عيد الدرويش
يصعب علينا أن نضع خطا ناظما بين المتصوف الذي يعتمد على الإشارات , وبين المنطق الذي يضعه العقل بما يسمى الفلسفة التي تدلل على القضايا بالبراهين ، والأدلة العقلية ، فالأول يعتمد على العاطفة أما الثاني فيعتمد على العقل ، فكلاهما لا ينفصلان عن حياة الإنسان , وتدل كل البحوث والدراسات التي طرقت هذا المجال بأن الفلسفة توصل إلى نهاية الطريق في العلوم بالاستناد إلى طرق العقل ومعاييره ، ولكنها لا تستطيع أن تجيبك عن علوم ، ومجالات أخرى في مجال التصوف وحالات الإشراق التي لايمكن الإفصاح عنها إلا بالمجاهدة ، وهي لا تخضع لمعايير محددة وطرق خاصة ، ولكنها تندرج في البحث عن الحقيقة والحياة فيها بدون آلام بدلا من الحياة مع هذه الجوارح ، وهذا ما يدفع المتصوفة ، والزاهدين ، والنساك إلى الابتعاد عن المعاصي والأخطاء وهذه الحالة لا يمكن الوصول إليها إلا بالمجاهدة والذوق ويصعب على الدارس أن يطرق هذا الجانب عندما يريد البحث فيه مستندا على الاستدلالات العقلية ، فالتصوف تجربة روحية وهذه الحالات الصوفية توجد في كل الأديان ، فالمتصوفة يبحثون في أحوال العقل الواعي وفي ماهية الوجود وفلسفته ومحور ذلك الإرادة ، وليس العقل ، فقد كثرت الدراسات حول هذا المفهوم والمصطلح وأمعن بعض الدارسين في تكوين رؤية شاملة لهذا التصوف إلا أن أغلب الدراسات لم تصل إلى دراسة جادة تضع النقاط على الحروف من أجل تفسيرها وبيان مكوناتها في حين أن السبب يعود إلى أن لكل صوفي طريقته .
وبعضهم يضرب مثلاً : ليس في استطاعة المرء أن يشكل صورة ذهنية عن رأس له شعر ، وبغير شعر في آن واحد ، ويعني ذلك أن قوانين المنطق تنطبق على عالم الخيال.
وقضايا لا يقبلها العقل وفق منطقه ودلالاته ولكنها تبقى في حرم المعقول عندما يعايشها الصوفي في حياته وسلوكه فهل يدحض مقولة المنطق عندما لا تنطبق على كل تجربة وهي بحد ذاتها مفارقة .
والمعضلة الأخرى التي تواجه الصوفي للبوح بما يشعر ، ويستبصر من معايشات تعجز اللغة عن البوح عنها ، ولا يمكن وصفها لعجز اللغة أمامه ، وعندما يتكلم الصوفي ، فهو يخضع لقواعد ودلالات اللغة ، التي لا تعبر عن الصورة الحقيقية فاللغة تجبره بألفاظها ، ومعاييرها , ولا يستطيع أن يجبرها , أو يعثر عن الحالات الوجدانية التي عايشها عند ذلك لا يستطيع نقلها إلى الآخرين ، وإن نقلها بهذه الصورة ، فتكيفهم لها خارج المنطق ، والمعقول ، وما نجده من إشارات لدى الصوفية فيما بين بعضهم بعضا هو أقرب لفهم تلك الحالات ، ولكن بصورة مختلفة , وربما بإشارات تكون حاملا لتلك الرسالة التي يراد البوح بها ، ويقف الصوفي عاجزا عن الوصف لتلك المعايشات لعدم قدرة اللغة على استيعاب ذلك ، وإن كان متبحرا في اللغة , فكيف لمن يجهل اللغة ، وقواعدها ، ونراه مجسدا هذه الأسرار , والألغاز في الأشعار الصوفية ، والأقوال ما أستطاع ذلك الصوفي أن يفصح ، أو يعبر عنها .وإن معرفة الدلائل للتصوف هي ذاتها للمسألة الفلسفية ، التي لا يمكن أن تبتعد كثيرا بما لهذين المفهومين من علاقة بعضهما ببعض ، وان كانت النسبية تشوب بعض التفاصيل لتلك التعاريف على الواقع لمبدأ من المبادئ ، أو لدين من الأديان، ولسنا أمام دين واحد ، وهذه الأديان ليس كلها من وضع واحد ، فمنها السماوي ، ومنها الوضعي ، فالأديان السماوية التي جاءت في فترات زمنية ليست بالقليلة لتعطي الإنسان مساقات محدودة في حياته ، وعبادته ، وتعامله مع الآخرين ، وان هناك عقابا وثوابا ، وهذه الديانات دخل بعضها نوع من التحريف ، والدس ، ومن أهواء ورغبات ، وميول امتزجت فيه السلطة الدنيوية ، بالأفكار الذاتية مدفوعة بالميول والدوافع ، وما بقي منها يدل على عظمة هذه الأديان ، وإن عظمة الخالق التي تجسدت في مخلوقاته هو ما كان يدفع ذلك الإنسان للتفكير في مظاهر الكون قبل نزول الديانات السماوية ، فظهر ما يسمى بالأديان الوضعية في الحضارات القديمة ، وقد تضاءل عددها اليوم ، إلا بعض الديانات القديمة الكبرى التي سادت لقرون قبل الميلاد، وكان للديانات السماوية تأثير فضلا عن تأثير كبير عليها ، هذه الديانات الوضعية مع بعضها البعض ، لقد بحثت في الروح ، والبدن ، والأخلاق ، والتقاليد ، والآلهة ، ولم تصل إلى حقائق ثابتة متسقة مع ظواهر الكون ، وهذا مما عدد الآلهة ، وما تم ترميزه من خلال التماثيل والنصب ، والمعابد ، وتنوعت العبادات بين دين وآخر ، وبين فترة ، وأخرى لنجد عبادة الشمس في ديانة ، وعبادة الظواهر الطبيعية في ديانة أخرى في جانب الأديان الوضعية كالهندوسية ، والبوذية ، والكونفوشيوسية ، والزرداشتية وغيرها.
إن تكوين الإنسان هو من المادة ، والروح ، والفلسفة تنظر إلى هذه المكونات بعين على المادة ، وبأخرى على الروح ، وإن الفلاسفة الذين جنحوا إلى المادية على حساب الروحية كانوا أقرب إلى الوجودية ، وأن الإفراط في مسألة الروحانيات أيضا تظهر في فلسفة التصوف وإذا كانت الفلسفة لها نواظم في حدود العقل ، فإن التصوف هو خارج حدود العقل , ولكنه في حرم المعقول , وما دامت الفلسفة لم تصل إلى حقيقة الروح ولن تصل , إن قوانين المنطق هي قوانين وعينا المألوف ، وتجاربنا اليومية ، فإنه لا ينبغي تطبيقها على التجربة الصوفية ، ومن السهل جدا أن نرى لماذا لا ينطبق عليها المنطق وفق قواعد المنطق الشائع ، لأنها ليست سوى قواعد لغوية ، ودلالات لفظية لقد تطرقت كل الفلسفات والأديان إلى إشكالية المادة والروح وكثرت الآراء حولها ، وأن الدنس يأتي من المادة ، والمال ، وهذا ما نجده عند اليهوديين عندما وضعوا غايتهم المادة على حساب القيم الروحية ، وظهرت عند المسيحية الرهبنة ، ومجاهدة النفس ، وبعد ظهور الإسلام ظهر التصوف ، فكان المغالاة في العبادة ، وهجر الملذات ، والميل باتجاه الروح على حساب المادة ، وان تعاليم القرآن هي الاعتدالية ، وليس العزوف عنها ، والإبراهيمية ترى أن أفعال الخطيئة ليست من المادة لأن المادة والروح مجسدة في جسد الإنسان ، فيجمعان النقيضين (الخير والشر) وأن المخطئ الأول هو آدم في كل الأديان ، فاليهودية ترى في الخطيئة في الجنس البشري ، والمسيحية تعتبر أن الإنسان جديدا قد كفـّر عن خطاياه ، والمسيح جاء ليكفـّر عن البشرية ، ومسألة الصراع بين الخير والشر صوّرتها كل الأديان ، فالصينيون كانوا يضعون على مداخل بيوتهم ديكة خشبية لتطرد الأرواح الشريرة ، والشياطين ، لأن الظلام هو موطن تلك الأرواح ، وبهذا نرى مسألة الصراع بين النور والظلام ، كما جاءت الزرادشتية تقول بأن الشر هو من صنع الشيطان ، وسينتصر اهورمازدا على الشر في نهاية العالم ، وهذا ما تذكره أكثر الأديان وترى الغلبة للخير ، أما الهندوسية فترى أن الإله فيشنو نزل من السماء تسع مرات إلى الأرض راكبا طائر الغار ودا ، وفي الانحدار العاشر ينزل راكبا جوادا أبيض ، ويحمل سيفا من لهب ليهلك الأشرار على هذه الأرض ، وما تذكره البوذية أيضا ، ويعتبر ذروة الصوفية لديهم الخلاص الأكبر هو الخلاص من المادة ، وعدم العودة لها ، وهي في البرهمية درجة النرفانا التي تصلها النفس بتحقيق السعادة ، وكل الأديان كانت تؤكد على بقاء الروح بعد الموت التي أكدتها الديانات السماوية ، وقبلها الزرادشتية بشيء من الغموض ، وحتى الديانات الوثنية كانت تدرك أن هناك عالم آخر لايمكن إدراكه ، وما نلاحظه عند دفن الأموات يضعون لهم الأمتعة ، وبعض الحاجات من الأواني ، والأطعمة ، والألبسة التي سادت في تلك المناطق التي كانت تدين بالوثنية ومروراً بالفراعنة في بلاد العرب وفي عصور مظلمة في الجاهلية .
أن الديانات الوضعية والسماوية , وبكل الصيغ المتباينة , والمفاهيم المتفاوتة , تتفق حول مسائل كثيرة منها أن هناك خالق لهذا الكون والعالم ، وهناك حياة ثانية بعد الموت , وفيه الحساب والجزاء لما أقترفه الإنسان في حياته الأولى، وتلونت هذه المعارف , وأشكال العبادات فتعددت طوائف هذه العبادات بعدد أنماط معتنقيها سواء أكانت في الديانات الوضعية ،أو في الديانات السماوية ، وما تضفي عليه البيئة والثقافة , وهذا ما أفرز إيحاءات للبعض منهم بإرساء عقائد التقمص حينا وعقائد التناسخ حينا آخر, والتي تدحضها الديانات السماوية ، وكل طرف له أتباعه ومريديه وان ما يهمنا في هذه الدراسة أن نتلمس عن الشريحة التي تتميز باتصالها بالجانب الروحي , ومنها أصحاب التصوف والزهد , والذين يتسامون عن كل فعل دنيء , وهم مغالون في العبادة ، وأداء الفرائض , ومن هنا نجد الفرق بين التدين والتصوف , فالتدين هو أداء العبادة والمناسك , بينما التصوف هو إشراق في القلب , ويأتي درجة متقدمة في العبادة , وليس الاستغناء عنها.
إن الإنسان الذي بدأ يحس بوطأة الحياة المادية المفرطة ، وحالات الفوضى على حساب القيم والمعايير الاجتماعية النبيلة ، و مجموعة الأعراف ، والروابط بين الفرد والمجتمع التي كان يتحلى بها ، وأخذته الحياة المادية المعاصرة من حيث لا يدري ، فبات فيه الإنسان إلى تحقيق روحانيته ، وفي حاجه إلى ما يرضي عقله ، ويشبع روحه ويعيد إليه ثقته بنفسه ، وطمأنينته التي بدأ يفقدها في زحمة الحياة المادية ، وما فيها من أشكال الصراع الفكري ، والعقائدي، وبهذا يحقق مع التصوف إنسانيته، فإذا كان انخراط الإنسان في الحياة المادية بشكل كامل ، وابتعاده عن الروحية سيفقده كل إنسانيته ، ويجعله ينخرط في شرائح للكائنات الأخرى ، وهذا ما يمكن تسميته بالتطرف ، و هو الأساس في كل المشاكل الإنسانية على وجه الأرض وفي المقابل هناك المغالاة كثيرا في حالات الزهد والتصوف التي قد تكون تطرفا عند ما يصبح هذا التصوف والزهد حالة تقاعس عن العمل وانخراط في عالم الروحانيات ، وهو ليس هروبا من الواقع ، ولا انزواء ، أو خلوة فحسب ، وليس زهدا ولبس الصوف فقط ، وإنما هو محاولة للإنسان للتسلح بقيم روحيه جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية ، وتحقق له التوازن النفسي حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها، وبهذا يصبح التصوف ايجابيا لا سلبيا ، ما دام يربط بين حياة الإنسان ومجتمعه ، ويوازن بين رغباته الروحية والمادية.
إن محاسبة الإنسان لنفسه باستمرار لتقويم أعماله وتغذية النفس بالفضائل يجعل حياته معتدلة , فلا يتهالك على شهواتها ، ولا ينغمس في أسبابها إلى الحد الذي ينسى فيه نفسه وربه ، فيشقى شقاء لا حد له ، والتصوف الحقيقي ينظر إلى الحياة على إنها وسيلة وليس غاية يأخذ منها كفايته , ولا يصبح خاضعا لحب المال والجاه ، ليستعلي بهما على الآخرين ، وهو بذلك يتحرر تماما من شهواته ،على أن كلمة التصوف ، وان كانت من الكلمات الشائعة التي ظهرت حديثا ولكنها قديمة في المضمون ، وفي الوقت نفسه من الكلمات الغامضة التي تتعدد مفاهيمها وتتباين أحيانا .
وهذا المصطلح كان يعتبر قاسما مشتركا في كثير من الأحيان بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة وفي عصور مختلفة ، وإننا نقول الرهبنة والغنوصية والكهنة والقديسين في الفلسفات البوذية , والهندوسية ، والزرداشتية ، هي تسميات تدل على المغالاة في تطبيق تلك المبادئ الوضعية والسماوية في كل منهما , ونرى استحالة مطابقة تجربة لتجربة أخرى بشكل كلي في ميدان التصوف , وأن ما نراه من اختلاف بين مناهج الصوفية ، ليس بغريب ، فمن الطبيعي إن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد , وأفكار , وأحداث معاصرة له ، ليتفاعل مع ما يسود بيئته وعصره من ازدهار , أو خمول وبذلك يكون سلوكه الصوفي ردة فعل لواقعه الذي يعيش فيه .
ومن الجدير بالذكر إن التجربة الصوفية هي واحدة في جوهرها ، ولكن الاختلاف بين صوفي وأخر ، راجع أساسا إلى تفسير التجربة ذاتها التي يمر بها الصوفي للوصول الى الحقيقة والكمال الروحي ، تبعا للأحوال والمقامات التي يمر بها.
والتصوف أولا وقبل كل شيء ، يمثل تجربه خاصة ، وليس شيئا مشتركا بين الناس جميعا ، ولكل صوفي طريقة خاصة في التعبير عن حالاته ، فهو بعبارة أخرى يشكل خبرة ذاتية ، وهذا يجعل من التصوف شيئا قريبا إلى الفن ، خصوصاً ، وأن أصحابه يعتمدون الأسلوب الرمزي في وصف حالاتهم .
فالتصوف الحقيقي ليس معناه هجر المال والأولاد، وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل والجوع الشديد والاعتزال في البيوت المظلمة والصمت الطويل ، وعدم التزوج، لان اتخاذ مثل ذلك نمطا للحياة يعد سلوكا سلبيا يؤدي إلى فساد التصور، واختلال التفكير الذي يترتب عليه الانطواء والبعد عن العمل الذي لا يستغني عنه أي عضو فعال في مجتمع ما ، كما يؤدي بالأمة الى الضعف والتخلي عن الدور الحضاري الذي ينتظر منها .
يتعامل الصوفي مع عصره ، من خلال تفاعله مع واقعه ، لذلك نرى الاختلاف الواضح بين تصوف وآخر وعلى العكس من ذلك ، من يمعن النظر في تاريخ الصوفية يلمس بوضوح مدى الايجابية التي جاءت بها مناهج الصوفية تبعا لبيئة الصوفي وواقعه الذي يعاصره ، وكان السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني يحث على طلب العلم وعدم الانقطاع عن الناس في الزوايا .
وكان الشيخ حارث بن أسد المحاسبي يقول: «خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم ، ولا دنياهـم عن آخرتهم ، فهم رجال الدنـيا والآخرة» .
فقد وازن التصوف بين حاجات النفس ورغباتها المشروعة في إطار التوافق بين الدنيا والآخرة ذلك التوافق الذي لا يجعل مجالا للتطرف في الزهد دونما حساب لنصيب الإنسان من الحياة الدنيا ، كما لا يدع مجالا للغرق في الشهوات الدنيوية دونما وعي بنعيم الحياة الآخرة الذي أفاض القرآن بذكره بل إن أجمل ما في الإسلام إن حق الحياة الآخرة لا يجور على حق الحياة الدنيا ، وان المسلم مأمور بالسعي والعمل والاستمتاع بما يكسبه بسعيه وعمله من نعمتها وزينـتها.
إلا أن الميزة الخاصة للتصوف تتعلق بالإنسان مع الخالق الذي يجد فيه المخلص ، والمحرك لكل شيء ، وفضول ذلك الإنسان ، ودوافعه التي تدفعه للمعرفة بما وقعت عليه حواسه ، أو لم تقع لأن كل هذه العقول ، وكل ما أنتجته لم تصل الى معرفة حقيقة ، وكلما تقدم الإنسان بعقله ، وروحه ، وقلبه ، يجد أسرارا كبيرة ، وكثيرة تحيط به في حياته في يقظته ، ومنامه ، وينظر في نفسه المفارقات التي تدفعه بين الحين ، والآخر إلى الاكتشاف ، وإن لم يحصل ذلك برر لنفسه بالجهل ، أو عدم قدرته على معرفة ذلك لقد بحث في الأرض ، وفي نفسه ، وفي السماء، وفي عقله ، وروحه ، وجسمه ، فتزداد اللهفة أكثر ، وهذه هي الأيام ، والسنون تطوى ، وتغيب الروح من الجسد فيفكر كيف نشأ وكيف مات ، وتتسق هناك معايير لمن أوتوا العلم ، وتوصلوا الى نفحات في الحب الإلهي ، وتختلف المذاهب ، والرؤى حول التسمية ، ومدى المصداقية فيها، لأن تناولها وفق معايير تختلف عن المعيار الآخر ، ولكنها تتوحد في صيغة واحدة هي السعادة الأبدية التي يبحث عنها الإنسان في حياته ، ولتبقى هاجسه الدائم في هذا المجال ، وعن علم الخلود ، فهل يتساوى من يبحث في عالم المعقول ، ومن يبحث الغيبيات ، ولكن قد يختلفون في التسمية ، وعالم التحليل الرياضي ، والفيزيائي ، وربما تصل هذه المنظومة إلى أن كل ما يدور في هذا الكون يشكل دلالة على أن هناك محرك ، وجوهر لهذا الكون وهذه هي الصيرورة التي سار عليها الإنسان منذ القديم مرورا بكل الفلسفات ، والآراء والأفكار وصولا الى ما نحن فيه، ولكن وجه الاختلاف بينها بأن كل فترة متقدمة على الأخرى لما أثرى فيه العقل البشري من هذه النظريات ، والأفكار ، وعلى أي حال منهم علماء كل في مجاله ، وهم أيضا فلاسفة ، لأنهم قدموا أشياء تضاف الى حركة الوعي الإنساني ، و هم متصوفة في بحثهم عن الحقيقة ، والابتعاد عن الملذات ، ولكنهم بدرجات متفاوتة ، ومن يعتنق الدين بشكل ، أو بأخر هم متصوفة , وإن الولوج في عالم المتصوفة ، يجعلنا أكثر دراية بالعلوم التي يعايشونها ، أو بعالمهم الروحي ، ولكن لمعرفة هذا الجانب يجب المعرفة المسبقة عن أخلاقية ، ومبادئ هذه الشريحة التي يمكن أن نطلق عليها المتصوفة في الأديان وفق نماذج ، وأشكال ، وأطياف .
والباحث لا بد له إلا أن يعرف شيئا عن التصوف ، وإن كان قد عايش هذه الحالة بنسبيتها ما دام هو يشترك مع الوجود بصفته الإنسانية ، وإذا كان ذلك في ذات المساق ، فكيف يمكن أن تضع خطا ناظميا بين المتصوف الذي يعتمد على العاطفة ، والإشارات ، وبين المنطق الذي يتبع العقل أو بما يسمى بالفلسفة ، لأن صاحب الفلسفة سيدلل على القضايا ، والبراهين ، والأدلة العقلية ، وفق منهجية المنطق , ووازع صوفي عبر عاطفته لأن العاطفة لا يمكن أن تنفصل عن الإنسان، وتدل كل البحوث التي طرقت هذا المجال بأن غاية الفلسفة إيصالك إلى نهاية الطريق في العلوم بالاستناد إلى طرق العقل ، ومعاييره ، ولكنها لا تستطيع أن تجيبك على مسائل أخرى خارج نطاق الدلائل والقواعد العقلية , ولأن هذا مجال التصوف ، وحالات الإشراق للمتصوفة التي لا يمكن الإفصاح عنها، إلا بالمجاهدة ، وتبقى حالة خاصة لا تخضع لأية معايير ، أو طرق ، ولكنها تندرج في البحث عن الحقيقة ، والحياة فيها بدلا من البحث عن الحياة مع الجوارح ، فإدارك المتصوف للحقيقة المطلقة يجعله يخلو بها بعيدا عن الآثام ، والأخطاء ، واقتراف المعاصي، فالحالة الصوفية لا يمكن الوصول إليها بالتعلم بل بحالات الذوق ، وعلى الدارس لهذا الجانب أن يبدأ البحث في الاستدلالات العقلية ضمن منظومة الفكر ، ولن يحقق الغاية التي يطمع إليها ، ولكن عندما يعايش هذه الحالة ، أو ربما ينتابه نوع من ذلك الشعور ، فإنه يستطيع أن يحقق ما يريد بقدر ولوجه في معايشة ذلك ، وهذا ما يؤكده الإمام الغزالي” بأن التصوف تجربة روحية ” وبأنه شيء مختلف تمام الاختلاف عن الفلسفة ، والعلم ،ولا يكتسب بهما ، ولا يستند إليهما إلا أننا يمكن أن نعرج، ولو بشكل بسيط على ذلك لما تقدم من القول , وربما قد يكون معرفة الحالة الصوفية عن المتصوفة لا يعرفها إلا من يخالجه هذا الشعور ، أو قد أسهب في تلك الدراسات ، أن الحالات الصوفية في كل الأديان ، وفي جوهرها تبحث عن الحقيقة المطلقة ، وإلا كيف نقرأ أشعار ابن الفارض ، وأقوال وحكم المتصوفة، التي تشترك مع الفلاسفة في ماهية الوجود وفلسفته الذين يبحثون في أحوال العقل الواعي ، والتصوف يتعدى ذلك ، وتتعلق بالعقل الباطن ، وتتعلق بالنشاط الروحي ، والاتصال بالإرادة اللامتناهية ، أو بما يسمى الفناء في الله محورها الإرادة ، وليس العقل ، وهل يستطيع الإنسان أن يعيش ،أو أن يدرك بدون ذلك العقل ، وهذا ما يذكره ابن عربي في فصوص الحكم “بأن من أراد العثور على الحكمة ، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ويكون حيوانا ناطقا حتى تكشف ما تكشفه كل دابة ماعدا الثقلين عندئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته ، وعلامته علامتان الواحدة هذا الكشف ، والعلامة الثانية الخرس بحيث أنه لو أراد النطق بما رآه لم يقدر “
________
المصدر : موقع الحور المتمدن .
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=69161