المعنى الروحي للتبرك بالأثر
درج العرف الديني على اعتبار كل ما يخص حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ومن بعد المشايخ الكاملين قدست أسرارهم هو من الآثار المباركة مهما كان بسيطاً من مسبحة أو عصا أو منديل أو قطعة قماش أو ورق أو قليل من ماء أو طعام الشيخ وحتى التراب إذا لامسه وكل شيء . فكل ما يعطيه الشيخ الكامل ( شيخ الطريقة ) هو في عرف أهل الطريقة من آثارهم المذكرة بهم ، والتي يمكن الانتفاع بها روحياً .
ولكن لحضرة السيد الشيخ السلطان الخليفة محمد الكسنزان قدس الله سره رأي آخر ، إذ يرى أن الأشياء المذكورة ليست هي آثار المشايخ على التحقيق وإنما هي أسباب يتوصل بها إلى الآثار الحقيقية للمشايخ ، وإذا جاز التعبير فإن هذه الأشياء الحسية هي كالأوعية أو الأغلفة لأثر الشيخ ، وأثر الشيخ الحقيقي أمر آخر يمكن أن يتبين من خلال التفصيل الآتي :
إن الذي عليه أهل التحقيق من أهل الطريقة أن المشايخ الكاملين قدست أسرارهم هم أخص خواص الأمة المحمدية ، وذلك لأنهم ورثوا حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم علماً وعملاً ، أخلاقاً وحالاً ، أخذوها عن طريق اللمسة الروحية ( البيعة يداً بيد ) والتي تسلسلت من شيخ إلى شيخ إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم .
وما تمنحه ( اللمسة الروحية ) للشيخ الوارث هو أنها تسمح بانتقال نور الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قلبه وروحه وذاته ، حتى تغمر وجوده ، وتنور معرفته بإشعاعاته النورانية المباركة فتوصله إلى مرتبة الذوبان في الحقيقة المحمدية والفناء فيها . وما يثمره ذلك هو أن الشيخ الحاضر يصبح مشعاً بالأنوار المحمدية ، تشع منه في كل الأنوار وفي كل الاتجاهات وفي كل حين روحياً لتنور ما يستعد لاستقبالها من ذرات الوجود ودواخل النفوس .
إن شيخ الطريقة ولفنائه في النور المحمدي ، إذا ما لمس شيئاً كأن يكون مسبحةً أو عصى أو ثوباً أو قطعة ورق أو أي شيء آخر ، فإن قبساً من نوره ينتقل بلا تجزئة ولا انفصال إلى ذلك الشيء الملموس ، فيؤثر فيه ، ويصبح مشعاً بالنور الذي انتقل إليه . وهذا القبس النوراني المنتقل من نور الشيخ إلى ذوات الأشياء هو في حقيقة الأمر ما يُطلق عليه بـ(أثر الشيخ أو آثار المشايخ) وليس الشيء بحد ذاته .
إن هذه النورانية ( نورانية الشيخ الحاضر المستمدة من النور المحمدي ) هي المؤثر في الأشـياء ، وهي البركة التي يطلبها المريد ، حيث يسري تأثيرها روحياً إلى قلبه وروحه كسراج يقتبس من سراج ، وعلى أثرها تزداد قوة المريد الروحية ، وينموا نور الإيمان المزروع في قلبه ليعم كيانه كله محققاً إياه بحديث الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم اجعل لي نوراً في قلبي ونوراً في قبري ونوراً في بصري ونوراً في شعري ونوراً في بشري ونوراً في لحمي ونوراً في دمي ونوراً من بين يدي ونوراً من خلفي ونوراً عن يميني ونوراً عن شمالي ونوراً من فوقي ونوراً من تحتي . اللهم اعطني نوراً ، اللهم اجعل لي نوراً ، اللهم عظم لي نوراً واجعلني نوراً . وبتحقق المريد بهذه الأنوار تزداد محبته واتباعه ، ويقبل بهمة عظيمة على الذكر والتضحية في سبيل إيمانه وعقيدته .
إن مثل هذه الأمور الروحية ليست بالممتنعة عقلاً أو شرعاً ، فقد ثبت علمياً أن المواد النووية أو الذرية المشعة إذا ما لامست أي شي فإنه يصبح مشعاً بها وخطراً بخطورة المادة المشعة له ، وهذه الإشعاعات قد تبقى مؤثرة لعدة قرون . فإذا كان هذا في العناصر الموجودة في الطبيعة ، فهل يمتنع ذلك على نورانية الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من فلق القمر بإشارة من إصبعه الشريف بإذن الله تعالى ؟ ! .
وعلى هذا فإن من يأخذ الأثر ليتبرك به كأن يكون تراباً من ساحة الذكر أو ماء من مكان مبارك فهو إنما يأخذه لأجل النور الذي شع عليه . وكذلك فإن من يُقبّل مقام ( ضريح ) الولي بعد انتقاله ، فهو إنما يُقبّل النور الذي يتجلى على ذلك المقام ، ولهذا يقبّل المسلمين جميعاً الجلد الذي يغلّف القرآن الكريم وقلوبهم معلقة ليس بهذا الجلد بل ببركة نور القرآن التي يراد منها الخير في الدين والدنيا .
هذا الأثر الروحي هو مقصد الناس جميعاً من التبرك بآثار الصالحين ، وهو الذي دفع الإمام الشافعي لأن يتبرك بزيارة قبر أبي حنيفة مدة إقامته بالعراق ، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه ، وكذلك جعل الإمام أحمد بن حنبل يتبرك بالشرب من ماء غسل فيه قميص الإمام الشافعي كما روى الحافظ العراقي .
ومما تقدم نستطيع تلخيص آراء حضرة الشيخ محمد الكسنزان قدس سره في المعنى الحقيقي لآثار المشايخ ، وأسباب التبرك في العبارات الآتية :
- البركة : نور حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم في الأشياء وعلى قدر تقبل الشيء لإشعاعات النور المحمدي تكون بركته .
- البركة : هي القوة الروحية ، وهي الهمة ، همة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وهمة المشايخ في درك المريد وإغاثة المحتاج روحياً .
- البركة : هي همة الذكر أي نور الذكر الذي يربط القلب بالله تعالى .
- آثار المشايخ : هي الأنوار المحمدية المنتقلة من خلال سلسلة مشايخ الطريقة إلى الشيخ الحاضر ومنه إلى أي شيء يلامسه أو ينفخ عليه أو حتى ينظر إليه إذا نوى بنظرته تلك أمراً ما وهذا النور هو المؤثر في تقوى القلوب وله التعظيم عند المتحققين .
خلود الأثر المحمدي صلى الله تعالى عليه وسلم
يرتبط مفهوم البركة في الطريقة الكسنزانية بمفهوم النورانية المستفادة من قوله تعالى : قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ فمن خلال استعراض صفات كل من المفهومين نرى تطابقاً بينهما ، فنور الله لا يطفأ لقوله سبحانه : يُرِيدُونَ ليطفئوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ أي إنه لا يزول من الدنيا ، وصفة البركة الثبات أي عدم الزوال ، كما أن صفة النور الانتشار والتمام ، وصفة البركة النماء ، ولهذا فنحن نرى أن البركة هي إحدى صفات نور الله تعالى ، ولما كان نور الله تعالى باقٍ ببقائه دائم بديموميته سبحانه لأن بركة جميع الآثار التي انتشرت عن طريق الأنبياء والأولياء والصالحين بين الناس وفي الأشياء باقية أيضاً ، لأن تلك البركة ليست إلا امتدادات روحية لنور الله تعالى الذي أنزله رحمةً للعالمين ، ولهذا فنحن نذهب إلى القول بخلود الأثر المحمدي كنتيجة ملازمة لخلود نور الله تعالى .