أسعد الخطيب
مجاز في التاريخ عضو اتحاد المؤرخين العرب.
يحتلّ التصوف جزءاً هاماً من تراثنا العربي الإسلامي بدليل وجود عدد كبير جداً من مخطوطات علم التصوف تزخر بها مكتبات العالم ولا غرابة في ذلك فقد شاع التصوف في العصور الإسلامية على اختلافها وأصبح اتجاهاً شعبياً مشكِّلاً بذلك تياراً فكرياً غلاباً منجباً كوكبة من العلماء ممن خلّفوا آثاراً قيِّمة لا تزال تعتز بها المكتبة الإسلامية.
ومن قراءتي لما يكتبه بعض المعاصرين في هذا الميدان وجدت أن فريقاً منهم قد أصدروا أحكاماً عشوائية وعملوا على توجيه النقد غير المتبصر فزعموا أن التصوف خمول وكسل ومظهر من مظاهر الضعف فزلت بذلك أقلامهم ومن أمثلة ما كتبوا “والصوفية لم نر لهم جهاداً ولم نقرأ لهم استشهاداً”(1) وقد تزعم هذا الاتجاه معظم المستشرقين –ومع الأسف- مشى على خطاهم في إشاعة هذا المعنى بعض الباحثين العرب المحدثين فصار ذلك هو الفهم السائد لدى الكثيرين فوجدت أن تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة لهي ضرورة علمية وتاريخية حقة وضرورة قومية إنسانية.
وفي الحقيقة لست فقيهاً ولكني سأتناول الموضوع كدراسة علمية من الناحية التاريخية متوخياً الحقيقة مستنيراً في هذا الخصوص بما وقع في يديَّ من مراجع ومصادر. وعلى الرغم من أنها لا تشبع نهم الباحث فهي تزودنا ببعض الأخبار التي تسعى إلى تبديد الغيوم وإنارة الطريق.
فما هو الجهاد؟ وما موقف الصوفية منه؟
الجهاد: هو بذل الجهد في مدافعة الشر واستجلاب الخير.
والعدو الذي نجاهد قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً، والإنسان مجاهد في الحالتين وقد وصف الرسول جهاد الإنسان للعدو الظاهر بأنه الجهاد الأصغر لظهور العدو والاستعداد لمنازلته.
أما مجاهدة النفس ومحاربة الهوى فقد سماه الرسول الكريم :الجهاد الأكبر لاختفاء العدو وخداعه وطول وسوسته.
وقد استطاعت الصوفية الجمع بين الجهاد القتالي وجهاد النفس. لأن هناك ترابطاً وثيقاً بينهما فالجهاد الأكبر تهذيب النفس وتوجيهها تجاه الخير وهي بذلك تستعد لملاقاة العدو ومنازلته. أما النفوس التي انحرفت وسارت مع الهوى فإنها لا تستطيع أن تواجه العدو ولا أن تصارع المعتدين(2)، وقد كانت الظروف المحيطة دافعاً قوياً للتركيز على طريق الحق والهداية. ويوضِّح ذلك ابن خلدون عند كلامه على نشوء علم التصوف قائلاً: “وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة”(3) فقد انتشرت نزاعات ملأت تاريخ العصرين الأموي والعباسي وغرق بعضهم في ملذات الدنيا وكان لهذا الفعل رد فعل من العبَّاد والزهَّاد فسلك قسم منهم طريق الوعظ والتذكير بالحياة الأخرى واندفع القسم الآخر للمرابطة في العواصم والثغور التي وجدوا فيها راحةً لنفوسهم وتخليصاً من مشاهد تطاحن الأحزاب والفتن والتكالب على الدنيا. وقد تسنى لهم في هذه الثغور ممارسة رياضاتهم وجهادهم فأخذوا يستشعرون السعادة والرضا. وهم بذلك كما يقول: د.شوقي ضيف يصححون فكرة شاعت عن زهَّاد المسلمين وعبَّادهم أنهم كانوا سلبيين ظانين أن زهد المسلمين كان يفصلهم عن الحياة وهو ظنٌ واهمٌ فإنَّ زهَّاد المسلمين لم ينفصلوا عن الحياة بل كانوا يتصلون بها وكانوا يلبون دائماً نداء الوطن ويتقدمون الصفوف المجاهدة طلباً للاستشهاد في سبيل الله(4).
ويفرد لنا ابن الجوزي فصلاً خاصاً في كتابه (صفوة الصفوة) للزهَّاد والصوفية الأوائل الذين رابطوا في العواصم والثغور في القرن الثاني للهجرة منهم: أحمد بن عاصم الأنطاكي وكان يقال له (جاسوس القلوب) لحدة فراسته ويصفه بأنه من متقدمي مشائخ الثغور ومنهم أبو يوسف الغسولي الذي كان يغزو مع الناس بلاد الروم وهناك كثيرون أمثال أبي إسحق الفزاري وعيسى بن أبي إسحق السبيعي ويوسف بن إسباط وأبي معاوية الأسود (ت 199) هـ(5).
ومن أقران آنفي الذكر عبد الله بن المبارك (ت 181هـ) قال عنه الخطيب البغدادي “وكان من الربانيين في العلم ومن المذكورين بالزهد.. خرج من بغداد يريد المصيصة – ثغر من ثغور الروم – فصحبه الصوفية…”(6). كان ابن المبارك “كثير الانقطاع محباً للخلوة”(7). وكان لا يخرج إلا إلى حج أو جهاد وقيل له ألا تستوحش فقال: “كيف أستوحش وأنا مع النبي r وأصحابه”(8). وقد صُدرت تراجم الصوفية باسمه، وفي حلية الأولياء سُئل ابن المبارك: من الناس؟ فقال العلماء. وقيل له: مَن الملوك؟ قال الزُّهَّاد. وهو أول من صنَّف في الجهاد وله كتاب الزهد والرقائق.
ويعدّ إبراهيم بن أدهم إمام المتصوفين الروحانيين يذكره ابن عساكر بأنه كان فارساً شجاعاً ومقاتلاً باسلاً رابط في الثغور وخاض المعارك على البيزنطيين العدو الرئيسي للدولة الإسلامية الناشئة(9). وقد أثنى على ورعه وزهده الإمام أحمد بن حنبل والأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم واختلف في وفاته والأصح ما ذكره ابن كثير أنه توفي وهو مرابط في جزيرة من جزائر بحر الروم سنة (162هـ)(10) وقد صحب إبراهيم وأخذ عنه الطريق شقيق البلخي.
جاء في سير أعلام النبلاء وفي فوات الوفيات “قال حاتم: “كنا مع شقيق في مصاف نحارب الترك في يوم لا تُرى إلا رؤوس “تطير ورماح تقصف وسيوف تقطع فقال لي: كيف ترى نفسك يا حاتم في هذا اليوم؟ تُراه مثل ما كنت في الليلة التي زُفَّت إليك امرأتك؟ قال: لا والله قال: لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثل ما كنت تلك الليلة ومات في غزوة كوملان (ما وراء النهر) (عام 194هـ)(11).
ويترجم لنا صاحب شذرات الذهب عن علم آخر من أعلام الصوفية المجاهدين وهو حاتم الأصم واصفاً إياه “القدوة الرباني كان يقال له لقمان هذه الأمة توفي وهو مرابط على رأس سروَد على جبل فوق واشجرد”(12). عام 237هـ ويروي ابن العديم أنه في القرن الثالث الهجري تجمع الصوفية من كل صوب في ثغور الشام إذ وفدوا إلى هذه الثغور جهاداً في سبيل الله للوقوف في وجه البيزنطيين وأشهرهم أبو القاسم القحطبي الصوفي وأبو القاسم الأبّار وأبو القاسم الملطي الصوفي الذي صحب الجنيد(13) البغدادي.
ونقرأ في تاريخ ابن عساكر عن إبراهيم بن علي الحسين العتابي الصوري (ت 471هـ) واصفاً إياه “شيخ الصوفية بالثغر) كان ذا سمت حسن وطريقة مستقيمة”(14).
هذه بعض الأمثلة عن الرعيل الأول من الصوفية المجاهدين وإذا كان المجال لا يتسع هنا للاستكثار من الشواهد فهي موجودة في بطون أمهات الكتب العربية. وبالجملة فلم يقعد الزهد والورع الصوفية عن الجهاد في سبيل الله والتفتيش عن مرضاته والشوق إلى لقائه. وقد لخص لنا سيدي عبد الوهاب الشعراني توفي (973هـ) مبادئ الصوفية في الجهاد قائلاً: (أُخذ علينا العهد من رسول الله r إذا دخلنا ثغراً من ثغور المجاهدين أن ننوي المرابطة مدة إقامتنا ولو لم يكن هناك عدو لاحتمال أن يحدث عدو) (أُخذ علينا العهد من رسول الله r أن نكرّم الغزاة والحارسين…) (أُخِذ علينا العهد العام من رسول الله r أن نسأل ربنا أن نموت شهداء في سبيل الله لا على فرشنا فإن لم يحصل لنا مباشرة ذلك حصل لنا النية الصالحة… وحصل الأجر كاملاً).
(أُخِذ علينا العهد العام من رسول الله r إذا لم يُقسم لنا جهاد أن لا ننفر من الأمور التي تلحقنا بالشهداء في الثواب الأُخروي)(15) يصف ابن سينا الصوفي قائلاً “العارف شجاع كيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت”. “وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل”. وصفّاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر”(16).
وجدير بالذكر أنه عندما ظهر التصوف ظهرت فيه بالإضافة إلى فضيلة التقوى مجموعة من الفضائل الأخرى المستمدة من الفتوة وهي فكرة الإيثار والتضحية واعتبرها المتصوفة من أوائل مبادئهم(17) حتى قال أحدهم لا يكون الصوفي كاملاً إلا إذا تفتى ويقول أحمد أمين: “أدخل الصوفية الفتوة في مذهبهم وصبغوها بصبغتهم وحملها على الحق مهما استتبع ذلك من مكاره(18) ويجب الإشارة أن العالم الصوفي أبا عبد الرحمن السلمي (ت 412هـ) أول من ألّف كتاباً في الفتوة.
ويذكر لنا بعض المؤرخين نماذج من هذه الفتوة منها قول ابن خلّكان في ترجمة أبي القاسم القشيري (ت 465هـ) “كانت له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء”(19). ويقول صاحب شذرات الذهب في ترجمة السيد أحمد البدوي (ت 675هـ) ” ما في أولياء مصر بعد محمد بن إدريس (الشافعي) أفتى منه “(20).
ومع تضاعف نشاط الطرق الصوفية في عهد الاضطراب الذي خضع له العالم الإسلامي في العصور الوسطى تشكلت “الفتوات”. في آسيا الصغرى وفي البلاد العربية واتضح هدف هذه الفتوات بالإعلان عن الجهاد الديني المقدس على التتر الصلينبيين وأعداء الدين داخل البلاد وخارجها(21) حتى لُقِّب الصوفية فتيان الثغور. ولأن إقامتهم في هذه الثغور كانت تطول في بعض الأوقات عملوا متكاتفين على إقامة بيوتات صغيرة أشبه ما تكون بمخافر الحدود اليوم وكانت هذه نواة للربط التي انتشرت بكثرة فيما بعد للعبادة ورصد تحركات العدو. ذكر المقريزي (الرُبط: جمع رباط وهو دار يسكنها أهل طريق الله وهو بيت الصوفية ومنزلهم والمرابطة ملازمة ثغر العدو وقيل لكل ثغر يدفع أهله عمّن وراءهم رُباط. فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد”(22).
وقد لعبت الرُبط دوراً مهماً حيث برزت كمؤسسات للتربية العسكرية والدينية (فالناحية العسكرية ظهرت بسبب تواجد دول على حدود الدول المتربصة بالدول الإسلامية وتوافد غزاة المسلمين إليها من أنحاء الدولة الإسلامية يرابطون فيها فيتدربون عسكرياً ويحرسون ويشاركون في القتال وقد شبهها بعض الغربيين بالأديرة المحصنة)(23).
ولم يقتصر وجود الرُبط على البرّ فإن صاحب خطط الشام يذكر أنه كان على امتداد سواحل الشام رباطات للنيل من الأعداء إن قدموا بحراً فأهل دمشق يرابطون في بيروت وأهل حمص في طرابلس وأهل القدس في يافا فبنوا المنارات وكلفوا حرساً تراقب قدوم العدو فإذا كان الوقت ليلاً أوقدت منارة ذلك الرباط وإن كان نهاراً دخنوا وقد ثبتت منارات متسلسلة فلا يكون ساعة إلا وقد حصل النفير بين الناس استعداداً لمنازلة العدو(24). وقد أحصى لنا الأربلّي (ت 726هـ) عدد الربط في دمشق وخارجها بواحد وعشرين رباطاً آخرها أنشأها ابن القلانسي بجبل الصالحية وتم بناؤه سنة 720هـ(25).
بيد أن أشهرها رباط العالم المجاهد رسلان الدمشقي (ت 541هـ) صاحب الرسالة المعروفة في التوحيد والتصوف الذي لم يكن رباطه يقع داخل سور المدينة بل خارجها كأنه مخفر يأوي إليه حرس الحدود والذين يطوفون حول المدينة بعد إغلاقها ليلاً كي لا يكون هناك عدو مباغت وكان المريدون يترددون إلى رباطه يتعلمون فيه جميع أنواع الدراسة ويتدربون على الفنون الحربية للوقوف في وجه الصليبيين حتى لقّب الشيخ رسلان بحق (إمام السالكين وشيخ المجاهدين(26)) وحتى الآن لا يزال أهالي دمشق يرددون الأنشودة المعروفة (شيخ رسلان يا شيخ رسلان يا حامي البر والشام).
ويورد الدارسون كلام الرحالة المقدسي (أنه في أواخر القرن الرابع الهجري كان في اسبيجاب في ما وراء النهر على حافة الحرب مع الترك ألف وسبعمائة رباط بينما كان في بيكند –ثغر بين بخارى وسمر قند- ألف رباط)(27).
وإذا كان هذا العدد الضخم من الرباطات في ثغرين من ثغور الحرب فما بالنا بما كان في بقية الثغور؟
ومن جليل أعمال الصوفية وآثارهم الحسنة في الأمة الإسلامية أن الملوك والأمراء متى قصدوا الجهاد كان مشايخهم يحرضون أتباعهم للمشاركة في رد العدوان وكان هؤلاء المريدون يسارعون بذلك لعظيم اعتقادهم وانقيادهم فيكون ذلك سبباً للظفر والنصر. ففي مصر يسطر لنا الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ت656هـ) مثالاً رائعاً عن مقاومة الصوفية للغزاة وتذكر كتب التاريخ مشاركته في معركة المنصورة سنة (647هـ) وقد التف حوله أتباعه(28). ومثل هذا يذكره ابن العماد في معرض كلامه على وفيات سنة (656هـ) “وفيها الشاذلي أبو الحسن المغربي الزاهد شيخ الطائفة الشاذلية كان ضريراً اشتغل بالعلوم الشرعية ثم سلك منهاج التصوف حتى ظهر صلاحه… قدم إلى اسكندرية في المغرب وصار يلازم ثغرها من الفجر إلى المغرب”(29). ومن أبرز تلامذة الشاذلي أبو العباس المرسي قال عنه ابن تغري بردي “الإمام العارف قطب زمانه… وكان من جملة الشهود بالثغر…”(30).
وإن دور الإمام العز بن عبد السلام (ت 660هـ). في التحضير لمعركة “عين جالوت” (سنة 658هـ) معلوم للقاصي والداني فلم يمنعه تقدمه في السن من المشاركة في الاجتماعات مع السلطان وقادة الأمة وحثهم على ملاقاة التتار وفتواه في الجهاد مشهورة معروفة. ولا مجال للتردد أن العز كان صوفياً ونصوصه العديدة وكلام مترجميه قاضية بذلك. فقد حكى السيوطي أن: (سلطان العلماء) “لبس خرقة التصوف من الشهاب السهروردي”(31) (ت 632هـ).
وذكر الذهبي واليونيني وغيرهما “أنه مع شدته وصلابته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار يحضر السماع ويرقص”(32). كما للعز كرامات كثيرة منها ما حصلت له أثناء غزو الإفرنج لمصر ورواها لنا السبكي في “طبقات الشافعية”(33).
وقد تحدث رحمه الله في علوم القوم من الزهد والمحبة والجمال والجلال والفناء كما ذكر بإسهاب المعارف والأحوال والكرامات التي يختص بها الأولياء ولا يعلو مقامهم في هذه الأمور سوى الأنبياء(34). ويعتبر المجاهد العز بأن أهل التصوف هم أهل الحقيقة وفي بيان ذلك يقول: “وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدق الشرع ولا ينكر شيئاً منها إلا كافر أو فاجر”(35).
ويذكر أحمد أمين أن الشيخ محي الدين بن عربي الصوفي المشهور (ت 638هـ) أُثر عنه أنه كان خلال الحروب الصليبية يحرض المسلمين على الجهاد ومقاومة الغزاة الصليبيين(36) ومن وصاياه قوله: “وعليك بالجهاد الأكبر وهو جهاد هواك فإنك إذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قتلت فيه كنت من الشهداء الأحياء الذين عند ربهم يرزقون… واجهد أن ترمي بسهم في سبيل الله واحذر إن لم تغز أن لا تحدِّث نفسك بالغزو…”(37).
وعلى الرغم من اشتغال ابن عربي بدقائق علم التصوف فإنه لم يقطع صلته مع قوّاد الدولة الكبار ومنهم الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب حلب توفي (613هـ) الذي كان مريداً للشيخ وحصل منه على إجازة في العلم(38) وقد أثنى عليه ابن عربي في بعض كتاباته بقوله: ما رفعت إليه حاجة من حوائج الناس إلا سارع في قضائها من فوره من غير توقف كانت ما كانت(39). ويذكر ابن شداد أن فتح عكا “تم ببركة قدوم الملك غازي بما أظهره من أعمال البطولة الخارقة واستبشر والده (صلاح الدين) بغرته وعلم أن ذلك بيُمن وصلاح سريرته”(40). ويصفه المؤرخون بأنه كان مهيباً ذا سياسة وفطنة ودولته معمورة بالعلماء والفضلاء حضر معظم غزوات والده وهو الذي جمع شمل البيت الأيوبي وكان ملجأ للغرباء وكهفاً للفقراء يزور الصالحين ويتفقدهم(41).
قال عنه ابن الأثير: “أنه من خيار عباد الله”(42).
وفي الواقع فإن الظاهرة الهامة في العصر الأيوبي هي انتشار الصوفية وطغيانها وتملكها مشاعر العامة وعواطفهم حتى بدت مظهراً دينياً خالصاً. ويفسر بعضهم أن ذلك يعود إلى كثرة الحروب والفتن وإلى نشوء مذاهب دينية تحوي بعض مبادئ الفوضى والهدم هذا فضلاً عن بدء تسرب جحافل الصليبيين إلى البلاد الإسلامية فوجد العامة في التصوف الملجأ والمخلّص مما هم فيه من المحن والهموم، ولقد عظم اعتقادهم في مشايخ الصوفية وخصوصاً عندما بدأ الضعف يدب في جسم الخلافة العباسية ومن هؤلاء على سبيل المثال: علي بن الحسين الواعظ(43). فقد أشار ابن كثير عند حديثه عن حوادث سنة 549هـ إلى الدور الكبير الذي قام به هذا الصوفي في الحث على تطهير البلاد من الصليبيين وقد توافد إلى رباطه المئات وأصبح ما يشبه اليوم ثكنة عسكرية. وكذلك كانت هناك علاقة وثيقة بين حكام البيت الزنكي والأيوبي وبين رجالات التصوف واتخذوا منهم خير سند في حروبهم مع الصليبيين فكان هؤلاء يشحذون همم الناس، ويستثيرونهم للجهاد فقد شجع نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ) التصوف ورجاله عن عقيدة ورغبة حقيقية.
ذكر أبو شامة: “وكان يحضر مشايخهم عنده ويقربهم ويدنيهم ويبسطهم ويتواضع لهم فإذا أقبل أحدهم إليه يقوم له مذ تقع عينه عليه ويعتنقه ويجلسه معه على سجادته ويقبل عليه بحديثه(44). وكان يقول: “هؤلاء جند الله وبدعائهم ننتصر على الأعداء”(45). ويصف لنا ابن خلِّكان نور الدين هذا بأنه كان ملكاً عابداً زاهداً ورعاً مجاهداً في سبيل الله وقد لامه بعض أصحابه على تكريمه للصوفية فغضب غضباً شديداً وقال: “إني لا أرجو النصر إلا بأولئك… كيف أقطع صلات قوم يقاتلون بسهام لا تخطئ…”(46). والناس في الحقيقة لا يعرفون إلا اليسير عن نور الدين الرجل العظيم الذي سبق صلاح الدين ومهّد لانتصاراته على الصليبيين وجعلها ميسورة وذلك باتباع سياسة خارجية قائمة على توحيد البلاد وسياسة داخلية قائمة على التربية الروحية الخالصة. “فبنى الربط والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية ووقف عليها الوقوف الكثيرة وأدرّ عليهم الإدارات الصالحة”(47). وتذكر كتب التاريخ أنه كان متقشفاً وقد يقترض أحياناً المال جاعلاً من الجهاد وسحق الصليبيين كل مسوّغ وجوده وكما يقول أحد المستشرقين المنصفين “نذر نور الدين حياته للحرب المقدسة متفانياً فيها بحماسة الصوفي العنيدة”(48). ومما قيل في شعره:
ذو الجهادين من عدو ونفس
فهو طول الحياة في هيجاء
أنت حيناً تقاس بأسد الور
د وحيناً تعدّ في الأولياء(49)
وعندما فتح الموصل سنة 566هـ قصد الشيخ عمر الملاّ في زاويته وكان يستشيره في أموره ويعتمد عليه في مهماته وعندما غادر الموصل أمر الولاة والأمراء بها أن لا يفعلوا أمراً حتى يعلموا الملاّ به(50) وهناك حكاية يرويها لنا ابن كثير مفادها (أن أُناساً سمعوا الفرنج يقولون (إن القسّيم ابن القسّيم) يعنون نور الدين له مع الله سر فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه… وحسبه ما قاله عنه ابن الأثير لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين)(51) ولذلك لا غرابة أن نجد صاحب طبقات الحنفية وغيره يقول: إن الدعاء عند قبره مستجاب(52).
وقد سار صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) على الدرب نفسه الذي سلكه نور الدين فقبل أن يشرع بتخليص البلاد من براثن الصليبيين بقي اثنتي عشرة سنة (570-582هـ) يعمل من أجل تحقيق الوحدة وإعداد قوة الإسلام المادية والروحية فزاد من إنشاء الربط والخوانق والزوايا وجعل منها مدارس عسكرية وتربوية. يصف لنا ابن شداد “سكرتيره وقاضيه” شخصية صلاح الدين بقوله: (كان رحمه الله حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم. وقد جمع له الشيخ “أبو المعالي النيسابوري المنعوت بالقطب”(53). عقيدة سليمة في علم الظاهر والباطن وقد ورد عنه أنه خلال المعارك كان يصحب علماء الصوفية لأخذ الرأي والمشورة فضلاً على أن وجودهم يعتبر حافزاً قوياً للمريدين على القتال ببسالة وشجاعة نادرة”(54).
وقد سلك صلاح الدين طريق زهد الصوفية لدرجة أنه كما قال ابن شداد: “مات رحمه الله ولم يحفظ ما تجب عليه الزكاة… ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية وجرماً واحداً ذهباً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك”(55). “وقنع من الدنيا في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة”(56).
وإذا كان من تعريفات الصوفي هو من يستوي عنده الذهب والمدر فإننا نجد عند صلاح الدين تطبيقاً لهذه القاعدة. وإلى ذلك يشير كاتب سيرته “وسمعت في معرض حديث جرى يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب فكأنه أراد بذلك نفسه رحمه الله تعالى”(57).. ويقول المقريزي إن صلاح الدين أول من أنشأ خانقاه للصوفية بمصر ووقف عليها أوقافاً كثيرة وكان سكانها يعرفون بالعلم والصلاح وولي مشيختها الأكابر(58).
ويذكر ابن إياس في بدائع الزهور (تاريخ مصر) عند حديثه عن مناقب صلاح الدين “وهو أول من اتخذ قيام المؤذنين في أواخر الليل وطلوعهم إلى المآذن للتسبيح حتى يطلع الفجر… وكان لا يلبس إلا الثياب القطن والجبب الصوف وقد عدّه اليافعي في كتاب روض الرياحين من جملة الأولياء الثلاثمائة”(59). وخلال فتح صلاح الدين للقدس (583) أمر المسلمين بالمحافظة على كنيسة القيامة “وبنى بالقرب منها مدرسة للفقهاء الشافعية ورباطاً للصلحاء الصوفية ووقف عليهما وقوفاً وأسدى بذلك إلى الطائفتين معروفاً”(60).
ويؤكد ابن الوردي في تاريخه حضور مشايخ الصوفية فتح القدس بقوله: “وشهد فتحه كثير من أرباب الخرق والزهد والعلماء في مصر والشام بحيث لم يتخلف منهم أحد”(61).
والروايات كثيرة تؤكد زهد صلاح الدين وتقشفه في مأكله وملبسه بينما يغدق كرمه على الفقهاء والصوفية ويوقف القرى بما تملك من موارد وأرباح خدمة للزوايا ودور الفقراء(62).
وبلغ من تعظيمه للرسول r واهتمامه بمولده الشريف أنه كان يدفع للكتاب الذين يؤلفون في قصة المولد العطايا الواسعة. وجدير بالذكر أن المدائح النبوية ازدهرت في فترة الحروب الصليبية وأصبحت فناً مستقلاً بذاته فقد مدح الشعراء الرسول r وتوسلوا به إلى الله سبحانه لكشف الغمة عن أمته(63) ومما يدل على محبة صلاح الدين للصوفية قول ابن الأثير في الكامل “كان يحضر عنده الفقراء والصوفية ويعمل لهم السماعَ فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير”(64). ويحكى عنه أنه كان إذا سمع بأحد العارفين بالله زاره في زاويته ليقتبس من أنواره وقد سار إلى بغداد للقاء شيخ الطريقة القادرية علي بن الحسين المعروف “قضيب البان” الذي شجعه على قيادة جيوش الإيمان وأرسل معه عدداً من أبنائه للمشاركة في المعركة وقد استطاع أحدهم وكان ملثماً قتل أحد قادة جيوش الصليبيين وقد طلب من الفارس الملثم التقدم للمكافأة فلم يجب أحد(65).
وهذا يذكرنا بقصة الأعرابي الذي بايع الرسول على الجهاد فلما انقشع غبار المعركة أراد الرسول الكريم أن يعطيه حصته من الغنائم فقال له الأعرابي ما بايعتك على هذا يا رسول الله إنما بايعتك على أن أرمى بسهم ها هنا –وأشار إلى صدره- وأدخل الجنة. وعلى هذا الأساس ذهب بعض الدارسين إلى القول بأن الصحابة- رضوان الله عليهم- جميعهم من الزهاد الصوفية وإن لم يكن الاسم معروفاً في ذلك الوقت وأن رأس حركة التصوف الإسلامي- بمعناها السلوكي الدقيق- هو النبي r الذي تتلمذ على هدى سلوكه المأثور جميع الصوفية وجهدوا لاتخاذه القدوة النموذج(66).
وعن تورع الناصر صلاح الدين الشديد نسوق حواراً جرى بينه وبين كاتبه (العماد الأصبهاني) يقول العماد: “رأى لي يوماً دواة محلاة بالفضة فأنكرها وقال هذا حرام فقلت على سبيل المدافعة والمناظرة أو ليس يحل حلية السلاح واستصحابه في الكفاح ودوائي أنجع ومداد دوائي أنفع ويراع يراعتي القصير أطول وسلاح قلمي أحدّ وأفتك وأقتل فقال ليس هذا صالحاً. فقلت له إن الشيخ أبا محمد والد إمام الحرمين قد ذكر وجهاً في جوازه ثم لم أعد بعدها أكتب في تلك الدواة”(67).
والآن وبعد أن مضى على وفاة بطل حطين ومحرر القدس ثمانمائة عام (1193م) أوليس لنا –على الأقل- أن نقف أمام عظمته الدينية والحربية وقفة إجلال وإكبار
مرددين قول شاعر عصره:
لو كان في عصر النبي لأُنزلت
في ذكره من ذكره آياته
فعلى صلاح الدين يوسف دائماً
رضوان رب العرش بل صلواته(68)
وبعد انتقاله إلى جوار ربه قاد خلفاؤه الأيوبيون أعمال التحرير ثم جاء بعدهم المماليك وحاق بالمسلمين في عهدهم محنة أخرى هي الغزو المغولي وقضاؤهم على الخلافة العباسية في بغداد (سنة 656هـ). وقد شهد عصر المماليك اشتداد تيار التصوف ويعزو أغلب الباحثين ذلك إلى الأخطار التي ألمَّت بالعالم الإسلامي في القرن السابع الهجري على أيدي التتار في المشرق والصليبيين في المشرق والمغرب جعلت الناس يرغبون في التوبة الخالصة إلى الله والزهد في الدنيا والعودة إلى سنة السلف الصالح للخلاص من الأوضاع السيئة التي أحس فيها المسلمون(69). وليس من المغالاة القول إن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (ت676هـ) يأتي في المرتبة نفسها التي احتلها صلاح الدين ونور الدين وذلك للوقائع الهائلة والنجاحات العظمى التي حققها على التتار وبقايا الصليبيين وتوجها بالمعركة الفاصلة في التاريخ الإسلامي والعالمي (عين جالوت 658هـ) والشيء الذي نريد إلقاء الضوء عليه في هذا الجانب هو العلاقة الوطيدة التي كانت قائمة بين الظاهر يبيرس وبين شيوخ التصوف في عصره وإكرامه لهم فقد كان له فيهم اعتقاد كبير منهم: السيد أحمد البدوي (ت675هـ) يروي صاحب شذرات الذهب: “أنه بوصول السيد البدوي إلى مصر قادماً من المغرب تلقاه الظاهر بيبرس بعسكره وأكرمه وعظمه”(70) وانتسب إلى طريقته(71). ولكن الذي لعب دوراً مهماً في حياة بيبرس هو الشيخ خضر الكردي العدوي “وقد بنى له السلطان زاوية بجبل المزة خارج دمشق وكان يتردد عليها بيبرس في الأسبوع مرة أو مرتين ويستشيره في أموره ولا يخرج عما يشير به ويأخذه معه في أسفاره وأطلق يده وصرّفه في مملكته”(72). وهو الذي أخبر السلطان بأنه سوف يتسلطن وأخذ يقوي روح الجهاد لديه. ومما يدل على ملازمة الشيخ خضر للسلطان في معاركه قول الشاعر المعاصر لتلك الفترة:
ما الظاهر السلطان إلا مالك الدنـيا
بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس في
وسط السماء لكل عين تنظر
لما رأينا الخضر يقدم جيشه
أبداً علمنا أنه الاسكندر(73)
ويحدثنا ابن عبد الظاهر كاتب سيرة الظاهر بيبرس ورئيس ديوانه عن حضور الصوفية للحروب وهو شاهد عيان بقوله: “وحضر العبّاد والزهّاد والفقهاء والفقراء إلى هذه الغزاة المباركة التي ملأت الأرض بالعساكر وأصناف العالم ولم يتبعها خمر ولا شيء من الفواحش بل النساء الصالحات يسقين الماء في وسط القتال ويجررن في المجانيق وأطلق لجماعة من الصالحين الرواتب مثل الشيخ علي المجنون(74) والشيخ الياس من الأغنام والحوائج وأطلق للشيخ علي البكّاء جملة من المال وما سمع من أحد من خواصه اشتغل عن الجاهد في نوبته بشغله”(75).
ونلمس أثر التصوف واضحاً من خلال الأعمال التي قام بها بيبرس منها أنه جدد قبة الخليل عليه السلام وبنى على قبر موسى عليه السلام قبة ومسجداً ووقف عليه وقفاً وبنى على قبر أبي عبيدة –رضي الله عنه- مشهداً وجدد مشهد زين العابدين(76) ويصفه المؤرخون بأنه كان ملكاً شجاعاً مقداماً صالحاً متقشفاً هو وجيشه كما كان على جانب كبير من الديانة وأنه صاحب حال ونفس قوية. حكى ابن الفوطي أن الظاهر بيبرس قال “رأيت النبي r قبل وصولي إلى السلطنة وقد قلدني سيفاً ثم رآه قبل وفاته فقال له: أعطني الوديعة فأعاد إليه السيف فأخذه r وتوفي بعد ذلك بأيام”(77).
وأخيراً لا عجب أن نجد من ألقابه (الأسد الضاري) و (ركن الدنيا والدين) و (صاحب الوقائع الهائلة مع الصليبيين والتتار) التي امتدت من 661هـ حتى وفاته سنة 676هـ. لذلك ومما تقدم من شواهد قيمة نستنتج أننا في دراسة سبر أغوار حياة وشخصيات أمراء الزنكيين والأيوبيين والمماليك الذين دحروا الصليبيين والتتار نجد ناحية التصوف واضحة جلية لا تقبل مجالاً للشك أو الريب فقد كانوا جميعاً نسيجاً روحياً واحداً رغم تباين قبائلهم واختلاف شعوبهم ولا غرابة في ذلك فقد أصبح التصوف –كما أشرنا آنفاً- خلال العصرين الأيوبي والمملوكي يعبِّر عن الدين الخالص والتمسك الدقيق بالشريعة والحقيقة. وإذا كان لكل عظيم مكونات ومؤثرات لعبت دوراً مهماً في نجاحه فإن الفضل الأول في انتصارات نور الدين وصلاح الدين والمظفر غازي والظاهر بيبرس وابن تومرت في المغرب يرجع إلى عاملين: عامل مادي يبينه قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل (الأنفال –60) وعامل روحي هو نشوؤهم في بيئة زرعت في قلوبهم حب التصوف ورجالاته العارفين فعلموهم حقيقة الاعتقاد وفضيلة الصبر والمصابرة والتضحية بالنفس والنفيس وطلب الفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة فكانوا بذلك هم الجذور التي أنبتت أشجاراً باسقة لا تهزها ريح ولا تنال منها عاصفة ولا نزال نحن ننعم بثمار هذه الأشجار حتى الآن. ومهمة الجذور دائماً بعيدة عن الأعين لأنها لو برزت إلى السطح لضاعت منها قوتها الفاعلة والتاريخ الحق هو البحث عن الجذور وعدم الإصغاء إلى الذين يحاولون تزييف الحقيقة وإظهار التصوف بأنه ضعف وخنوع وكسل بهدف القيام بمهمة تفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها الروحي وهم يعلمون حق اليقين أن التصوف هو روح الإسلام وهو قوته النافذة الضخمة وشعلته الوضّاءة المشرقة. وجدير بالذكر أن الاهتمام بالكتابة عن التراث الإسلامي بشكل عام والتراث الصوفي بشكل خاص من قبل المستشرقين(78) ظهر في أعقاب الحروب الصليبية التي أوجدت حاجة ملحة من قبل المستعمرين للتعرف على سر انتصارات المسلمين فتوصلوا أن ذلك سببه الوحدة وأن التصوف هو الاتحاد الحقيقي الذي جمع القلوب. ولا ننكر أنه ظهر خلال العصور المتوالية بعض الأفراد والجماعات من أدعياء الطريق الصوفي تشبهوا بالقوم في الزي والهيئة وهم شينٌ عليهم كما تشبهت بالفقهاء العاملين أقوام قاصرون فكانوا بدورهم شيناً عليهم ولم تزل كل طائفة من طوائف الناس فيهم الصالحون وفيهم الفاسدون ولقد حذّر علماء التصوف قديماً وحديثاً من هؤلاء الكاذبين المنحرفين كالتاج السبكي حين قال: “إذا علمت أن خاصة الخلق هم الصوفية فاعلم أنهم قد تشبه بهم أقوام ليسوا منهم فأوجب تشبه أولاء سوء الظن”(79). وقد حكم البعض على التصوف من خلال هؤلاء الشاذين والتصوف منهم براء ويبدو أن التصوف في المغرب (في القرنين التاسع والعاشر الهجريين) كان أحسن حالاً مما كان عليه في المشرق. نفهم ذلك من خلال حديث أحد علماء صوفية المغرب وهو علي بن ميمون (ت 917هـ) الذي زار المشرق فأنكر بشدة على المتشبهين بالصوفية وكذلك المتشبهين بالفقهاء واعتبرهم سبب ضعف المسلمين وألف كتاباً مستقلاً بعنوان “بيان غربة الإسلام بواسطة صنفي المتفقهة والمتفقرة من أهل مصر والشام وما والاهما من بلاد الأعجام”(80). ونقرأ ترجمة هذا العالم المجاهد في شذرات الذهب “العارف بالله سيدي علي بن ميمون المرشد المربي القدوة الحجة ولي الله تعالى اشتغل بالعلم ولازم الثغور على السواحل وكان رأس العسكر”(81). وفي العصر الحديث يذكر الشيخ محمد عبده (ت1905م) كلاماً قريباً من ذلك فيقول: “قد اشتبه على بعض الباحثين في تاريخ الإسلام وما حدث فيه من البدع والعادات التي شوَّهت جماله السبب في سقوط المسلمين في الجهل فظنوا أن التصوف من أقوى الأسباب وليس الأمر كما ظنوا…”(82). ويعتبر الإمام والمصلح الصوفي محمد عبده الأب الروحي للثورة العرابية أثناء الغزو الإنجليزي لمصر سنة 1882م. وقد تحمَّل في سبيل ذلك السجن والنفي. ورد في الأعلام أنه (من كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام تعلَّم بالأزهر وتصوف ولمَّا احتلَّ الإنجليز مصر ناوأهم وشارك في مناصرة الثورة العرابية ثم نفي. من مؤلفاته رسالة الواردات في الفلسفة والتصوف”(83). وإذا ولّينا وجوهنا نحو المغرب نرى ظاهرة التصوف التي بدأت بالزهد كما في المشرق واضحة جداً في تأسيس دول مشهورة. فنجد أن دولة المرابطين (منتصف القرن الخامس الهجري) منشؤها رباط أقامه أحد الزهَّاد في محل ناءٍ من الصحراء وذاعت أنباء زهده وتقواه في جميع أرجاء المغرب فقصده جموع غفيرة من الناس ومنهم يوسف بن تاشفين (ت505هـ) الذي أصبح فيما بعد رئيساً لدولة المرابطين وقد كان الزهد والتقشف هما شعار الدولة وطابعها الخاص وابن تاشفين هو صاحب الموقعة المشهورة مع الإفرنج في الزلاقة (سنة 479هـ). ومما يروى أن الإمام الغزالي الفقيه والصوفي الكبير (450-505هـ) كان يعجب بورع يوسف وصفاته حتى أنه فكر في الرحيل إلى المغرب لزيارته لكنه عدل عن ذلك حينما بلغه وفاته(84). وهناك نص كامل للخطاب الذي كتبه الإمام الغزالي وأرسله إلى يوسف ابن تاشفين يحضه فيه على العدل ونصرة الدين(85). كما عثر على فتوى موجهة لحجة الإسلام بشأن ما كان عليه ملوك الطوائف من التفرق والتخاذل عن الجهاد فأجاب ما ملخصه: (أن يوسف كان على حق في إظهار شعار الإمامة للخليفة المستظهر وأن هذا هو الواجب على كل ملك استولى على قطر من أقطار المسلمين وإذا نادى الملك المشمول بشعار الخلافة العباسية وجبت طاعته على كل الرعايا والرؤساء وكل من تمرد واستعصى فحكمه حكم الباغي ومن حق الأمير أن يرده بالسيف). ودعا للالتفاف حول يوسف وعدم مخالفته ناشراً محامده “استصرخ المسلمون الأمير ناصر الدين وجامع كلمة المسلمين… فلبى دعوتهم وأسرع لنصرتهم بنفسه ورجاله وماله وجاهد بالله حق جهاده ومنحه الله تعالى استيصال شأفة المشركين…”(86). وقد خلف المرابطين الموحدون (541-668هـ) ومؤسس دولتهم هو المهدي بن تومرت وكان قد رحل إلى المشرق سنة (501هـ) في طلب العلم ويُحكى أنه لقي أبا حامد الغزالي في الشام أيام تزهده ويؤكد كثير من المؤرخين القدماء والمحدثين هذا اللقاء(78). وكما يقول صاحب المعجب. “وشهد الغزالي في ابن تومرت صفاته وشمائله وتبين فيه من العلامات والآثار ما يدل على أمره ومستقبله”(88). ثم اعتزم ابن تومرت الرحيل إلى المغرب حاملاً دعوة التوحيد ومجدداً للمفاهيم الإسلامية التي زرعها في نفسه أستاذه الغزالي وقد ذُكر أن كرامة حصلت لابن تومرت وهو في السفينة مما جعله يعظم في صدور ركابها(89). ولم يزل كذلك وأحواله صالحة وأصحابه ظاهرون وأحوال المرابطين تختل إلى أن توفي عام (524هـ) بعد أن “قرر القواعد ومهدها ورتب الأحوال ووحدها”(90). يصفه ابن خلَّكان (أنه كان ورعاً ناسكاً شجاعاً مخشوشناً لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة فقد كان قوته رغيفاً كل يوم وكان يقول: من اتبعني للدنيا فماله عندي إلا ما رأى ومن اتبعني للآخرة فجزاؤه عند الله وكان كثيراً ما ينشد:
تجرَّد من الدنيا فإنك إنما
خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد(91)
قال المراكشي فيه: “كان قد وضع له في النفوس هيبة وفي الصدر عظمة كان شديد الصمت كثير الانقباض سُخرت له الرعية وذُللت له الجبابرة”(92). وقد أسفرت حركته عن قيام دولة من أعظم الدول الإسلامية وهي الدولة الموحدية الكبرى وتحت تأثير هذه الدعوة اندفع الموحدون لمقاومة القوات الإسبانية ويذكر المؤرخون أنه لولا قيام الدولة الموحدية التي استطاعت أن توحد الصفوف وتجمع الكلمة وتكوِّن من أقطار أفريقية هذه القوة العتيدة التي حاربت في آن واحد في كلتا الجبهتين الأندلسية والأفريقية لعصفت القوات الصليبية بتلك البلاد في ذلك الحين. وقد ازدهر التصوف في عهد الموحدين ازدهاراً ملحوظاً وظهر جماعة في المغرب من كبار الصوفية أبرزهم: محي الدين بن عربي وأبو الحسن الشاذلي.وقد لقيت الحركة الصوفية الطرقية تطوراً ملموساً مع أحد مريدي الطريقة الشاذلية وهو الشيخ الجزولي (منتصف القرن العاشر الهجري). الذي نشر الطريقة في جميع أرجاء المغرب ولاقت نجاحاً واسعاً خصوصاً عندما تبنت حركة المقاومة المغربية ضد البرتغاليين المحتلين للشواطئ العربية باسم الجهاد(93). وتحول شيوخ الزوايا إلى وحدات سياسية كانت نواة لقيام دول بالمغرب على أساس صوفي كالسعديين الذين أخذوا على عاتقهم تحرير البلاد من البرتغاليين وقويت زعامة السعديين وحماسهم للجهاد بتأييد الطرق الصوفية المنتشرة بكثرة آنذاك(94). وصفوة القول فإن المجمع المغربي كان مبنياً روحياً على الظاهرة الصوفية وقد وحَّدت المجتمع وصارت هذه الظاهرة عند المغاربة قوة واحدة أمام التهديد والعدوان الخارجي. ونحاول أن نقف قليلاً عند أبي حامد الغزالي الذي أخذ عليه البعض عدم اشتراكه في قتال الصليبيين وفي الواقع يجب علينا هنا ملاحظة أمرين: الأمر الأول: أن حياة الغزالي امتازت بكونه فيلسوفاً وفقيهاً صوفياً ومصلحاً اجتماعياً ومخططاً سياسياً. والأمر الثاني: أن العصر الذي عاش فيه الغزالي كان عصر ضياع وتشرذم فيه مزيج من اختلاطات المذاهب والآراء والأفكار فأراد أن يأخذ على عاتقه عبء الإصلاح فبينما كان الصليبيون يتأهبون لمهاجمة العالم الإسلامي مستغلين فقدان الخلافة العباسية هيبتها كان الغزالي يتهيأ لمعالجة جذور المشكلة وأسباب الداء. “وقد أقامه الله حتى يكون في الناس من يحفظ به العقائد الصحيحة ويدفع شبه الملحدين والمبطلين وأجره أعظم من أجر المجاهد بكثير”(95). فاستحق عند الجميع أن يكون حجة الإسلام. ولو أنه اتجه إلى القتال لما وجدنا في تراثنا الإسلامي هذه المجموعة العظيمة من الكتب التي خلفها والتي لا تزال تعتز بها المكتبة الإسلامية. ومن المعلوم أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وقد قيض الله للصليبيين من طردهم من هذه البلاد وكما أنه ليس دور الطبيب حمل السلاح فكذلك دور العالم الفقيه حمل مشاعل النور للأجيال. قال تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. (122- التوبة) وقد ذكرنا آنفاً أنه كان أستاذاً ومرشداً لمؤسس الدولة الموحدية وله في الجانب السياسي كتاب “التبر المسبوك في نصيحة الملوك”. وما قيل عن الغزالي يُقال عن غيره من أعلام التصوف أمثال الشيخ عبد القادر الجيلاني (561هـ ) يقول شكيب أرسلان عن هذا المرشد الكبير (أن له أتباعاً لا يُحصى عددهم ووصلت طريقته إلى إسبانية فلما زالت دولة العرب في غرناطة انتقل مركز الطريقة القادرية إلى فاس وبواسطة أنوار هذه الطريقة زالت البدع بين البربر…)(96) وقد كان لخلفائه فضل كبير في المحافظة على روح الدعوة والجهاد وكثير من الذين قاوموا النفوذ الاستعماري في أفريقية كانوا من أتباع الطريقة القادرية. ومهما يكن من أمر فقد قدم علماء التصوف للمجتمع خدمات جليلة وخلفوا تراثاً زاخراً في الأدب والأخلاق. يقول الإمام محمد عبده: “أنه لم يوجد في أمة من الأمم من يضاهي الصوفية في علم الأخلاق وتربية النفوس وأنه بضعف هذه الطبقة فقدنا الدين”(97). وهناك عدد من الأحاديث النبوية الشريفة نصت على فضل العلماء على الشهداء وأن رتبة العلماء تلي رتبة الأنبياء مباشرة(98). كما جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- بأن مداد العلماء يرجح يوم القيامة على دماء الشهداء. وقد ذكر العز بن عبد السلام أن العلم المقصود به هو العلم بالله وهو علم العارفين(99). وقد ورد عن الرسول r قوله “العلم علمان…”(100) الحديث. وفي العصر الحديث: يندر أن نجد من المجاهدين من عملوا على إنقاذ الوطن من براثن الاستعمار لم يسلك الطريق الصوفي. لقد وجدوا أن من واجبهم محاربة العدوان والشر المادي كما يحاربون المآثم والشهوات لأنها كلها من فصيلة واحدة تدمر الروح الإنساني، إن الوميض المتجدد لجهاد الصوفية الحربي عاد ليظهر واضحاً من خلال الهجمة الأوربية الاستعمارية على بلدان العالم الإسلامي فسطروا بذلك أروع آيات الكفاح ويخلدهم التاريخ بين صفحاته. وسأترك للقارئ المجال فسيحاً مع الحقائق والوقائع التي لا يرقى إليها الشك ولا يخالطها ريبة فهي وحدها البيان والترجمان. ففي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قاد نضال الاحتلال في ليبيا الطريقة الصوفية السنوسية ومؤسسها محمد بن علي السنوسي (ت1859م) تلميذ أحمد بن إدريس الفاسي (ت1853م) رئيس الطريقة الخضيرية الشاذلية(101) عمل السنوسي على بناء قوة عربية إسلامية في صحراء ليبيا تقوم دعاتها على أساس الزوايا والرباطات التي لم تكن للعبادة فقط وإنما كانت مراكز نشاط وحيوية وإصلاح فكان شيخ الزاوية يربي أتباعه على ضرورة تعلم الرماية وفنون الحرب والاستعداد للجهاد في أي لحظة. وكانت منظمة تنظيماً دقيقاً ولم تجرؤ الحكومات الاستعمارية في شمال أفريقية على مسها(102) وقد تحولت هذه الزوايا جميعها عند الغزو الإيطالي لليبيا في مطلع هذا القرن إلى معاقل حقيقية للدفاع عن السيادة والكرامة تحمّل عبء النضال من خلالها السنوسيون بقيادة البطل المجاهد عمر المختار (1858-1931م) الذي جعل من زاويته الكبرى في واحة الجغبوب مقراً ومركزاً للعمليات العسكرية حتى استشهاده. وكان قد التحق بزاوية الجغبوب وعمره ستة عشر عاماً مارس داخلها العبادة ورياضاته الروحية فقد كان لا ينام من الليل إلا ساعتين أو ثلاثاً ويختم المصحف كل سبعة أيام وقد كانت فترته هناك عاملاً هاماً في تكوين شخصيته السياسية والاجتماعية وتركت آثاراً باقية في سلوكه وتفكيره وصفاته فيما بعد(103). وفي الصومال قاد السيد: محمد عبد الله حسن (ت1920م) أبرز خلفاء شيخ الطريقة الصالحية (وهي فرع من الشاذلية) بلاده من نصر إلى نصر أكثر من عشرين عاماً حارب فيها قوات أكبر ثلاث دول في القرن التاسع عشر وهي بريطانيا وإيطاليا والحبشة. ولبسالة الأعمال الحربية التي قام بها سماه بعض أنصاره بالمهدي بينما هو نفى عن نفسه أن يكون المهدي المنتظر ووصف نفسه بأنه من الدراويش(104). وقد استطاع السيد أن يجعل من رابطة الطريقة أقوى من رابطة العصبية القبلية. وتزعم حركة المقاومة في موريتانية في وجه الفرنسيين وتصدى لمطامعهم الزعيم الروحي ماء العينين (ت 1910م) الذي اعتنق الطريقة الفاضلة التي أسسها والده (وهي فرع من القادرية)(105). وفي أفريقية بوجه عام اعتنق زعماء الجهاد تعاليم الطرق الصوفية التي لا يستطيع أحد أن ينكر دورها في نشر الدين والثقافة الإسلامية وفي مقاومة كل مظاهر السيطرة والوجود الأجنبي. وهم جميعاً رفضوا الاستسلام رغم كل العروض المادية والمعنوية وبالرغم مما أصاب زعماء هذه الحركات من خسائر فقد فضلوا الاستشهاد في سبيل الله. وإذا كان زعماء بعض هذه الطرق قد عقدوا معاهدات صلح مع بعض القوى الأجنبية فذلك حتى تسترد الأنفاس وتنظم القوات وتبدأ مرحلة جديدة من النضال والكفاح(106). ومازالت شعوب غرب أفريقية الإسلامية تدين للمجاهدين من أصحاب الطرق الصوفية من أمثال الشيخ عثمان بن فودي (القادري) أوائل القرن التاسع عشر والحاج الشهيد عمر التكروتي (ت 1864م)(107) الذي حمل معه الطريقة التيجانية إلى غرب أفريقية. ولا ننسى الدور الفعال الذي قامت به الدرقاوية إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب(108). وفي الحقيقة من أبرز شخصيات المغرب البطولية شخصية البطل المراكشي الأمير عبد الكريم الخطابي (1881-1962م) الذي كان على درجة كبيرة من الشجاعة والزهد معاً وقد اعتكف عدة سنوات أخذ نفسه بالرياضة الروحية الخالصة حتى يصقل نفسه ويصفيها من شوائب الدنيا وأعراضها(109). وقد كان لهذا الاعتكاف أثره على الأمير ليبدأ بعدها مرحلة طويلة من الكفاح ضد الإسبان ولم يهزم إلا بعد أن تكاتفت عليه الجيوش الإسبانية والفرنسية وبعد أن خلّف عدداً كبيراً من المريدين حملوا بعده راية الكفاح حتى تم قطف ثمار جهادهم. وفي الجزائر لاحظ الخبراء الفرنسيون أن زعماء حركة الجهاد التي تؤلف محاربتهم انطلقت من الطرق الصوفية وخاصة المرتكزة منها حول الزوايا التي كانت منذ قرون تعتني بالجهاد عند الخطر وتعتني بالعلم والتصوف عند السلم، ومن أبرز تلك الطرق في القرن الماضي القادرية والرحمانية(110) وقد أنجبت الأولى الأمير: عبد القادر الجزائري (1807-1885م) الذي يعتبر (بلا منازع) شيخ المجاهدين في العصر الحديث فضلاً عن كونه من كبار صوفية عصره، وقد ترجم عبد الرزاق البيطار للأمير ترجمة عارف بفضله ونبله فقال: “هو الهمام الكامل العارف والإمام المتحلي بأعلى العوارف الراسخ القدم في العلم الإلهي والكاشف عن أسرار الحقائق حتى شهدها كما هي…”(111). نشأ الأمير عبد القادر في بيت علم ودين وزار في مطلع شبابه الشام مع والده آخذاً عن علمائها طريق النقشبندية ثم سار إلى بغداد ونال ممن اجتمع بهم الطريقة القادرية ثم قصد بلاد الحجاز لأداء مناسك الحج(112). وأخيراً عاد إلى بلاده ليجد الجحافل الجرارة من المستعمرين الفرنسيين وقد بدأت تداهم الجزائر فاجتمع الأشراف والعلماء وأعيان القبائل عند شجرة عظيمة(113). وهناك بايعه الجميع فذهبت البشائر في أقطار الأرض(114). حارب الأمير الفرنسيين بلا هوادة مدة سبعة وعشرين عاماً اضطر بعدها مكرهاً إلى مغادرة الجزائر وتسليم راية الجهاد طاهرة مطهرة إلى الشعب لمواصلة الجهاد في ميدان آخر له رجاله وأبطاله أيضاً واهتزت لقدومه دمشق التي اختارها لتكون مقراً له واستقبل فيها استقبال الفاتحين وقرأ على علمائها أشهر كتب التصوف كما ألّف فيها عدداً من الكتب أشهرها كتاب المواقف في الوعظ والتصوف والإرشاد(115) وكانت وفاته فاجعة في قلوب الجميع الذين ألفوه وأحبوه ثم تم نقل رفاته إلى الجزائر بعد استقلالها1962. ويشبه نضال الأمير عبد القادر للفرنسيين جهاد زعيم صوفي آخر في السودان للإنجليز وهو محمد أحمد المهدي (1843-1885) الذي حفظ القرآن منذ صغره بهرته دون أترابه في الدرس أنوار التصوف فأقبل عليها(116) وانقطع في جزيرة “عبه” في النيل الأبيض خمسة عشر عاماً وهناك بدأ ممارسة رياضاته السلوكية ليقهر جماح النفس على الصعب ليبدأ مرحلة رفع عمد الإسلام والحرب في سبيل الله ولاسيما والسودان كله يتطلع إلى الخلاص من كابوس الاحتلال الإنكليزي بقول صاحب كتاب حلية البشر “وفي سنة سبع وتسعين ظهر رجل بالسودان يسمى محمد أحمد ولم يدّع أنه المهدي… وكان قبل ظهوره مشهوراً بالصلاح ومن مشايخ الطرائق وكثر أتباعه ومريدوه فلما دخل الإنجليز حاربهم وحصل له وقائع كثيرة والغلبة في تلك الوقائع كلها له عليهم وقتل منهم خلقاً كثيراً… فتملك جميع السودان وكان أمره معهم عجيباً يأتون إليه بالعساكر الكثيرة والمدافع والآلات الشهيرة فيقابلهم بجيوشه السودانيين وليس معهم إلا السيف والرمح والسكاكين”(117) وقد تمكن الثوار بقيادة المهدي من محاصرة الخرطوم 1885م وقتل حاكم السودان الإنكليزي (غوردن). وفي هذه الآونة ظهر في مصر الزعيم أحمد عرابي (1841-1911م) الذي نشأ في بيئة صوفية. وفي ذلك يذكر عرابي عن أبيه أنه كان شيخاً جليلاً عالماً ورعاً وأن جده تزوج شقيقة السيد الرفاعي الصيادي(118) وكان لهذه النشأة أثر بعيد في تكوين خلقه وشخصيته وقد جاء في بعض الكتابات (أحمد عرابي الحسيني مسلم صوفي جاور في الأزهر عامين اتصاله وثيق مع العلماء قد التف حوله جند مؤمنون يقضون الليل في الاستماع إلى القرآن وفي حلقات الذكر)(119). وكان عرابي يعيش عيشة الزاهد المتقشف متأسياً بذلك السلف الصالح وهو القائل: “لا نجاح لأمة نبذت أحكام دينها ظهرياً، ولا فلاح لقوم استعبدوا شهواتهم”(120). وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً إلى حملة نابليون بونابرت على مصر عام(1798م) نرى البطش والإرهاب أول ما طال علماء التصوف في الأزهر الذين كانوا من طراز خاص ويستطيعون مخاطبة الجماهير وتحريكهم. وقد قتل نابليون عدداً منهم. ومن المعروف أن الذي اغتال القائد الفرنسي كليبر هو سليمان الحلبي الطالب الأزهري السوري وقبل أن يقدم على هذا العمل الكبير أخذ نفسه ببرنامج شديد بالصوم والعبادة وعندما آنس من نفسه القوة الروحية خرج من معتكفه(121) ولم يفش سره إلا إلى ثلاثة من عائلة الغزي (الفلسطينية المشهورة بالتصوف) وقد أعدم البطل الحلبي كما أعدم معه الثلاثة المذكورون. وأول من أطلق صيحة الجهاد مدوية في فلسطين على الاستعمار الإنجليزي الشيخ فرحان السعدي (المولود عام 1858م) الذي ينتمي إلى عائلة السعدية الجيباوية الصوفية ولكن سرعان ما ألقي القبض عليه مع مريديه فأعدمه الإنجليز وهو صائم(122) ويعد رائد الكفاح في فلسطين في العصر الحديث الشهيد الشيخ عز الدين القسام (1882-1935م) وقد ترجم له صاحب الأعلام الشرقية بقوله: “شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية” (123) والده الشيخ عبد القادر القسام من المشتغلين بالتصوف أرسل ابنه لمتابعة تعليمه العالي في الأزهر ثم عاد الابن للتدريس والوعظ في زاوية والده وقد امتاز منذ صغره بالميل إلى الانفراد والعزلة الأمر الذي سيؤثر في مستقبله وسيجعله أكثر قدرة على فهم ما يدور حوله من أحداث(124). وخلال الحرب العالمية الأولى كان القسام وقد وثق صلاته بمشايخ الجبل وأبرزهم المجاهد إبراهيم العلي ولما احتل الفرنسيون ساحل سورية نادى في تلامذته ومريديه بأن الجهاد أصبح واجباً وفي عام (1920م) توجه الشيخ القسام نحو فلسطين وأخذ يحث على الجهاد في جوامعها وينبه للخطر الصهيوني وقد وجد مع الشيخ بعد استشهاده دعاء كان يضعه في عمامته وكأنه يعلم الناس أن الدعاء مقرون في الإسلام بالعمل. ترك القسام للأمة عشرات من الرجال المخلصين قاموا بالدور الرئيسي في الثورة الكبرى في فلسطين عام (1936م). وينتهي بنا المطاف في سورية التي وقف علماء التصوف فيها صفاً واحداً في وجه الاستعمار الفرنسي. وإذا كان محمد عبده هو الأب الروحي للثورة العرابية في مصر فإن محدث الديار الشامية وأستاذ علماء الشام محمد بدر الدين الحسني (1851-1935م) يعتبر المفجر الحقيقي للثورة السورية الكبرى ( 1925-1927م) وأصله من المغرب من ذرية الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات ولد في دمشق من أب قادري الطريقة كان فقيهاً زاهداً عارفاً بالله يغوص على مكنونات علم التصوف بدقة وعليه قرأ شيوخ المتصوفة في دمشق(125). وصفه صاحب الأعلام أن كان “ورعاً صواماً بعيداً عن الدنيا ولما قامت الثورة على الاحتلال الفرنسي في سوريا كان الشيخ يطوف المدن السورية متنقلاً من بلدة إلى أخرى حاثاً على الجهاد وحاضاً عليه يقابل الثائرين وينصح لهم الخطط الحكيمة فكان أباً روحياً للثورة والثائرين المجاهدين”(126) وكان الشيخ محمد الأشمر والمجاهد حسن الخراط يقابلانه فجر كل يوم ويأخذان منه تعليمات الثورة(127). ونقرأ في كتب التراجم أسماء كثيرة من الصوفية العلماء المناضلين نذكر بعضهم هنا على سبيل المثال لا الحصر منهم العارف بالله محمد سعيد البرهاني شيخ الطريقة الشاذلية بدمشق (ت 1967م) الذي حارب مع الثوار في معركة ميسلون(128) ومنهم الطبيب الشيخ أبو اليسر عابدين (النقشبندي) (ت1981م) الذي كان يحمل المال والسلاح والدواء للمجاهدين ليلاً(129) ومنهم الشيخ أحمد الحارون (ت1962م)(130) والشيخ علي الدقر (ت1943م)(131) والشيخ الشهيد عز الدين الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري(132) ولا ننس المجاهدين في مدن سورية أخرى وفي طليعتهم علامة حماة في الفقه والتصوف الشيخ محمد الحامد (ت1969م)(133) الذي كان أول من دعا إلى تطهير البلاد من المستعمرين الفرنسيين وله مجموعة خطب مكتوبة تحث على الثورة وغيره كثير لا يتسع المجال لذكرهم هنا سجلوا بحروف من نور أمجاداً وبطولات لابد للأجيال أن تعيها. إن الفضل الأول في تكوين هذه الفئات يعود إلى المدرسة الروحية الخالدة التي أنجبت القواد العظماء أمثال نور الدين وصلاح الدين والظاهر بيبرس وعبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي كانوا جميعاً نماذج رائعة من التجرد والإخلاص إنهم ورثة النماذج من السلف الصالح من أمثال خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسواهم. بعد… إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة كتابة تاريخ مناضلينا بصورة دقيقة والتركيز على الناحية الروحية التي فجرّت في أبطالنا طاقات لا حدود لها. إن الاستعمار الغربي في بلاد المسلمين لم يحدث من الخراب في الأرض وفي الأجسام ما أحدثه في القلوب والأرواح والأفهام فقد أصبح المسلمون بما تسرب إلى بواطنهم يجهلون أنفسهم ولا يعرفون من حقيقة أمرهم شيئاً. وقد تبين لنا من سرد ما تقدم كيف عَمد بعض الدعاة إلى تشويه ناحية مهمة في ميدان التصوف فيما يعسر فهم ذلك على غير المطلع المتضلع في دراسة هذا العلم والإحاطة به. إن فهم التصوف اليوم يتطلب الرجوع إلى المصادر الأساسية بعيداً عن المؤلفات التي طالعنا بها العصر الحديث فجاء أغلبها استشراقاً(124) بعيداً عن الواقع والحقيقة إذ ليس التصوف خمولاً ولا انهزاماً كما ادّعوا وليس التصوف تواكلاً وهواناً كما زعموا إن التصوف قوة وبأس ونضال ونفس ملهمة عاملة إنه تصعيد بالحياة إلى أعلى وارتفاع بالقيم الإنسانية إلى ما هو أرفع وأسمى. ومهما يكن من أمر فإن التصوف جزء من الأجزاء التي تألف منها تراثنا خضع كما خضع غيره من مظاهر الحياة الإسلامية لعوامل النشوء والارتقاء ولمقتضيات التراجع والانحطاط على أن هذا لا يعني أن الحياة الروحية الإسلامية لم تعدم بعض النفوس الصافية والقلوب الطاهرة التي كانت وما تزال تظهر من حين إلى حين. وأخيراً فإن هذا البحث يفتح آفاقاً جديدة ويحتاج إلى دراسة واسعة لأن مثل هذه الدراسة لن تعمق فهمنا واحترامنا للتراث بإضفائها روحاً جديدة عليه فحسب ولكنها سوف تعمق وعينا بأنفسنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وهذا أمر بالغ الأهمية في هذه المرحلة من تاريخنا. وأرجو أن أكون قد وفقت ولو قليلاً في إلقاء الضوء على هذا الجانب من التصوف. وآمل أن أتمكن أو يتمكن غيري أن يسير في هذا البحث مرحلة جديدة إلى الأمام.
________
الهوامش:
(1)مجلة المعرفة، العدد (328)ك 2-1991: مقال مطول بعنوان “الصوفية بين ترك الجهاد ووهم المجاهدة”.
(2)الجهاد في التفكير الإسلامي، د.أحمد شلبي. (سلسلة دراسات في الحضارة الإسلامية) القاهرة 1968 ص10. وحديث الرسول r: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” رواه الديلمي عن جابر (رض). راجع كشف الخفاء للعجلوني ج1 ص424.
(3)مقدمة ابن خلدون. دار إحياء التراث العربي، ط4، ص467.
(4)تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) د.شوقي ضيف. مصر، دار المعارف 1972، ص403.
(5)صفوة الصفوة، ابن الجوزي. ت محمود فاخوري. بيروت 1985، دار المعارف ط(3) ج(4)، ص255 وتوابعها.
(6)تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي. دمشق دار الفكر. ج10، ص157 د.ت.
(7)وفيات الأعيان، ابن خلكان. ت إحسان عباس. بيروت 1977 ج(3) ص32.
(8)تاريخ بغداد، ص 154. (9)انظر مقال إبراهيم بن أدهم. مجلة التراث العربي. العددان 11- 12 عام 1983.
(10)البداية والنهاية، ابن كثير. بيروت 1966. دار المعارف. ط(1) ج(10) ص44.
(11)انظر سير أعلام النبلاء، الذهبي. بيروت 1986 مؤسسة الرسالة ط(4) ج(16) ص313. وانظر أيضاً فوات الوفيات، ابن شاكر الكتبي. ت إحسان عباس. بيروت دار صادر. ج(2) ص764.
(12)شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي. بيروت دار المسيرة ج(8) ص87. وانظر سير أعلام النبلاء ج(11) ص484.
(13)بغية الطلب في تاريخ حلب، ابن العديم. ت سهيل زكار. دمشق 1988 ط(1) ج(10) ص4591. وانظر الحياة السياسية وأهم مظاهر الحضارة في بلاد الشام. د.أمينة بيطار. دمشق وزارة الثقافة. ص380.
(14)التاريخ الكبير، ابن عساكر. دمشق 1303هـ، مطبعة روضة الشام المجلد(2) ص167. وقد لقب بالصوري نسبة إلى مدينته الساحلية اللبنانية صور.
(15)لواقح الأنوار القدسية، عبد الوهاب الشعراني. حلب دار القلم العربي 1991 ط(1) ص146 وتواليها.
(16)التصوف عند ابن سينا، د.عبد الحليم محمود. القاهرة مكتبة دار العروبة ص45 د.ت.
(17)الملامتية والصوفية وأهل الفتوة، أبو العلا عفيفي. القاهرة 1945. دار إحياء الكتب العربية ص25.
(18)الصعلكة والفتوة في الإسلام، د.أحمد أمين. مصر دار المعارف 1952 ص57.
(19)وفيات الأعيان ج(3) ص394.
(20)شذرات الذهب ج(5) ص345.
(21)المجتمع السوري في مطلع العهد العثماني، د.ليلى صباغ. دمشق وزارة الثقافة 1973 ص182. والطريقة هي (منهج لعلم النفس الأخلاقي وهو رسم طريق سفر النفس إلى الله وهو التطبيق العملي الحرفي للشريعة حتى الحقيقة) دائرة المعارف الإسلامية ج(5) ص172. وليس هناك خلاف بين الطرق في الأسس والمبادئ وإنما الفرق في نوع الأذكار والأوراد التي يواظب عليها المريد أتباع كل طريقة. انظر كحالة: الفلسفة الإسلامية وملحقاتها. دمشق 1954. مطبعة الحجاز ص262. وجدير بالذكر أنه من جليل أعمال مشايخ الطرق الصوفية التي بدأت بالانتشار في القرن الخامس الهجري أنهم استطاعوا أن يوجهوا فتوة العيارين القائمة على الإفساد والنهب إلى وجهة صالحة، فكانت هذه الفتوة الفاضلة درعا في حروب المسلمين مع أعدائهم الصليبيين.
(22)الخطط والآثار، المقريزي. بيروت دار صادر ج(2) ص427.
(23)انظر مقال: الزوايا والخوانق الصوفية. مجلة التراث العربي. العدد 41 ت1، 1990.
(24)خطط الشام، محمد كرد علي. دار العلم للملايين. بيروت 1972، ج6 ص41.
(25)مدارس وجوامعها وربطها وحماماتها، الحسن الأربلي. دمشق مطبعة الترقي ص15.
(26)انظر كتاب إمام السالكين وشيخ المجاهدين الشيخ أرسلان الدمشقي، عزة حصرية. دمشق 1965.
(27)عن كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، المقدسي. ص273. اقتبسه د.شوقي ضيف في كتابه عصر الدول والإمارات. مصر دار المعارف 1980 ص515.
(28)انظر أبو الحسن الشاذلي الصوفي المجاهد والعارف بالله (سلسلة أعلام العرب) د.عبد الحليم محمود. القاهرة 1967، ص60 وتواليها.
(29)شذرات الذهب، ج(5) ص.279.
(30)النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي. وزارة الثقافة المصرية ج(7)، ص371 د.ت.
(31)حسن المحاضرة، السيوطي. ج(1) مصر 1967 مطبعة عيسى البابي الحلبي. ص315، بدائع الزهور ص318 (انظر هامش 59).
(32)العبر، الذهبي. بيروت دار الكتب العلمية 1985 ط(1) ج(3) ص299 د.ت.
(33)طبقات الشافعية الكبرى، السبكي. مطبعة عيسى البابي الحلبي 1964 ط(1) ج(8) ص216.
(34)قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام. القاهرة 1968. دار الشروق. ج(2) ص214.
(35)المصدر السابق. ص212. ومن مؤلفات العز في حقل التصوف: مسائل الطريقة في علم الحقيقة –شجرة المعارف والأحوال-مختصر رعاية المحاسبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن البعض نسب خطأ كتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز للعز بن عبد السلام بينما هو لمتصوف آخر هو عبد السلام غانم المقدسي (ت978هـ) ومن الغريب أن يقع في هذا التوهم صاحب هدية العارفين. ا نظر كشف الظنون ج(1) ص686. ولمزيد من التوسع عن تصوف العز بن عبد السلام راجع: العز بن عبد السلام وأثره في الفقه الإسلامي. د.علي مصطفى الفقير، المجلد(1) ص130 وتواليها-رسالة دكتوراة- أعدت في الجامعة الأردنية 1977. نشر مكتبة مؤتة.
(36)ظهر الإسلام، أحمد أمين. النهضة المصرية 1966 ط(3) ج(4) ص222.
(37)الوصايا، ابن عربي دمشق 1958 مطبعة كرم ص49. (38)انظر إجازة ابن عربي للملك المظفر. مكتبة الأسد الوطنية. مخطوط رقم 6284. جاء في أولها (أقول وأنا محمد بن علي بن العربي الطائي الأندلسي الحاتمي وهذا لفظي استخرت الله تعالى وأجزت السلطان الملك المظفر…).
(39)الوصايا، ص257.
(40)النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، ابن شداد (بهاء الدين). دار الفكر بدمشق ص104 د.ت.
(41)شفاء القلوب في مناقب بني أيوب، أحمد بن إبراهيم الحنبلي ت. ناظم رشيد. وزارة الثقافة العراقية 1978. ص252. وقد علق المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي قائلاً: “لو سقطت حلب للصليبيين لصار الشرق لاتينياً”.
(42)الكامل في التاريخ، ابن الأثير. بيروت 1965 نار صادر ج12 ص314.
(43)البداية والنهاية. ج12 ص34.
(44)الكواكب الدرية في السيرة الفورية، ابن قاضي شهبة ت. محمود زايد بيروت 1971 دار الكتاب الجديد ط1 ص38 الروضتين في أخبار الدولتين ج1 ص9.
(45)البداية والنهاية، ج(12) ص281.
(46)وفيات الأعيان. ج(5) ص188. الكواكب الدرية. ص162.
(47)الروضتين في أخبار الدولتين، أبو شامة المقدسي. بيروت دار الجيل ج(1) ص9 الكامل في التاريخ ج(11) ص402.
(48)صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام، ألبير شاندور. ترجمة سعيد أبو الحسن دمشق 1988 دار طلاس ط(1) ص117.
(49)الروضتين، ج(1) ص18.
(50)البداية والنهاية، ج(12) ص282، الكواكب الدرية. ص68.
(51)البداية والنهاية، ج(12) ص283.
(52)جامع كرامات الأولياء، يوسف النبهاني. القاهرة 1962. مطبعة البابي الحلبي ط(1) ج(2) ص249.
(53)ترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب، المرتضى الزبيدي. ت صلاح الدين المنجد دمشق 1971 مطبوعات مجمع اللغة العربية. ص899. انظر ترجمة القطب النيسابوري في جامع الأولياء ج(2) ص444.
(54)انظر سياسة صلاح الدين الأيوبي في بلاد الشام والجزيرة –رسالة دكتوراة- جامعة بغداد. د.عبد القادر نوري- بغداد 1976 –مطبعة الإرشاد –ص438 وتواليها.
(55)النوادر السلطانية، ص6.
(56)المصدر نفسه، ص16.
(57)المصدر نفسه، ص13.
(58)الخطط والآثار ج(2) ص415. بدائع الزهور ج(1) قسم(1) ص242 وقريب من ذلك يروي ابن جبير في رحلته ص46 “ومن مناقب هذا البلد (مصر) ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه المدارس والمحارس الموضوعة لأهل الطلب والتعبد… وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة هو صلاح الدين المظفر يوسف بن أيوب وصل الله صلاحه وتوفيقه”.
وقد استرعت انتباه هذا الرحالة الأندلسي أحوال الصوفية فقال:”وهذه الطائفة الصوفية هم الملوك بهذه البلاد لأن قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها وفرغ خواطرهم لعبادته… وبالجملة فأحوالهم كلها بديعة…”.
(59)بدائع الزهور في وقائع الدهور (تاريخ مصر) ابن إياس الحنفي. ت. محمد مصطفى، القاهرة 1982، الهيئة المصرية للكتاب ط2. ج1 ص248 وقد لمح ذلك الصفدي ت 764هـ بقصيدة مدح فيها نور الدين وصلاح الدين وما أدخلاه من سنن حسنة فقال من قصيدة:
أحيا الذي قد سن نور الدين
وزاد ما أمكن من تحسين
وقال آخر:
ودمت صلاح الدين للدين مصلحاً
يطيعك في تصريف أحوالك الدهر
انظر تحفة ذوي الألباب في من حكم بدمشق من الخلفاء والملوك والنواب، الصفدي القسم(2). ص83. منشورات وزارة الثقافة- 1992.
كما أثنى أحد شعراء صلاح الدين على نزعة التصوف التي تميز بها السلطان فقال:
ملك له في الحرب بحر تفقه
وله غداة السلم زهد تصوف
أحييت دين محمد وأقمته
وسترته من بعد طول تكشف
انظر عيون الروضتين في أخبار الدولتين، أبو شامة المقدسي، منشورات وزارة الثقافة 1992. ج2 ص177.
قلت: إذا اعتبر كثير من الباحثين أن حجة الإسلام الغزالي قد أعطى التصوف دفعاً “فكرياً” فإن نور الدين وصلاح الدين قدما له دفعاً “رسمياً”.
(60)الفتح القسي في الفتح القدسي، العماد الأصبهاني ت. محمد محمود صبح القاهرة 1965، المؤسسة العامة للتأليف ص145.
(61)تتمة المختصر في أخبار البشر، ابن الوردي. ت. أحمد رفعت البدراوي بيروت 1970، دار المعرفة ط1 ج2 ص147.
(62)البداية والنهاية ج12 ص193.
(63)الأدب في العصر الأيوبي، محمد زغلول سلام. القاهرة 1968 دار المعارف ص236.
(64)الكامل في التاريخ ج12 ص97. تعليق: ورد في الحديث الشريف: “كان أصحابه (2) يتناشدون الشعر… وهو ساكت فربما تبسم معهم”. رواه الترمذي وأبو داوود وابن حنبل. ولم ينكر العلماء السماع على الصوفية المخلصين ومنهم العز بن عبد السلام عندما سئل عن ذلك أجاب “سماع ما يحرك الأحوال السنية المذكرة بالآخرة مندوب إليه”. انظر: فهرس مخطوطات التصوف ج2. ص349. ويقول الغزالي في الإحياء: “لا يحرم السماع نص ولا قياس”. ويورد أيضاً المحتجون على إباحته كلام الحافظ بن حجر العسقلاني:
“ولسنا نحرم مطلق السماع ولا نعتقد انما يفعل من ذلك كله سفاف بل منهم العارفون وهم حزب الله…”.
انظر “أيضاحً الدلالات للشيخ عبد الغني النابلسي دمشق 1981 ص43 والرقص أو الوجد والهيام عند الصوفية هو أعلى مراحل السماع وقد رخص ذلك أغلب العلماء للذاكر إذا خرج عن طوره أو حصلت له حال لم يملك معها شعوره قال الفقيه الصوفي السمرقندي ت 537هـ: “والصوفية أهل الحق يحذرون من سماع الحرام والرقص باللهو”. انظر: مخطوط رقم 1185 الورقة 1 مكتبة الأسد. وانظر: فتاوى السيوطي ج2 ص234، الفتاوى الحديثة ابن حجر المكي ص298.
(65)نهاية المطالب في أنساب فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب من دمشق الفيحاء إلى الموصل الحدباء، أبحاث ودراسات حققها صلاح الدين الموصلي دمشق 1975 مطبعة الثبات ص12.
وقد شد صلاح الدين الرحال أكثر من مرة إلى زيارة أولياء عصره من ذلك ما قاله المؤرخون “كما زار السلطان الشيخ الزاهد أبي زكريا المغربي عند مشهد عمر بن عبد العزيز –في معرة النعمان- فتبرك بزيارة الميت والحي”. انظر عيون الروضتين ج2 ص134، الأعلاق الخطيرة ج ذكر أمراء الشام والجزيرة لابن شداد- عز الدين- منشورات وزارة الثقافة 1975 ج1 قسم 1 ص174. الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب لابن الشحنة ص99. الكامل ج12 ص20. عند حديث ابن شداد عن المزارات التي في ظاهر حلب ص154. قال: “ومنها مشهد الحسين… ولما ملك صلاح الدين يوسف حلب زاره في بعض الأيام وأطلق له عشرة آلاف درهم.
(66) حركة التصوف الإسلامي، محمد ياسر شرف- دمشق 1984 وزارة الثقافة ص41.
(67)الفتح القسي ص659.
(68)الروضتين ج2- ص215.
(69)الظاهر بيبرس، د.سعيد عبد الفتاح عاشور- أعلام العرب- دار الثقافة المصرية ص50.
(70)شذرات الذهب ج(5) ص.345.
(71)الأعلام، الزركلي. دار العلم للملايين ط8، 1989، ج1، ص175.
(72)الخطط والآثار، ج2، ص430. جاء في تاريخ الملك الظاهر لعز الدين بن شداد ت. أحمد حطيط 1983 ص271 “لما علم تغمده الله برحمته أن أفضل ما يتقرب به المتقرب إلى الله العظيم تعظيم أوليائه… ثابر على الوفود عليهم والتودد إليهم والقيام بحقوقهم والاهتداء بلوامع بروقهم وصحب جماعة متأدباً بآدابهم…”.
(73)الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، محي الدين بن عبد الظاهر ت. عبد العزيز الخويطر. الرياض 1967 ص238. (74)ويصفه ابن عبد الظاهر “بالصلاح وله كرامات معروفة… وكان له دور متميز في فتح أرسوف…” ويتابع القول: “وبعد الفتح زار السلطان قبور الصالحين ثم توجه إلى الحج وبقي كأحد الناس لا يحجبه أحد مصلياً وطائفاً ثم عمد إلى الكعبة شرفها الله تعالى فغسلها بيده وحمل الماء في القرب على كتفه وغسل البيت الشريف وكل من رمى إليه إحرامه غسله له بما ينصب من الكعبة الشريفة ويرميه إلى صاحبه.
وفي النجوم الزاهرة ج7 ص180 تصدق الظاهر بعشرة آلاف أردب قمح في الفقراء والمساكين وأرباب الزوايا.
(75)الروض الزاهر، ص239.
(76)فوات الوفيات، ابن شاكر الكتبي. ت. إحسان عباس بيروت دار صادر، ج2، ص243.
(77)الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، ابن الفوطي البغدادي بيروت 1987 دار الفكر الحديث، ص188.
(78)راجع بحوث الاستشراق. وانظر مجلة الوحدة (المغربية) عدد 96 أيلول 1992 مقال: “الاستغراب للتحرر عن تبعية المعرفة الاستشراقية”. خلص فيه كاتبه إلى القول إن الاستشراق ليس علماً بل هو سلاح في أيدي الدول الغربية للهيمنة وشارك فيه كل الباحثين من دول الغزو الحديث وأن نقد الاستشراق جزء من حركة التحرر العربي.
(79)معيد النعم، التاج السبكي ص119 اقتبسه محمد زغلول سلام في كتابه الأدب في العصر المملوكي.
(80)غربة الإسلام، علي بن ميمون –مخطوط- مكتبة الأسد الوطنية رقم 7828، قيل عن مؤلفه أنه مجدد القرن التاسع الهجري. در الحبب، ابن الحنبلي ترجمة رقم 958.
(81)شذرات الذهب ج(8) ص81.الأعلام ج5ص 27.
(82)انظر الكتاب القيم: حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، حلب 1970 مطبعة البلاغة ص585.
(83)الأعلام ج6، ص252.
(84)وفيات الأعيان، ج4، ص217.
(85)انظر نص الكتاب في عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس، محمد عبد الله عنان مصر 1964 لجنة التأليف والترجمة والنشر. ط1، ص41.
(86)انظر الفتوى كاملة المرجع السابق، ص530.
(87)انظر مثلاً، نظم الجنان، ابن قطان المراكشي. ت. محمود علي مكي بيروت 1990، ص73، وفيات الأعيان ج(5)، ص46، تاريخ الدول الإسلامية د.أحمد السيد سليمان. ص53.
(88)المعجب في تلخيص أخبار المغرب، عبد الواحد المراكشي. القاهرة 1949 مطبعة الاستقامة ص178.
(89)المعجب. ص99.
(90)وفيات الأعيان ج(5)، ص55.
(91)نفس المصدر. ص47.
(92)المعجب. ص195.
(93)التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر، محمد الطيب القادري. ت. هاشم العلوي القاسمي. بيروت 1981 دار الآفاق الجديدة ص99، وما بعدها.
(94)المغرب العربي، د.صلاح العقاد. القاهرة 1962، مكتبة الأنجلو المصرية ص53، التقاط الدرر ص52 وما بعدها.
(95)سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه، عبد الكريم عثمان. دمشق دار الفكر ص122. د.ت.
(96)حاضر العالم الإسلامي، لوثروب ستوارد. شكيب أرسلان (المعلق) القاهرة 1352هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي ج(2) ص367.
(97)الأعمال الكاملة، محمد عبده. ت. محمد عمارة بيروت 1972 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ج(3) ص530.
(98)وقد نص الإمام العز بن عبد السلام على تفضيل العارفين بالله من أهل التصوف على العارفين بأحكام الله بدليل ما يجريه الله على أيديهم من كرامات ولا يجري شيئاً من ذلك على يد الفقهاء إلا أن يسلكوا طريق العارفين ويتصفوا بأوصافهم. انظر الفتاوى المصرية. اقتبسه علي الفقير في رسالته ج(1) ص130 (انظر هامش رقم 35) وجدير بالذكر أنه حصلت للعز كرامات كثيرة خصوصاً أثناء غزو الأفرنج لمصر (… فلما رأى الشيخ حال المسلمين ن