين الشهيرين أبي عبد الرحمن السلمي وابن علي الدقاق، هل الذكر أتم أم الفكر؟ فقال أبو عبد الرحمن عندي الذكر أتم من الفكر لأن الحق سبحانه وتعالى يوصف بالذكر ولا يوصف بالفكر وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق فاستحسنه ابو علي الدقاق(37)، قال سبحانه وتعالى : والذاكرين الله والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما(38).
فضــل الذكـــر : أورد الثعالبي، حديثا للنبي : ليردن يوم القيامة ناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبط الأنبياء مقعدهم يوم القيامة، وجوههم أضوأ من القمر ليلة البدر، على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين يخاف الناس ولا يخافون ويفزع الناس ولا يفزعون، قيل ومن هم يا رسول الله ؟ قال : أهل مجلس الذكر ثم تلا : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
سئل أبو عثمان عن طائفة من الناس فقيل له : “نحن نذكر الله تعالى ولا نجد في قلوبنا حلاوة، فقال أحمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته، وفي الخبر المشهور عن النبي وقد أورده الثعالبي أيضا عن جابر : “خرج علينا رسول الله فقال : يا أيها الناس ارتعوا في رياض الجنة قلنا يا رسول الله ما رياض الجنة ؟ قال : “مجالس الذكر” قال : اغدوا وروحوا واذكروا من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله تعالى فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه.
وفي آبيات رقيقة للشبلي حول فضائل الذكر :
ذكرتك لا أني نسيتك لمــحة
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكنت بلا وجد أموت من الهوى
وهام علي القلب بالخفقــان
فلما أراني الوجد أنك حاضــر
شهدتك موجودا بكل مكـــان
فخاطبت موجودا بغير تكلــم
ولاحظت معلوما بغير عيـــان
فالذكر على نوعين ذكر اللسان، وذكر القلب، ذكر اللسان مداومته يساعد على ذكر القلب فإذا كان العبد ذاكرا بلسانه وقلبه فهو الكامل في حاله وسلوكه، سؤل الواسطي عن الذكر فقال : “الخروج من ميدان الغفلة إلى فضائل المشاهدة على غلبة الخوف وشدة الحب، وهو سلاح المريد كما قلنا سابقا، عقوبة العارف بالله هي انقطاعه عن الذكر، كما أن الأنس بالذكر لا يمكن تذوقه إلا من وحشة الغفلة، وهذا ما يراه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ذكر الله عند أمره ونهيه خير من ذكره باللسان، والغفلة سببها النسيان، كما حرم من حرم إلا من الغفلة ولا يسعد من يسعد إلا بالذكر والحضور : فكل الحركات والسكنات مقرونة بذكر الله وذكر اسمائه ، ومزاولة الذكر عند أهل التصوف ، هو ما يجعلهم يتميزون عن غيرهم ، ولذلك قيل:
إن كنت صادقا في محبتنا فالمحب بذكر حبيبه يذوب
وكذا ذكر الله بالفعل ، الامتثال للأوامر ، واجتناب النواهي، فاذا كان الذكر لا يقع منه باللسان فالفعل يجزيه ، مثل الطهارة الكبرى التي تندرج فيها الطهارة الصغرى.
مكانـــة الذكـــر :للذكر مكانة كبيرة ومرموقة وهو أشرف العبادات ، وقد بيناه بالدليل من الكتاب والسنة، وقد بين ذلك أبو الحسن المالقي في كتابه : ” المصباح لأرباب الفلاح “بأن له اصل وفروع وشرط وبساط وخاصية ، فأصله الصفاء، وفروعه الوفاء وشرطه الحضور وبساطه العمل الصالح وخاصيته وثمرته فتح من الله المجيد ومكاشفات أسرار التوحيد.
فوائــد الذكـــر : يذكر الشيخ أبو عبد الله البلالي إن الصحبة تربية، والخلوة ترقية، والعزلة تحلية، فالعزلة عزل نفسه وما تدعو إليه والخلوة مراقبة قلبه، وما يرد عليه وانسه بدوام ذكر يثمر حب الله تعالى وهو الغاية، ومن لم يأنس بربه تعالى في خلوة موحشة أوحشه الله بوحدة قبره وقال سليمان الداراني إن في الجنة قيعانا فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فيها فربما يقف بعض الملائكة فيقال له لما وقفت ؟ فيقول : فتر صاحبي وقال الحسن تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، وقيل الذكر الخفي لا يرفعه الملك لأنه لا اطلاع له عليه فهو سر بين العبد وبين الله عز وجل.
إن من فوائد الذكر هو الاستغراق في العبادة، وحتى ترتيب الأوراد لا يكون مستعصيا على السالك والمريد، بل يصبح ورده واحدا وهو ملازمة الذكر ومداومته وهو أحسن الأمور وقد عدد الغزالي أيضا هذه المنافع ومنها الحيوية والنشاط بإتيان الأوراد، حيث يكون المسلم في كل وقت متعبدا، والاشتغال في النهار أفضل من العبادات البدنية .
أوقــات الدعــاء : لحكمة يعلمها الله عز وجل ، فقد أقر جل وعلا أوقاتا يستحب فيها الدعاء ، وقد أورد بعضها الشيخ عبد الرحمن الثعالبي ، وهي يوم عرفة يقول النبي خير الدعاء يوم عرفة ، الترمذي ، وليلة القدر، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني، ويوم الجمعة وليلتها من قوله : فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها، وعن طريق جابر “يوم الجمعة اثنى عشر ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أتاه الله إياه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر” وعن جوف الليل الآخر ووقت السحر، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول قال : ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فاستجب له ومن يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له وزاد النسائي وابن ماجة حتى يطلع الفجر وهناك أوقات أخرى لا مجال لحصرها، يستجاب فيها الدعاء وهي بنفس الدرجة من حيث البركة والرحمات، فقد أورد الثعالبي أذكارا كثيرة وأدعية، ورد كثير منها في كتابه الأول الأنوار المضيئة بين الحقيقة والشريعة وهي تتعلق بدورة الحياة اليومية.
أما الدعاء الجامع والذي يستجيب الله فيه لعبده بل يجبه على كل جملة ينطق بها من الآيات الكريمات { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } ومن يرغب في الاستزادة فليرجع لهذا الباب .
وفي آخر كتاب الدر الفائق يتعرض العلامة عبد الرحمن الثعالبي لبعض الرقائق لأهل التصوف والعلماء العارفين مثل الغنجي وابن محمد بن عتاب وابن عبد البر وابن عطية وأبي بكر بن الخطيب وأبي عبد الله القرشي ويحي بن محمد وابن السماك وابي القاسم هبة الله وغيرهم. نرجو الله التوفيق والسداد .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
_________
الهوامـــش :
(1) تربيتنا الروحية سعيد حوى ، ص : 69 ، مطبعة رحاب الجزائر
(2) هذا ديننا : محمد الغزالي، ص : 48، دار الكتب الجزائر ، ط 1988
(3) سورة الإسراء : آية : 72
(4) ديننا : محمد الغزالي ، ص : 48 ، دار الكتب الجزائر
(5) تربيتنا الروحية : سعيد حوى ، ص : 22 ، مطبعة رحاب الجزائر
(6) سورة الشمس ، الآيات : من 7 إلى 10
(7)من تفسير روح المعاني : الشيخ محمد مخلوف، ط 3 سنة 1987 ـ الكويت
(8) سورة النازعات الآيتان : 40 ـ 41
(9) تفسير صفوة البيان لمعاني القرآن للشيخ حسين محمد مخلوف ط 3 ، 1987 الكويت
(10)ورة العنكبوت الآية : 69
(11) من تفسير صفوة البيان لمعاني القرآن للشيخ حسين محمد (3) مخلوف ط 3، 1987 الكويت
(12) سورة البقرة الآية : 151
(13) صفوة البيان لمعاني القرآن
(14)واه مسلم عن عمر بن الخطاب
(15) جند الله ثقافة وأخلاقا : السعيد حوى ، ص : 209 طبعة دار الطباعة الحديثة 1977
(16) سورة الحديد الآية 20
(17) سورة النازعات ، الآيات : 37 إلى 39
(18) الحديث رواه مسلم وابن ماجة
(19) الحديث رواه ابن ماجة
(20) سورة آل عمران الآية : 185
(21) رواه البخاري عن أبي هريرة
(22) سورة الإسراء
(23) رواه البخاري
(24) رواه الترمذي
(25) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم
(26) رواه مسلم والترمذي
(27) الدكتور حسين نصر/ الصوفية بين الأمس واليوم
(28) سورة النازعات الآيات : من 37 إلى 39
(29) رواه الطبراني و العسقلاني عن ابن عمر
(30) سورة البقرة الآية : 186
(31) القول نسبه الثعالبي في كتابه الدر الفائق إلى أبي القاسم اللجائي
(32) رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري
(33) سورة الأحزاب الآية 56
(34) الرسالة القشيرية في علم التصوف دار الكتاب العربي بيروت ط : 1957، ص : 101
(35) سورة البقرة الآيتان : 198 ـ 199
(36) سورة آل عمران الآيتان : 190 ـ 191
(37) من الرسالة القشيرية، ص : 101
(38) سورة الأحزاب الآية : 35
وضع البرنامج
من اقتراح مدير التوجيه الديني والتعليم القرآني
اولا : التفسير :
رمضان يخلف : الثعالبي ومنهجه في التفسر.
ـ د/ عمالار طالبي : تفسير الثعالبي وابن عطية
ثانيا : الحديث والسيرة النبوية :
ـ د/ محمد الشريف قاهر : الثعالب والسيرة النبوية
ـ حسن موهوب : عناية العلامة عبد الرحمن الثعالبي ومنهجه في التعامل معها.
ثالثا : العقيدة والسلوك :
ـ أ/ دحمون : الثعالبي ومنهجه في عرض مسائل العقيــــدة من خلال تفسير
” جواهر الحسان “
ـ د/ عبد العزيز راس مال : التربية الروحية وحقيقة الذكر.
رابعا : التاريخ والسيرة الذاتية :
ـ أ/ صادق دهاش : دراسة تاريخية مع العلامة عبد الرحمن الثعالبي في رحلته
العلمية (9هـ /15 م )
ـ أ/ عبد الحميد بيشي : السيرة الذاتية عند عبد الرحمن الثعالبي
خامسا : الفقه والأصول :
ـ د/ محمد عيسى : التقييد على مختصر ابن الحاجب
ـ د/كمال لدرع : الفقه والاجتهاد عند عبد الرحمن الثعالبي
سادسا :
ـ أ/ محمد مشنان : تقييد الثعالي على ” جامع الأمهات في أحكام العبادات
ـ د / محمد حمداوي : الشعر عند عبد الرحمن الثعالبي
__________________ ا
لمصدر : موقع وزارة الشؤون الدينية والاوقاف في الجزائر .
http://www.marwakf-dz.org/MouhadharaQ/mouhadhara409.php