الطريقة الصوفية تُعرَّف – اختصاراً – بالمنهج الشرعي الإسلامي – الحاصل من اتباع شيخ كامل – الذي يوصل المسلم إلى حالة الصفاء الكاملة في العبادات والمعاملات الفرضية والنفلية مما يوصل سالكه إلى مراتب التحقيق والكمال .
فالمعروف أن تكاليف الشريعة الإسلامية جاءت تخاطب ظاهر المسلم و باطنه ، أي : جاءت بالفقه والتصوف ( فمن تفقه ولم يتصوف تفسق ومن تصوف ولم يتفقه تزندق ومن تصوف وتفقه تحقق ) على حد قول الإمام مالك . فالتصوف ضروري جداً لصفاء النفس وتوجهها إلى الإخلاص بالعبادة خصوصا في عماد الدين الصلاة والتي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها . و بناءاً على ذلك فإن أي مسلم ملزم باتخاذ وسيلة أو طريقة صوفية لغرض تصفية صلاته ، لأن الصلاة كما تبين إذا صَفت صحّت وإذا صحّت قُبلت وإذا قُبلت نهت عن الفحشاء والمنكر فتصفو نفسه وتخلص في سائر العبادات والمعاملات {وَما يُلَقّاها إِلّا الَّذينَ صَبَروا وَما يُلَقّاها إِلّا ذو حَظٍّ عَظيمٍ} ( فصلت : 35 ).
لقد عرف التأريخ الإسلامي طرقا كثيرة لتصفية وتزكية النفس والحديث الشريف يقول : {الطرائق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق }(1) ، ولكل طريقة أسلوب أو منهج شرعي خاص تنتهجه في تنقية النفوس وعلاج القلوب من أمراضها .
ولقد اقترن الدخول في أي طريقة صوفية باتباع سنة البيعة المحمدية ، فاتخذ المشايخ من أسلوب البيعات الإسلامية في العصر الأول سنداً لهم في قبول المريدين بين طلاب طرقهم أو مدارسهم الصوفية .
إن البيعة في الطريقة الصوفية تعني المعاهدة بين طرفين : المريد والشيخ ، وتنص بنود هذه المبايعة أو المعاهدة – اختصاراً – على أن يلتزم المريد بمنهج الشيخ المرشد في تطبيق الشريعة الإسلامية كاملة ، في مقابل أن ينور الشيخ للمريد الطريق ويعينه بقاله وحاله على الوصول إلى مبتغاه .
فالبيعة بهذه الصور تمثل – في لغة العصر- مستمسكات التسجيل في المدرسة الصوفية ، وكما أن كل مؤسسة أو دائرة تتميز بطريقة خاصة للتسجيل فيها ، فتطلب كل واحدة ، مستمسكات خاصة بها لتضمن الحقوق للطرفين ، فكذلك المدارس الصوفية ، فإن كل مدرسة أو طريقة صوفية قد تتميز بأسلوب أو طريقة خاصة للتسجيل فيها والدخول بين صفوف طلابها الذين يسمون بالمريدين .
ومن أساليب التسجيل في المدارس الصوفية ، أو من أنواع البيعات الصوفية المستفادة من البيعات المحمدية في الصدر الأول من الإسلام نذكر البيعات الآتية :
إلباس الخرقة :
وهي إحدى وسائل التسجيل في الطرق الصوفية أو الانتماء إلى شيخ من شيوخ التربية والإرشاد إلى الله تعالى ، وحقيقتها أن يتعهد الطالب أو المريد باتباع الشيخ وفي حال قبول الشيخ لذلك المريد يقوم بإلباسه حلة أو لباس بسيط كأن يكون عباءة أو قميص أو جبة أو شال أو عمامة أو غيرها ، فإذا أخذها المريد ولبسها فيعدّ ذلك بمثابة أخذ لمنهج الشيخ أو الطريقة أو التسجيل في مدرسته ، ويصبح ملزماً أمام الله تعالى بالوفاء واتباع الشيخ ما دام يلبس تلك الخرقة ، فإذا خلعها نكث عهده وخرج من حكم تربية شيخه وفصل من مدرسته .
وعلى سبيل المثال فإن السيد الشيخ أحمد البدوي (قدس الله سره) كان يقول لخليفته السيد عبد العال : ( اعلم أنني اخترت هذه الراية الحمراء لنفسي في حياتي وبعد مماتي وهي علامة لمن يمشي على طريقتنا من بعدي ) فقال له السيد عبد العال : فما شروط من حملها ؟ قال له : ( شروطه أن لا يكذب ولا يأتي بفاحشة وأن يكون غاض البصر عن محارم الله تعالى ، طاهر الذيل ، عفوف النفس ، خائفا من الله تعالى ، ملازم الذكر ، دائم الفكر )(2)
المرقعة :
مع مرور الزمن أصبح إلباس الثوب أو القميص المرقع هو علامة أو رمز الانتماء إلى الطريقة الصوفية على اعتباره علامة للزهد بالدنيا ولذاتها المشبوهة الفانية الزائلة .
الأثر :
واتخذت بعض الطرق إعطاء ، أي : أثر من آثار الصالحين أو الشيخ وسيلة وعلامة للتسجيل في المدرسة الصوفية كالمسبحة أو العصا أو الخاتم أو قبضة من تراب حلقة الذكر أو شربة من ماء تليت عليها بعض الآيات والأدعية المباركة ، وكان قبول الطالب لذلك الأثر واحتفاظه به يعني انتماءه لتلك الطريقة .
التلقين بالمشافهة :
واتخذت بعض الطرق أسلوب التلقين بالمشافهة وسيلة في التسجيل في مدارسها ، وخلاصتها : أن يقوم الشيخ أو وكيله بترديد آية المبايعة وبعض الأدعية الدالة على تعهد المريد بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى ، والمريد يستمع ثم يقوم المريد بإعادة ما قاله الشيخ فيكون تعهده بالطاعة لله والالتزام بمنهج الشيخ بمثابة التسجيل في مدرسته .
ولقد اتخذت بعض الطرق أو المشايخ وسائل غير هذه قريبة منها أو بعيد عنها للتسجيل في مدارسها ، وكل مدرسة أو شيخ قد استند في أسلوب التسجيل ذلك إلى أدلة شرعية صريحة أو استنباطية ضمن حدود السنة الحسنة يقول صلى الله تعالى عليه وسلم : ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) (3) ، ولولا خوف الإطالة والخروج عن منهج البحث لفصلنا أدلة كل وسيلة من وسائل التسجيل في المدارس الصوفية .
مقارنة البيعات الصوفية بالبيعات الإسلامية الخاصة
لو أجرينا مقارنة بين البيعات الإسلامية الخاصة والبيعات التي يأخذها شيوخ الطرق الصوفية على طلابهم أو مريديهم لوجدنا ما يأتي :
- البيعة الصوفية كالبيعة الإسلامية الخاصة لا علاقة لها بالسياسة أو الحكم والرئاسة .
- يبايع جميع مريدي الطرق الصوفية على إطاعة الشيخ الطاعة الكاملة في تطبيق الشريعة الإسلامية ( فقها وتصوفا ) تطبيقاً تاماً أو على قدر الاستطاعة حسب نوع المعاهدة بين الشيخ والمريد ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن شيوخ التصوف حافظوا على هذه السنة المحمدية ـ سنُة أخذ البيعة الخاصة ـ حية فعالة مؤثرة في كل عصر وذلك بصفتهم وراث الجانب الروحي في الإسلام .
ولما كانت الشيوخ تأخذ البيعة من المسلمين على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الظاهرية والباطنية فهي ـ أي البيعة ـ في الواقع لله تعالى ، ولذا وجب على المعاهد الالتزام ببنودها وعدم نقضها يقول تعالى : {وَأَوْفوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضوا الإيمان بَعْدَ تَوْكيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفيلاً} ( النحل : 91 ) ، ويقول تعالى : {وَأَوْفوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤولاً} ( الإسراء : 34 ) ، ومن هذا تكون البيعة الصوفية هي البيعة الإسلامية الخاصة .
___________________
الهوامش :
(1) – لم يرد في كتب الحديث وقد ذكره الصوفية في كتبهم .
(2) – د . سعيد عاشور – السيد أحمد البدوي شيخ وطريقة – ص 198 .
(3) – ورد بصيغة أخرى في صحيح مسلم ج: 4 ص: 2059 ، انظر فهرس الأحاديث .