قامت الوحدة بين أفراد المجتمع الإسلامي استجابةً لأمـر الله وامتثالاً لما دعـت إليـه الآيات القرآنية : وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [1]. وتأصلت هذه الوحدة التي تعتبر طابع المجتمع الإسلامي , فالقرآن الكريم يأمر بأن يكون طابع هذه العلاقة بين هؤلاء الأفراد جميعاً ( الإحسان ) وليس الإحسان هو العطاء فقط وليس هو المعاملة الحسنة فقط وإنما الإحسان المقصود في هذه الآية يشمل العلاقات المثالية التي يجب أن تكون بين أفراد المجتمع الواحد فالإحسان إلى الوالدين إنما يكون باحترامهما وتوقيرهما والسهر على مصالحهما قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّـهَ وَلاَ تُشْرِكُـواْ بِـهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانـاً [2]. ولو تتبعنا الآيات القرآنية في هذا المجال لوجدناها تعطي حقوقاً للجار بحيث تصل إلى درجةٍ تجعل منه وكأنه فردٌ من العائلة ومن أهم ما دعا إليه القرآن الكريم في التضامن الاجتماعي وسبق به كل الدعوات الإصلاحية للمجتمع حتى الآن ولن تصل أية دعوة إليه هو التواصي بالحق والصبر والمرحمة . قال تعالى : ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ[3]. وقال تعالى : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [4]. والتواصي ارفع صور التضامن الاجتماعي إذ يوصي المسلمون بعضهم بعضاً بضرورة الالتزام ما تأمر به الآيات الشريفة فلا خوف على المسلم من النسيان والانحراف , وبالتواصي يتأكد التضامن فيصبح أفراد المجتمع جميعاً متضامنين في التنفيذ . وقد وضع التشريع للأيتام والمساكين والمحتاجين صوراً عديدة للرحمة وللتكفل والرعاية والمحافظة الكاملة تعالى : فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [5]. وقال تعالى : قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [6]. والأسرة هي اللبنة الأولى لتكوين المجتمع لذا نرى القرآن وجه اهتمامه إلى هذا الجزء الحيوي في المجتمع وراح ينظم حياتها شيئاً فشيئاً فأول تنظيم لها هو إلزام الفرد بالتعايش في أسرة موحدة يسودها الودّ والاحترام والتعاون , وألزم الآباء والأمهات العناية بالأطفال كما ألزم هؤلاء الأطفال احترام الوالدين وإطاعتهما والعناية بهما قال تعالى : إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [7]. ولما كانت المرأة جزءاً أساسياً في تكوين الأسرة فقد وجه القرآن الكريم اهتمامه نحو المرأة منذ طفولتها ومنحها حق الحياة فبدأ بتحريم وأدها قال تعالى : وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (8]. فقضى على اكبر جريمة كانت ترتكب ضد المرأة , ثم أمرها بالتعفف وحمى شرفها من القذف والاتهام قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [9]. وقـال تعالـى : وَلَا تُكْرِهُـوا فَتَيَاتِكُـمْ عَلَـى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنـاً [10]. ثم جعل القرآن الكريم الزواج حصناً للمرأة من كل زلة وجعل لها الرأي والاختيار قال تعالى : ِإذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ[11]. وتوالت الآيات القرآنية تمجد دور الأم قال تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً[12]. وظل القرآن يتابع المرأة مرحلة بعد مرحلة فمنعها من إظهار زينتها إلا لزوجها وضرب عليها ستراً من الحجاب لقدسيتها فمنع الدخول عليها في أوقات خاصة فهي سيدة بيتها ولا يُدخل عليها إلا باستئذان قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء[13] . وليس المهر كما يعتقد بعض خصوم الإسلام ثمناً للمرأة إذ يجعلها كالسلعة تشتري بالثمن ولكنه في الحقيقة رمز يحفظ للمرأة كرامتها ويشير إلى حاجة الرجل إليها , والمرأة في غير الإسلام تدفع لزوجها مبلغاً من المال وهذا نوع من العطاء تبذله المرأة لكي تتزوج فكأنها تشتري زواجها , فأي تكريم للمرأة وهي تبدأ حياة مشتركة مع رجل هي وهو فيها على قدم المساواة ؟ بينما دفع الرجل لزوجته مهراً إنما هو إعلان منه بحاجته إلى زوجته وهو ما يحققه الإسلام للمرأة إذ يحتفظ بكرامتها وكبريائها لاسيما في أدق واخطر ما تتعرض له المرأة في حياتها ألا وهو الزواج . والقرآن حينما أباح الطلاق وتعدد الزوجات لم يهدف إلى إسعاد الرجل على حساب المرأة كما يحلو لبعض خصوم الإسلام القول به ولكنه هَدفَ إلى المحافظة على المجتمع الإسلامي بعضوية الرجل والمرأة . فقد عالج أمر الزواج علاجاً يحفظ كرامة الزوجين وييسر لهما طريق الحياة إما معاً أو يبدأ كل منهما حياة زوجية جديدة لعل فيها العوض عما فقدا فليس الطلاق بسبب كراهية لا دخل للمرأة فيها إذ يقول الله : وَعَاشِرُوهُـنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَـإِن كَرِهْتُمُوهُـنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُـواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّـهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [14]. بل حتى المرأة إذا لم تطع زوجها أو انحرفت أو تمردت فأن الإسلام قرر علاجها بعيداً عن الطلاق قال تعالى : وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [15]. وإذا تعذرت الحياة الزوجية بين الزوج وزوجته بسبب الخلاف الشديد بينهما بحيث تفرقا وأصبح كل منهما شقاً لوحده ويصعب عليهما بذلك أو يلتقيا كأن يكون أحدهما عقيماً والثاني ولوداً أو مريضاً بمرض يمنعه من القيام بوظيفته والآخر سليماً طالب القرآن بأن يجتمع نَفرٌ من أهل الزوج ونفر من أهل الزوجة ويستعرضا المشكلة فقد يُستطاع إصلاح ذات البين قال تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [16]. وإذا تعذر ذلك وكان لابد من الطلاق لأسباب اشد من هذه فأن القرآن الكريم محافظةً على الزوجية إلى أقصى حد ممكن جعل الطلاق ثلاث مرات يجوز في المرتين الأوليين منهما الرجوع عنه كما قال تعالى : الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [17]. وجعل عدة الطلاق ثلاثة اشهر لغير الحامل وطيلة فترة الحمل إن كانت حاملاً إلى أن تضع , وذلك إفساحاً للوقت لعل الزوج يراجع نفسه في هذه المدة . وبهذا فأن الإسلام يهيئ من الأسباب ما يجعل الطلاق أمراً صعباً ووقت التروي فيه طويلاً . وأما تعدد الزوجات فأن كان الإسلام قد أباحه بقوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ[18]. فقد وضع له من القيود ما يجعل أمر التعدد متعذراً إذ تقول نفس الآية : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً . فهل يمكن للإنسان أن يعد لاسيما وان الآية هنا عامة ولم تحدد جهة العدل ثم تقرر الآيات فشل الإنسان في تحقيق العدالة بين الزوجات يقول تعالى : وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ[19]. ويبقى القرآن بحراً زاخراً بالأسرار الربانية والمعاني الروحية العميقة والعلوم الدقيقة ولا يمكن أدراك كُنْهَ أسراره إلا من خصه الله تعالى بالعلم اللدني عناية منه وقد أدرك الكثير من غير المسلمين ممن كان لهم نظر ثاقب وعقل سديد عظمة القرآن فقالوا فيه :- – قال رينوت : يجب أن نعترف أن العلوم الطبيعية والفلك والفلسفة والرياضيات التي أنعشت أوربا في القرن العاشر مقتبسة من القرآن . – وقال دافيد يود : القرآن دستور اجتماعي , مدني , تجاري , حربي , قضائي وهو فوق كل ذلك قانون سماوي عظيم . – وقال سنابس : أن القرآن هو القانون العام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو صالح لكل زمان فلو تمسك به المسلمون حقاً وعملوا بموجب تعاليمه وأحكامه لأصبحوا سادة الأمم كما كانوا من قبل . – وقال مراشي : من يتأمل آي القرآن يجد أن أساس الإسلام التوحيد وقطبيه التآخي وتحسين شؤون العالم تدريجياً بواسطة العلم فهذه هي الأسباب الحقيقية لظهور الإسلام . – وقال السير وليم ميور : إن القرآن ممتلئ بالأدلة عن الكائنات المحسوسة والدلائل المعقولة على وجه الله تعالى وانه الملك القدوس وأنه سيجزي المرء على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر وان إتباع الفضائل واجتناب الرذائل فرض على العالمين وان الواجب على كل مكلف أن يعبد الله وهي علة سعادته . – وقال الدكتور جرنيه : تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبيعية والصحية والطبية التي درستها من صغري وفهمتها جيداً فوجدتها منطبقةً كل الانطباق مع معارفنا الحديثة فأسلمت لأنني تيقنت أن محمداً أتى بالحق الصريح من قبل ألف سنة من غير أن يكون له مدرس من البشر . – وقال برناردشو : لابد أن تعتنق الإمبراطورية البريطانية النظم الإسلامي قبل نهاية هذا القرن ولو أن محمداً بعث في هذا العصر وكانت له دكتاتورية على هذا العالم الحديث لنجح تماماً في حل جميع المشكلات العالمية وقاد العالم إلى السعادة والسلام . – وقال الدكتور غوسطون كوسطا : وانك لتجد في كل موضع من القرآن آيات تحض على فعل الخير . وكما أوضح الإسلام رحمة المولى جل وعلا فقد نوه بأعمال المحبة التي هي ثمرة رحمة المرء واظهر شديد عنايته باليتيم وحماية الفقير والرضيع والمحروم وجعل الإخاء والمحبة ركنين للمجتمع الإسلامي وهذا لعمري تقدم باهر . – وقال اللادي ايفلن كوبرلد : الواقع أن جمال القرآن وبديع أسلوبه أمر لا يستطيع له العالم وصفاً ولا تعريفاً لأنه صوت الهي يخرج من قلب صاحب الشريعة محمد بصورة آيات حتى انه يردد في كل الأصقاع ويرتل في كل بلد تشرق عليه الشمس . – وقال المستشرق ون كز : كلما أكثرنا في مطالعة القرآن يزدادنا انجذاباً وتحيراً واحتراماً وتعظيماً له ذلك لان أغراضه سامية وأهدافه عالية , وهو حاو لرتبة كريمة من الأيمان والصداقة وهذا الكتاب ( القرآن الكريم ) تجري قوانينه على عامة البشر يوماً واحداً , لما فيه من القدرة العجيبة . – وقال الكس لوازون : خَلّفَ محمد للعالم كتاباً هو آية البلاغة وسجل الأخلاق وهو كتاب مقدس وليس بين المسائل العلمية المكثفة حديثاً أو المكتشفات الحديثة مسألة تتعارض مع الأسس الإسلامية , فالانسجام تعاليم القرآن والقوانين الطبيعية . – وقال الأب لامنس : إن القرآن لم يدخل العرب في الإسلام فحسب , بل ادخل مئات الملايين من مختلف الشعوب وان ظلاله ينبسط يوماً على أفريقيا وآسيا وغيرهما من القارات , بينما المبشرون ينظرون ولا يستطيعون شيئاً . الهوامش: المصدر : من كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني . |