مظفر الروز
مدير المكتب الاستشاري العلمي / كلية الحدباء الجامعة
تمتلك الذات المحمدية بعداً كونياً ومعرفياً في معادلة الوجود الإنساني التي تستوعب الكون بجميع مخلوقاته. وتستمد هذه الحقيقة مادتها الروحية من الأسماء والصفات الإلهية التي تتوجه صوب الكون والمخلوقات المقيمة فيه فتعمل تأثيرها بكل مفردة كونية حسب خاصية القبول والاستعداد التي تحدد بدورها – بحسب الحكمة والمشيئة الإلهية – ماهية التجليات الإلهية التي ستنعكس عبر مظهر وجودي في عالم الشهادة.
ولكي تتضح لنا بعض الجوانب الكونية والمعرفية لتجليات الأسماء والصفات الإلهية العلية وطبيعة العلاقة القائمة مع الذات المحمدية، سنبدأ بمعالجة الموضوع وفق المراتب الوجودية والمعرفية التي تليق به.
المرتبة الأولى : الأسماء والصفات الإلهية
لله تعالى أسماء وصفات توقيفية ارتضاها عز وجل لذاته العليّة، لا يجوز إطلاقها، ولا إثباتها، إلا بعد ورود الأذن باطلاقها، ولا يجوز لمخلوق أن يسمي الله باسم غير ما سمّى به نفسه، أو أذن به، أو سماه به رسول الله واجتمعت عليه الأمة . والأسماء والصفات الإلهية تسري في الكون والمكونات، بحيث أنه ما من موجود دقّ أو جل، علا أو سفل، كثف أو لطف، كثر أو قلّ، إلا وأسماء الله محيطة به عيناً ومعنى .
وظهور أنوار الأسماء وإشراقها على الكون والمخلوقات المقيمة فيه، يختلف باختلاف صفاتها، وقوابلها، واستعداداتها التي صبغها الله بها، لتكون مجلى لأسمائه وصفاته بحسب ما هو مسطور في الغيب الإلهي.
من أجل هذا فإن الأسماء الإلهية هي كالصور للذات الإلهية ( الغيب المطلق) ، ولولاها ما ظهرت ولا عرفت، والأعيان الثابتة هي قوابل لمجالي الأسماء ومظاهر لتجلياتها في عالم الشهادة،. فلولا اسم الظاهر لما عرف الباطن، والعكس صحيح، فبقبول الأعيان ـ بقدرة الله وحكمته ـ ظهرت الأسماء وتعينت.
ولولا الأرواح التي هي صور للأعيان الثابتة، ما عرفت هذه الأعيان، ولولا الأجسام التي هي قابلة لأثر الأرواح ما عرفت الأرواح.
عمد الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الى تقسيم تجليات الأسماء
الإلهية الى نوعين:
النوع الأول : التجلي الوجودي :
وهو التجلّي الذي يتوجه صوب العالم بأسره، فيكسب الممكنات الوجود ، ويصبح كل ما في الوجود صوراً من صور التجلي الإلهي، الدائم مع الأنفاس، وهو واحد يتكثر في مظاهره لاختلاف استعداد المتجلّى فيه . من أجل هذا يطلق العارفون على العالم ـ تجوزاً ـ لفظ الأسماء الإلهية لأن العالم بأسره هو تجلي وجودي للأسماء الإلهية التي أطلقها الله على نفسه، فالعالم كله أسماؤه الحسنى بحسب استعداد كل منها .
النوع الثاني : التجلّي العرفاني :
وهو نوع من أنواع الكشف الذي يفني المتجلّي له، فيورثه علماً لدنياً، لم يقتنص من الألفاظ والعبارات بل عن تجليات عرفانية على قلب العبد المخبت لربّه، فيغلبه سلطان الوجد، وحالة الفناء بالوجود ، فتقوم المعاني على حسب الحضرة والاستعداد. وفي هذا قال الشيخ الأكبر : إنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك.
إن لفظ الجلالة الله هو اسم علم ذاتي لمرتبة الألوهية الجامعة لحقائق الأسماء والصفات الإلهية كلها، وهو الاسم الكامل المحيط بكل أطراف مجالي هذه الأسماء.
ونود أن ننبه الى حقيقة كون تعدد المظاهر لا يتنافى مع وحدة الحقيقة الإلهية وكمالها، بيد أنها مع وحدتها تتصف بمظاهر تتخذ ما لا نهاية له من الصور، ولها في كل صورة وجه خاص بتلك الصورة، فهي ـ أي الحقيقة الإلهية المتمثلة بأسماء الله وصفاته العلية واحدة كثيرة، واحدة بحقيقتها، كثيرة بتعيناتها ومظاهرها.
المرتبة الثانية : الحقيقة المحمدية :
تمتاز الحقيقة المحمدية بكونها أكمل، وأتم مجلّى خلقي توجهت إليه الأسماء والصفات الإلهية. ومدار هذه الأمر هو أن لكل موجود مجلّى خاص يستمد وجوده وعرفانه من اسم إلهي يختص به، بينما يتفرد سيد الخلائق محمداً بأنه المجلّى للأسم الجامع، وهو الأسم الأعظم الله ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة .
لذا فقد انعكس الكمال الوجودي لمجالي الأسماء الإلهية على ذاته الشريفة، بحيث اعتبره الشيخ الأكبر ومشايخ الطريق الإنسان الكامل الذي تكاملت صفاته ومعرفته، فأصبح قطباً يدور في فلكه كل طالب للكمال. قال الشيخ الأكبر : إن الإنسان الكامل ( الذات المحمدية ) لا يبقى له في الحضرة الإلهية اسم إلا وهو حامل له .
وله المقام المحمود الذي تنظر إليه جميع الأسماء الإلهية المختصة بالمقامات، وبهذا الأمر صحّت له السيادة على جميع الخلق يوم العرض، ومنه يفتح باب الشفاعات. فأول شفاعة يشفعها عند الله تعالى في حق من له أهلية الشفاعة من : ملك، ورسول، ونبي، ومؤمـن، فيشـــفع رسول الله عند الله لهؤلاء أن يشفعوا، فيحمد بكل لسان، وبكل كلام .
ولا يجمع يوم القيامة المحامد كلها إلا محمداً وهو في المقام المحمود حيث يقتضي المكان الذي يقف فيه أسماء إلهية تتوجه بآثارها على ذاته الشريفة، فيحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى إياها ببركة تجليات الأسماء الإلهية التي يقتضيها المقام المحمود .
وبهذا المقام تكتمل دائرة الحقيقة المحمدية بعد اكتمال دائرة تجليات جميع الأسماء الإلهية على ذاته الشريفة والتي بقيت مكنونة في زوايا الكون حتى دار الزمان دورته، وقامت الساعة، وأوصدت أبواب الكمالات الوجودية إلا على ذاته الشريفة التي حلّت بالمقام المحمود الذي لا يرتقي إليه سواه.
المرتبة الثالثة : المخلوقات :
برأ الله المخلوقات وصبغها باستعداد هو نصيبها من الحق تعالى. فلا يمتلك أي مخلوق استعداداً يشابه آخر، بحيث أن سرَ كل مفردة كونية يلتصق بحقيقة ذاتها، ويعرف هويتها، وظهورها بين الموجودات الذي لا يتكرر أبداً، ويكون مجلى للأسماء الإلهية التي يحتملها استعداده.
تشخص الحقيقة المحمدية بوصفها مورداً لا ينضب لكل مخلوق يريد أن ينال كمالاً ، فلا كمال يمكنك نواله إلا أن تدور في فلك قطبية رسول الله وأن تشمر ساعديك باتباع سنته، والتخلق بأحواله وشمائله لكي تنعكس على ذاتك بعض من كمالاته غير المتناهية.
ولا تصح المعرفة الصوفية إلا بالاستمداد من أنوار مشكاته الشريفة التي تقيم في دائرة الحقيقة المحمدية، وهي المشكاة التي يستقي منها الأنبياء، والأولياء، والصالحون العلم اللدني ( الباطن ) كل بحسب مقامه واستعداده.
فكل نفس يقتضي تجلياً جلالياً، أو جمالــياً ( بحسب أسماء الجلال أو الجلال الحسنى ) ويقتضي ذلك التجلّي عبودية، تكتمل وجوداُ ومعرفة بخصائص عبودية الذات المحمدية، بيد أن لكل منا ما يليق به ـ بحسب استعداده ـ فتعددت الطرائق بعدد أنفاس الخلائق، بيد أن أنفسها هو طريق أنفس الخلائق .
الهوامش :
1. التجلّي هو ما ينكشف على القلوب البشرية من أنوار الغيوب المتوجهة من الأسماء الإلهية.
2. القصد المجرد : 29 – 30 .
3. الفتوحات المكية 3 : 80 .
4. الفتوحات المكية 2 : 556 .
5. الفتوحات المكية 3 : 405 .
6. فصوص الحكم 1 : 134 .
7. الفتوحات المكية 1 : 118 – 119 .
8. حلية الأبدال : 9 .
9. الفتوحات المكية 2 : 87 .
قائمة المراجع :
1.حلية الأبدال، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
2.عقلة المستوفز، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،الطبعة الأولى، مطبعة ليدن، 1346 هـ.
3.الفتوحات المكية، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،بدون تاريخ، دار صادر، بيروت.
4.فصوص الحكم، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،تحقيق أبو العلا عفيفي، الطبعة الثانية، 1400 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
5.القصد المجرد، للشيخ ابن عطاء الله السكندري، مطبعة بولاق، القاهرة.
المصدر: مشاركة من الكاتب