د. حسن مظفر الرزو
مدير المكتب الاستشاري العلمي – كلية الحدباء جامعة الموصل
الموقف الأول : الإلهام بين أهل المعاني وأهل الذوق
الإلهام لدى أهل اللغة : مصدر ألهم، وهو ما يلقى في الرُّوع – بضم الراء – أي القلب. يقال : ألهمه الله، واستلهم الله صبراً. قال الله تعالى في كتـابه العـزيز: فألهمها فجورها وتقواهاـ (آية 8: سورة الشمس).
وقال الزبيدي في تاج العروس : الإلهام : ما يُلقى في الروع بطريق الفيض، ويختص بما هو من جهة الله والملأ الأعلى. أما ابن منظور في لسان العرب نوعاً من الوحي فقال : الإلهام أن يلقي الله في النفس أمراً يبعثه على الفعل أو الترك، وهو نوع من الوحي، يخص الله به من يشاء من عباده.
أما أهل التصوف فقد أكثروا من الحديث عن الإلهام وكشفوا اللثام عن دلالته لكثرة اهتمامهم بما يرد على القلب من الواردات.
وقد عرفه صاحب الرسالة القشيرية بأنه خطاب يرد على الضمائر من قِبل الملَك، وسُمّي الخِطاب الوارد عليها من قبل الله تعالى وإلقائه، بخاطر الحق. أما حجة الإسلام الغزالي فقد عدّه من الأنوار التي يقذف بها الله تعالى الى قلوب أصفيائه.
الموقف الثاني : الفرق بين الإلهام وبقية الواردات القلبية
تتوارد النفحات على قلب الصوفي بالليل والنهار، فبحمل كل وارد معه خطاباً عرفانياً يختلف عن ما يترشح عن غيره. ولكي لا تلتبس المعاني الواردة على القلب، وتتضح معالم النفحات سنحاول أن نقيم برزخاً معفياً بين الإلهام من جهة وبين بقية الواردات.
الموطن الأول : الفرق بين الإلهام والفراسة :
الفِراسة بكسر الفاء : النظر والتثبّت والتأمل للشيء والبصر به. وتفرسّ فيه الشيء : توسّمه، وتفرست فيه الخير : تعرفته بالظن الصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا فراسة المؤمن).
قال ابن الأثير : ويقال بالمعنيين : أحدهما : ما دلّ ظاهر الحديث عليه، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الظن والحدْس. والثاني : نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس .
ويبدو لنا أن الفراسة نوع من الاستدلال تناط بكسب وتحصيل، أما الإلهام فهو إلقاء بالروع من مقام أعلى فهو موهبة مجرّدة لا تنال بكسب الإنسان لأنها من عطايا الرحمن.
الموطن الثاني : الفرق بين الإلهام والتحديث
التحديث هو إلقاء خطاب الى قلب العبد يخبره بأمر، فيكون كما حدّث به. ويقف الخليفة الزاهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رأس قائمة المحدّثين، بعد أن أثبت له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : “قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم”.
الموطن الثالث : الفرق بين الإلهام والكشف :
الكشف لدى أهل اللغة رفع ما يواري الشيء ويغطيه، أما لدى أهل التصوف فهو مطالعة شهودية بنور البصيرة تمحو معها كل السوى، فلا يشهد القلب إلا معروفه.
وفي هذا الموطن تدقّ العبارة، وتختلط المعاني، وتتباين الأذواق. والذي نراه أن مقام الكشف يمحق الذات بحيث يزول البرزخ، أما الإلهام فيثبت للذات هويتها. والبون شاسع بين هذين المعنيين، والله أعلم.
الموقف الثالث : البعد المعرفي للإلهام
إن ورود الواردات على قلب الصوفي لا يعفيه من التحقق عن مواردها، لأنها لا يمكن أن تعدّ قطعية إلا لدى من تمكّن من آفات النفس، وغالب النزعات الشيطانية التي تسعى الى خلط ما هو رحماني بآفة شيطانية تفسد على الصوفي ذوقه، وتلبس عليه البعد المعرفي لما يرد على قلبه في الأوقات.
ولقد وصف لنا أطباء النفوس من مشايخ الصوفية العقار الذي يزيل آفة الوهم، ويظهر حقيقة ما تلهم به القلوب عند مناجاة المحبوب.
قال أبو سليمان الداراني : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل : الكتاب والسنة.
وقال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع الله حالاً تخرجه عن حدّ العلم الشرعي فلا تقربن منه.
وقال السري : من ادّعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم، فهو غالط.
فلا يمكن أن ينال القلب معرفة من إلهام يخالف موارد الشريعة وكتاب، وإجماع الأمة. وتربية النفس، والاسترشاد بوصايا الشيخ الكامل توفر معياراً إضافياً يرقى بالإلهام،فيبعد عنه نزغات الشيطان، وحديث النفس الذي يتداخل لدى البعض فيتوهمه إلهاماً، والله أعلم بالصواب
المصدر : مشاركة من الكاتب .