آداب المريد في حلقة الذكر
في الطريقة الكسنـزانية على المريد أن يواظب على حضور حلقات الذكر الرسمي وكذلك اليومي ما أمكنه ذلك ، وان يجتهد أن لا يتخلف أو يتأخر عن الحضور لحلقة الذكر إلا إذا كان مضطرا إلى ذلك .
وتكمن أهمية حضور المريدون لحلقات الذكر عند مشايخ الطريقة في الفوائد الروحية التي يتحقق بها المريدين عند اجتماعهم ففي حلقة الذكر تلتقي القلوب ويكون التعاون والتجاذب ، ويستسقي الضعيف من القوي ، والمُظْلمُ من المُنّور والكثيف من اللطيف ، والجاهل من العالم . وقد يوجد أحد المريدين من أصحاب الصفاء والنقاء ، يذكر بصدقٍ وإخلاص ويغاث بأنوار الذكر غيثاً يستفيد منه كل غافل وجاهل فيخرج ببركة الذكر لا يستثنى منهم أحد ، فيحصل الغافل ما لا يحصل عليه إذا جلس للعبادة سنين طويلة ، وهذه من بركات الاجتماع للذكر ، فكم من غافلٍ ينتبه وكم من قلبٍ نائم يستيقظ وكم من جامدٍ يتحرك . وهناك آداب قبل الذكر ، وأخرى يجب توفرها أثناء حلقة الذكر ، وآداب بعد الذكر مباشرة . وبتحقق المريد بها جميعاً ينال بركة عظيمة لا ينالها لو جلس عابداً وذاكراً السنين الطوال ، ولهذا ينبغي على المريد أن يحافظ على آداب الذكر ليتحقق بأكبر قدر من الفوائد الروحية التي تنفعه في الدنيا والآخرة .
آداب ما قبل الذكر :
- على المريد أن يكون طاهراً متوضئاً كلما أراد الذكر ، فعن ابن
عمر رضي الله عنه قال : إن استطعت أن لا تذكر الله إلا وأنت طاهر فافعل .
- التوبة النصوح من كل الأعمال والذنوب والغفلات التي ارتكبها قبل حضوره الذكر ليفتح عليه باب الرحمة من الحق تعالى ويكون مهيئاً لاستقبال الفيوضات والأنوار الربانية .
- ينبغي أن يكون جسده نظيفا نقياً من الحرام كسباً وغذاءً (1).
- تطييب رائحة جسمه وتعطير فمه وملابسه ويتجنب تناول الأطعمة ذات الروائح الخبيثة قبل الذكر حتى لا يشغل المريدين بها عن التمعن بالذكر.
- إخلاص النية وهو أن يكون الباعث له على الذكر امتثال أمر الله تعالى لا غير ذلك
- أن يطهر قلبه للذكر وأن يفرغه من كل موجود سوى المذكور ،
فالقلب محل نظر الحق تعالى ، فعليه تصفيته وتنقيته من جميع الخواطر والعلائق الدنيوية والشواغل التي من شأنها إفساد حضوره القلبي وأن يجاهد في طرد وساوس الشيطان وهواجس النفس، وأن لا يشغل قلبَه في أُمور الدنيا ، وأن يكون متهيئاً لما يَمنُّ الله به عليه من تجليات أفضاله .
- في حالة الذكر المفرد يستحب أن يجلس في مكان خال ونظيف ، مطرقاً برأسه ، متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار ، مستقبلا القبلة ، أما إذا كان الذكر جماعياً فيكون مع بقية المريدين في حلقة سواء في وضع الجلوس أو القيام حسب نوع الذكر .
- أن يجلس حيث انتهى به المجلس إذا كان الإخوان جلوساً ، وإذا كانوا وقوفاً وقف خلفهم وذكر بذكرهم حتى ينتبه له أقربهم ويفسح له ليدخل بينهم ، وينتظم في حلقتهم حتى لا يقطع عليهم اشتغالهم بالذكر، وأن يكون موافقاً لهم في وضعهم ، فلا يشذ عنهم بمخالفة ، فلا يخترق الصفوف أثناء الحركة لينفذ إلى داخل الحلقة ، بل يرى المكان الفارغ ويقف فيه إن جاء متأخراً .
آداب أثناء الذكر :
- أن يبدأ ذكره بالبسملة والاستمداد من همة شيخه ، وأن يرى أن استمداده من شيخه هو في الحقيقة استمداد من حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، لأن الشيخ باب المريد للحضرة المحمدية المطهرة .
- أن يغمض عينيه ليسد طرق الحواس الظاهرة شيئاً فشيئاً ، وسدها يكون سبباً لفتح حواس القلب .
- أن يرابط مع شيخه روحياً ولا يغيب عنه ليحصل له الاتصال مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم روحياً عن طريق سلسلة المشايخ .
- على المريد أن يكون موافقا لحركة الذاكرين ، إلا لمن صحبه حال وحال دون سكونه فهو معذور ، كما يجب مراعاة صوت الطبلة في الحركة .
- أداء الحركة الصحيحة في الذكر بكيفيتها التي أمر بها شيخ الطريقة بدون زيادة أو نقصان ، لأنها تنشط الجسم للذكر، وتساعد على حضور القلب مع الله تعالى ، إذا صحت النية ، فالأمور بمقاصدها.
إن هذه الحركة وهذا الاهتزاز جائز شرعا، لما روي عن أبي أراكة انه قال : « صلّيتُ مع علي صلاة الفجر، فلما أنفتل عن يمينه مكث كأنَّ عليه كآبة ، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ، ثم قلب يده فقال : والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً ، بين أعينهم كأمثال رُكَب المَعْزى ، قد باتوا لله سجداً وقياماً ، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا فذكروا الله فمادوا [ أي : تحركوا ] كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تَبتََلَّ – والله – ثيابُهم » (2) .
وقد استدل الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله بهذا الحديث في إحدى رسائله على ندب الاهتزاز بالذكر، وقال : هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة في الذكر.
- موافقة صوته صوت الحلقة من حيث الجهر والإخفاء وحسب النظام المتداول بطريقتنا فلا يجهر في الإخفاء ولا يخفي في الجهر . وأن يجتهد في إخفاء صوته في أصواتهم حتى لا يكون مميَّزاً بينهم .
- استحضار معاني الذكر وتدبرها ، وعدم الإسراع بالشكل الذي لا يفهم معه ما يقول . فإن كان يستغفر فعليه أن يلاحظ بقلبه طلب المغفرة والعفو من الله تعالى ، وإن كان يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فعليه أن يستحضر عظمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقلبه ، وإن كان يذكر بالنفي والإثبات وهو ( لا إله إلا الله ) فعليه أن ينفي كل شاغل يشغله عن الله تعالى . وفي كل الأحوال عليه ألا يَترك الذكر باللسان لعدم حضور القلب ، بل يذكر الله بلسانه ولو كان غافلاً بقلبه ؛ لأن غفلة الإنسان عن الذكر إعراض عن الله بالكلية ، وفي وجود الذكر إقبال بوجهٍ ما ، وفي شغل اللسان بذكر الله تزيين له بطاعة الله ، وفي فقده تعرضٌ لاشتغاله بالمعاصي القولية كالغيبة والنميمة وغيرها ، وفي هذا يقول ابن عطاء الله السكندري : « لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله تعالى فيه ، لأن غفلتك عن وجود ذكره، أشد من غفلتك في وجود ذكره ، فعسى أن يرفعك الله من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة ، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور ، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غَيْبَةٍ عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز »(3) . فعلى المريد ملازمة الذكر باللسان حتى يفتح القلب ، وينتقل الذكر إليه ، فيكون من أهل الحضور مع الله تعالى(4).
- ألا يظهر المُريد حاله الذي يطرأ عليه أثناء الذكر ويكتمه قدر المستطاع .
- عدم مسك صاحب الحال على كتفه ظناً بالتخفف ، بل يمسك صاحب الشوق ، والفرق بينهما : إن صاحب الحال بطيء الحركة لا يؤثر على الحلقة وصاحب الشوق سريع الحركة يقفز قفزات غير مرتبة وسريعة ، يمكن مسكه إذا رؤي انه يؤثر على سير الذكر .
- عدم ترك حلقة الذكر أثناء سير الذكر لشرب الماء أو الكلام مع شخص آخر فإن فيها ضرراً كبيراًً على حاله .
- لا يسمح للمرضى بالوقوف متفرجين محتجين بأمراضهم بل عليهم أن يدخلوا الحلقة ويجلسوا في وسطها ، وان يرددوا مع الذاكرين ما أمكنهم ذلك .
آداب ما بعد الذكر :
- أن يسكن المُريد بعد الانتهاء من الذكر وان يخشع لعله يرد عليه وارد فيعمر وجوده في تلك اللحظة ، ولهذه السكتة البسيطة ثلاثة آداب كما يرى الإمام الغزالي وهي :
الأول : أن يرى المريد نفسه بين يدي الله تعالى وانه عز وجل مطلع عليه .
الثاني : نفي الخواطر كلها وإجراء معنى (الله .. الله ) على القلب .
الثالث : أن يجمع حواسه كلها على الرابطة بحيث لا يتحرك منه شعرة .
- أن يذم نفسه مراراً وبقدر ثلاثة أنفاس إلى سبعة أو أكثر حتى يدور الوارد في جميع حواسه فتتنور بصيرته وتقطع عنه خواطر النفس والشيطان .
- عدم شرب الماء البارد بعد الانتهاء من الذكر مباشرةً لان الذكر يورث حرقة وهيجاناً وشوقاً والماء يبرد ذلك .
__________________________
الهوامش :
(1) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 112 – 113 .
(2) – ابن كثير – البداية والنهاية في التاريخ- ج8 ص6، وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية -ج1ص76 .
(3) – ابن عجيبة – إيقاظ الهمم في شرح الحكم – ج1 ص 79 .
(4) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 111 .