الأستاذ عبد الوهاب حموده
لسنا بصدد تحقيق نسبة كتاب «نهج البلاغة» الى الامام على كرم الله وجهه أو الى جامعه الشريف الرضى، فان لذلك مجالا غير هذا.
غير أنه مما لا شك فيه عند أحد من أدباء هذا العصر، و لا عند أحد ممن تقدمهم في أن أكثر ما تضمنه «نهج البلاغة» هو من كلام أمير المؤمنين رضوان الله عليه.
و على ضوة هذا الرأى نحن ننظر في الكتاب فنبحث في مطاويه، و نمتع الذهن بأسرار معانيه، و نستخرج منه الآراء الناضجة الا جتماعية، و الأفكار الخالدة الانسانية.
و ان الباحث ليتملكه الدهش حين يرى لأدب آل البيت جميعا سمات خاصة و خصائص متمايزة، لافرق في ذلك بين رجالهم و نسائهم و خطبائهم و شعرائهم.
فان لأدب كل جماعة سمات تستمد من وجداناتهم، و صدق عواطفهم، و نبل مقاصدهم، و دقة مشاعرهم.
فمن سمات أدب آل البيت صدق العاطفة. وجزالة الأسلوب، و سمو المقصد، و حرارة العبارة، و قوة الايمان، و رسوخ العقيدة، و توقد الوجدان .
و لا عجب في ذلك، فان الأدب ينهض في عصور المشادة لاعصور اللين و الأمن، و ان عصور الأمن عصور طراوة ودعة لاتحفز النفوس، و لا تستثير قواها الكامنة.
و على النقيض من ذلك عصور المشادة و الجهاد التى تحرك أعمق اعماق النفوس و تثير كل تياراتها، و تبتعث رواقدها، لما تتطلبه طبيعة العراك من استمداد كل قوة، و افراغ كل جهد.
ان الاضطهاد العنيف لم يترك في أدب آل البيت أنيناً و شكوى، و لا بكاءو لا عويلا، و انما ترك قوة صامدة، و تحقيراً لأمر الدنيا، و اعظاماً للجهاد، و اكباراً للتضحية.
و لم يكن لآل البيت أسلوب قوى فحسب، بل كانت معانيهم أيضاً قوية، فقد اصطبغت هذه المعانى بالمثل الأعلى للايمان و العقيدة، فاكتسبت رونقا و جلالا و عظمة و جمالا.
لاغرو فقد قدموا في سبيل هذه العقيدة أغلى ما يمكن أن يقدمه انسان قربانا لعقيدة، و هى أنفسهم الزكية، وأرواحهم الطاهرة، أليس يقول الامام :«لنا حق فان أعطيناه، و الا ركبنا أعجاز الابل و ان طال السرى».
و قد اجتمع له في كتاب «نهج البلاغة» ما يجتمع لكبار الحكماء و أفذاذ الفلاسفة، و نوابغ الربانيين من آيات الحكمة السامية، و قواعد السياسة المستقيمة، و من كل موعظة باهرة، و حجة بالغة، و آراء اجتماعية، و أسس حربية، مما يشهد للامام بالفضل و حسن الأثر.
فأنت و اجد في خطبه و وصاياه رضوان الله عنه ملتقى العاطفة المشبوبة و الاحساس المتطلع الى الرحمة و الاكبار، فقد كانت حياته و حياة أبنائه سلسلة من الجهاد و الصراع و الاضطهاد و الجلاد.
فكان شجاعا غير بغى، قوياً في غير قسوة، سليم الصدر من الضغن و الحقد، برى ء النفس من حب الانتقام و الغرور، لايتكلف و لايحتال على أن يتكلف، بل كان يقول:«شر الاخوان من تكلف له».
و كان لايعرف غير طريق واحدة هى طريق الصراحة التى تكشف عن قرارة نفسه، فهو في طلب الحق لاتلين قناته، و لا تأخذه فيه هوادة، و هو يربأ بنفسه أن يستهوى الأفئدة بالمداجاة و المقاربة و بذل العطاء كما كان يفعل سواه.
و من اليسير أن نعرف سياسة الامام بينه و بين رعاياه من غير حاجة الى الاطالة في التعريف و سرد الامثال. فانها سياسة الرجل الذى شاه القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية، فهى سياسة أقرب الى المساواة، و أدنى الى رعاية الضعفاء، فالناس في الحقوق سواه، لامحاباة لقوى، و لااجحاف بضعيف، فالروح الانسان هو قوام الحكومة الامامية.
فمن آرائه الاجتماعية أنه قد دعا الى التعاون دعوة صريحة في عبارة نبيلة حيث قال يودع جنوداً ذاهبين الى القتال:
«و أى امرى ء منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، و رأى من أحد اخوانه فشلا. فليذب ّ عن أخيه بفضل نجدته كما يذب عن نفسه، فلو شاءالله الجعله مثله».
و هو لا يزال يلح في دعوته الى التعاون، و انه ليسوقها في منطق واضح و حجة لازمة:«أيها الناس انه لايستغنى الرجل و ان كان اذا مال عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم».
فالانسان مدنى بالطبع أو هو كما وصفه فيلسوف اليونان أرسطو «حيوان اجتماعى» و لهذا دعا الامام دعوته.
و ما مربنا من دعوة الامام الى التعاون، ليس الا بعض دعوته الى (الحب العام) فان قلبه النبيل قد غمر بهذه العاطفة الشريفة، و ثبتها ايمانه القوى المنقطع النظير. و ليس هذا بغريب ممن صادق النبى صلوات الله و سلامه عليه و شاطره آلامه و جهاده، فشعر بحلاوة الصداقة، و ذاق جمال الأخوة.
و ان النزعة الديمقراطية في كتاب «نهج البلاغه» أبين من أن تحتاج الى بيان. فهو فضل العامة على الخاصة، و ان سخط الخاصة، و هذا عرفان منه لخطر العامة و مبلغ تأثير هم في صلاح الأمة و فسادها، فقال :
«ان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، و ان سخط الخاصة يغتفرمع رضا العامة، و ليس أحد من الرعية أثقل على الوالى مؤونة في الرخاء و أقل معونة له في البلاء، و أكره للانصاف، و أسأل بالالحاف، و أقل شكراً أعند الاعطاء و ابطاً عذراً عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. و انما عماد الدين و جماع المسلمين، و العدة للأعداء: العامة، فليكن صفوك لهم، و ميلك معهم» فهذا كلام صريح في تفضيلهم، و الاعتماد عليهم.
غيرأنا نقف برهة عند هذا الاندفاع، نقف لنسمع الاعتدال في الرأى و الأصالة في الحزم، و الدقة في الفكرة، يقول في وصية له :
«ثم الصق بذوى الأحساب و أهل البيوتات الصالحة، و السوابق الحسنة، ثم أهل النجدة و الشجاعة، و السخاء و السماحة».
نعم ان هذا النغمة قد تبدو شاذة، و لكن ينبغى ألا نرتاع لها و لنكمل استمتاعنا بأنشودة الامام الحبيبة، فان وصيته بالا لتصاق بذوى الأحساب لاتنافي الديمقراطية فهو لم يدع الى تمييزهم، و انما دعا الى الانتفاع بما عند هم، و كثيراً ما يتسق نبل الأخلاق مع نبل الدماء، ثم ان الامام أتبع ذلك بقوله «و السوابق الحسنه ثم أهل النجدة و الشجاعة و السماحة» و هولاء يكونون من هذه الطبقة كما يكونون من تلك دون تمييز، على أن الامام قد تأثر فيما يبدو بما كان عند العرب من احترام للأنساب و تفاخربها.
و اذا كان الامام قد أخذ بالد يمقراطية كما وضح فمن الطبيعى أن نراه نصيرا للحرية، يهيب بابنه «و لا تكن عبد غيرك و قد خلقك الله حرا».
و لكن الامام لم ينس أن للجمهور سيئاته، كما أن له حسناتة، فلنسمع كلمة الامام في الغوغاء، قال :«الناس ثلاثة: فعالم ربانى، و متعلم على سبيل نجاة، و همج رعاع اتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، و لم يلجئوا الى ركن وثيق».
ووصف الغوغاء في موضع آخر بأنهم من اذا اجتمعوا غلبوا، و اذا تفرقوا لم يعرفوا، ووصفهم مرة أخرى بأنهم من اذا اجتمعوا ضروا، و اذا تفرقوا نفعوا، لأن كل صانع ينصرف الى عمله فيحصل النفع.
و قد وضع الامام اصبعه على آفة من آفات الجماهير و طبيعة من أخص طبائعهم، و هى سرعة التقلب، و قد وضحها «شكسبير» أبلغ توضيح في رواية «يوليوس قيصر».
و قد أمر باحترام التقاليد الشعبية، و العادات الاجتماعية، فكان حكيما بعيد النظر في سياسة الجماعات، و ما زلنا نرى ساسة الأمم يفشلون حين يتجاهلون للشعوب تقاليدها، و للجاعات عرفها، قال الامام :
«و لاتنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، و اجتمعت بها الألفة و صلحت بها الرعية». و اذا أردت و صفاً دقيقا يصدّق الحكمة القائلة «التاريخ يعيد نفسه» فاستمع اليه و هو يصف مجتمعه بأوصاف كأنهم يعيشون بيننا و يتنقلون بين أظهر نا، فيقول: «و اعلمواـ رحمكم الله ـ أنكم في زمان القبائل فيه بالحق قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان، مصطلحون على الادهان، فتاهم عارم ـ شرس ـ و شائبهم آثم، و عالمهم منافق، و قارئهم مماذق ـ غاش مخادع ـ لايعظم صغير هم كبير هم، و لايعول غنيهم فقير هم». و كان دستوره في تحصيل الضرائب، الرفق بالأهلين، و عدم بيع شى ء ضرورى، و هذا ما تفعله قوانينا الحديثة، من منع الحجز على الملابس، و مرتبات الموظفين، و كل ما يقوم به الأود، فيقول:«و لا تبيعُن للناس في الخراج كسوة شتاه و لاصيف ولا دابة يعتمدون عليها، فان شكوا ثقلا ـ أى ثقل المضروب عليهم من مال الخراج ـ أو علة أو انقطاع شرب ـ أى ماء في بلاد تسقى بالانهارـ أو بالّةـ أى ما يبل الأرض من ندى و مطر ـ أو احالة أرض اغتمرها غرق ـ أى تحويلها البذر الى فساد بالتعفن لما اغتمرها و عمها من الغرق ـ أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم»، و هذا بعد نظر، و سياسة مالية حكيمة، تزيد وضوحا في قوله: «تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فان في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم الابهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج و أهله.
و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لايدرك الا بالعمارة، و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد، و لم يستقم أمره الا قليلا، و انما يؤتى خراب الأرض من اعواز أهلها، و انما يعوز أهلها لاسراف الولاة على الجمع و سوء ظنهم بالبقاء و قلة انتفاعهم بالعبر».
و قد أدى بُعد نظر الامام به الى أن يدعو الى تقسيم الأعمال و توزيعها و هو المبدأ الذى لم تعرفه المدنية الا حديثاً فقال :
«و اجعل لكن انسان من خدمك عملا تأخذه به فانه أحرى ألا يتوا كلوا في خدمتك» و قال من رسالة الى الأشتر النخعى أيضاً:
«و اعلم أن الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، و منها كتاب العامة و الخاصة، و منها قضاة العدل، و منها عمال الانصاف و الرفق ،و منها أهل الجزية و الخراج، و منها التجار و أهل الصناعات، و منها طبقة السفلى من ذوى الحاجة و المسكنة» .
ثم فصل بعد ذلك وظيفة كل فرقة تفصيلا يذكرنا بتقسيم افلاطون لطبقات المجتمع حين شبهه بجسم الانسان، فيه القوة العقلية يقوم بها الكتاب و المفكرون، و القوة الغضبية يمثلها الجيش، و القوة الشهوية يقوم بها الصناع و الزراع.
أما نصائحه و سننه التى و ضعها لأفراد المجتمع في معاملة بعضهم بعضا فكثيرة يعسر حصرها، منها:
لاتتخذن عدو صديقك صديقا فتعادى صديقك.
و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه فانه ليس لك بأخ من أضعت حقه.
و لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاثد: في نكبته و غيبته و وفاته.
صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام.
و بعد: فهذا بحر لاساحل له، و كنز لاتنفد ذخائره، و منار لايطفأ اشعاعه فجزاه الله عن الاسلام و المسلمين خيراً؟
_____________
المصدر :-
المجمع العلمي لتقرب بين المذاهب
http://www.taghrib.org/arabic/nashat/esdarat/kotob
/arabic/books/resalatalislam/03/11/06.htm