إن للصحبة والمحبة تأصيل في كتاب الله تعالى, وفي أحاديث المصطفى , وفي أقوال السلف الصالح والخلف, فمن هذه الآيات: قوله تبارك وتعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف} 108. إنه طريق الحق, وطريق من اتبع خير الأنام عليه أزكى الصلاة والسلام, طريق من عرف أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار, وحقا بالنهار لا يقبله بالليل, طريق من علم أن هذه الدنيا دار من لا دار له ومال من مال له ولها يجمع من لا عقل له, فطلقوها طلاقا بائنا وأعرضوا عنها.طريق من سمعوا قوله تبارك وتعالى:{يا ليتني لم اتخذ فلانا خليلا}الفرقان28, فشمروا على ساعد الجد متمسكين بولي مرشد يأخذ بأيديهم إلى شاطئ النجاة وإلى بر الأمان, وسمعوا قوله جلت عظمته{:يا ليتني قدمت لحياتي} الفجر24, فأعدوا الزاد ليوم تشيب من هوله الولدان, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, ووقفوا بباب الذل والانكسار سائلين ومستغفرين عسى أن يكونوا من المنعم عليهم, والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقول الباري تقدست كلماته:{اهدنا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعمت عليهم..} الفاتحة5-6 وقوله عز وجل:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }التوبة119, وقوله تبارك وتعالى:{واتبع سبيل من أناب إلي} لقمان14, وقوله سبحانه وتعالى:{الرحمن فسئل به خبيرا}الفرقان59, وقوله عز من قائل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }الكهف28، وقوله جلت عظمته:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة }المائدة35، وقوله جل شأنه: {الآخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} سورة الزخرف الآية67.
أما الأحاديث الدالة على ضرورة الصحبة والمحبة فأذكر على سبيل المثال لا الحصر: يقول الحبيب المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم: {المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل} رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.. روى الشيخان –رحمهما الله- عن سيدنا أبي سعيد رضي الله عنه, أن رسول الله قال: (يأتي على الناس زمان يغزو فئام (جماعة) من الناس فيقال لهم:هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟فيقولون : نعم! فيفتح لهم.ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم:هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟فيقولون : نعم! فيفتح لهم.ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم:هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقولون :نعم! ).
واللفظ للإمام مسلم –رحمه الله-. فهذا الحديث يكفي للاستدلال على ضرورة الصحبة, إذ هي من مفاتيح الجهاد, والفتح نتيجة الصحبة. يعلق الإمام عبد السلام ياسين- حفظه الله ورعاه- على الحديث قائلا:”يقترن الفتح ببركة صحبة رسول الله , تتوارثه الأجيال ببركة رؤية من رأى من رأى وصحب. إنه تسلسل صحبة عبر الأجيال, تسلسل تخلق بالاتباع, يتسلسل معه موعود الله. بمن صار على المنهاج النبوي الذي أوله الصحبة, صحبة مؤمنين لهم اتصال بالله عز وجل عبودية, وبسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتباعا ومحبة وأخذا عن السلف الصالح, بالتربية المتسلسلة” المنهاج النبوي365.
قال ابن تيمية والشيوخ الذين يقتدى بهم يدلون (أي على الله جل جلاله), ويرشدون إليه, بمنزلة الأئمة في الصلاة (…), وبمنزلة الدليل الذي للحاج, يدلهم على البيت وهو وهم جميعا يحجون إلى البيت, ليس لهم من الإلهية نصيب, بل من جعل لهم شيئا من ذلك فهو من جنس اليهود والنصارى الذين قال الله في حقهم:(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله),الفتاوي ج11/499.
نفهم من كلام شيخ الإسلام أن الشيخ كإمام للصلاة, ومن لا صحبة له كالذي يصلي منفردا. ويقول سيدي الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه:”ذكر الله يثبت في القلب ببركة الصحبة. المرء على دين خليله. عليكم بنا! صحبتنا ترياق مجرب, والبعد عنا سم قاتل”.البرهان المؤيد43.
وربنا تبارك وتعالى يقول: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمونالنحل43. فالذكر والصحبة هما الدواء الشافي, والعلاج الناجع لما في القلوب. فالولي المرشد خبير بالعلل وصاحب في الطريق, وكما يقال:”الرفيق قبل الطريق” لا بد من مصحوب, لا بد من مرب…وفي هذا السياق يقول سيدي الإمام عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه:”يا هوس!تغفل! ائتوا البيوت من أبوابها, من أبواب شيوخ الفناء الذين فنوا في طاعة الله عز وجل. صاروا معاني, صاروا جليسي بيت القرب,…” الفتح الرباني37.
ويضيف قائلا:”هذه الطريق لا تسلك مع النفس والهوى (…),هذا شيء لا يجيء بعجلتك. يحتاج إلى حبال ورجال وصبر ومعاناة ومجاهدة. وأن تصحب بعض ملوك المعرفة حتى يدلك ويعرفك ويحمل عنك ثقلك.تمشي في ركابه, فإذا تعبت أمر بحملك, وأردفك خلفه, إن كنت محبا أردفك خلفه, وإن كنت محبوبا أركبك في سّرجه وركب هو خلفك. من ذاق عرف. القعود مع أهل الأهلية نعمة. ومع الأغيار المكذبين نقمة” الفتح الرباني 24.
فابحث يا أخي عن من يأخذ بيدك ويركبك في سرجه ويحملك ويحمل عنك. قال الإمام سيدي عبد الوهاب الشعراني رحمه الله:”فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى يخرجك عن حكم الطبيعة وتصير تعامل الخلق بالرحمة والشفقة…”العهود المحمدية. من هنا فقد أجمع أرباب القلوب على ضرورة التربية على يد مرشد عارف بالله, خبير بأمراض القلوب, رحيم بالناس…, يقول الإمام سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمه:”لا تصحب من لا ينهضك حاله ويدلك على الله مقاله” الحكم العطائية.ويعلق الشيخ الرندي -رحمه الله- على هذه الحكمة بقوله:”تكلم هنا في الصحبة وهي أصل كبير من أصول القوم, وفيها منافع وفوائد, ولذلك استمر عليها شأنهم قديما وحديثا,وقد نبه المؤلف رحمه الله على فائدتها في قوله:( لا تصحب من لا ينهضك حاله ويدلك على الله مقاله) فإنهاض الحال ودلالة المقال على الله تعالى هو فائدة الصحبة” غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية 66. وفي العوارف:” المقصد الكلي هو الصحبة وبالصحبة يرجى للمريد الخير”عوارف المعارف للإمام السهروردي-رضي الله عنه-. وروي عن الإمام أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال:”من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان, وقال : الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تورق و لا تثمر وإذا أثمرت لا يكون كثمار البساتين المغروسة”.. وقال سيدي الإمام أبو العباس المرسي رضي الله عنه :”كل من لا يكون له في الطريق شيخ لا يفرح به”. أنظر:الفهرسة لسيدي ابن عجيبة رحمه الله.61. ويقول الإمام ابن عاشر رحمه الله في منظومته: “في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك وقال: يصحب شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك” لقد كان علماؤنا رحمهم الله يدرسون هذا لتلامذتهم, ولا أحد ينكر عليهم, بل كان منهم من يطوف الشرق والغرب باحثا عن من يدله على الله تعالى. ومن ماتت همته فليبك على نفسه, ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. يقول الإمام عبد السلام ياسين –حفظه الله ورعاه-:”لابد من مرشد روحي, من ولي يرعى نبتة الكائن الروحي إلى أن يتجذر غرسها ويقوى عودها.(…) ادعوا الله كلما صليتم أن يختار لكم الصحبة – المدرسة – التي تقود خطواتكم وتسند سلوككم إليه, واجتهدوا مستشرفين الأفق الرباني, طارقين بابه دون كلل و لا ملل. فهو وحده أمل الباحثين عن الحقيقة. ابحث أخي,ا بحثي أختي.وأقول للمتشكك اللدود. ها قد انتهت الموعظة المتطرفة. فسلاما” أنظر كتابه : الإسلام والحداثة 244. تب إلى الله أخا الإسلام, ولذ بالصادقين, واصحب أرباب القلوب, فلا تربية بدون مرب, كما جاء ذلك في الآيات السابقة, لابد من مرشد يرشدك ويبين لك السقيم من الصحيح, و لا بد من مرب يأخذ بيدك, ويعلمك الأدب مع الله جل وعلا, والأدب مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, والأدب مع عباد الله أجمعين. اتخذ لك مرب يهدي لك عيوبك, يقول الأستاذ محمد جابري حفظه الله:” هيا تب إلى ربك وابتغ إليه الوسيلة:يد رجل تطهرك وتأخذ بيدك وتتعاون معك على درب الله وعلى صراطه المستقيم, والراكب شيطان, ويد الله مع الجماعة, وأقل الجماعة اثنان:صاحب ومصحوب والله ثالثهما”اليقظة القلبية32.. تب إلى الله وكن مع الصادقين, هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم, والجلوس مع المرحومين رحمة, والنظر إلى أهل الصلاح صلاح, من هنا وجب على المسلم أن يختار الصحبة الصالحة التي تدله على الله جل وعلا, تذكره إذا نسي, وتعاتبه إذا زل وهفا, وتأخذ بيده نحو المعالي طلب وجه الله تعالى ورضاه, حتى يصبح هذا الطلب يؤرقنا أناء الليل وأطراف النهار. “إن من فضل الله على العبد أن يرشده إلى الباب ويدله على الرفيق قبل الطريق,لكون الطريق إلى الله جد موحش,تتصيدك فيه حيات إبليس وتلسعك وأنت على درب الابتلاء(…) المؤمن مرآة أخيه,فيه ترى عيونك,هو الذي ينبهك إلى ما يضرك دنيا وأخرى,هو الذي يكشف زيف دعواك,هو الذي يزيل اللبس عن يقينك”اليقظة القلبية26. وفي قصص السلف الصالح أمثلة كثيرة, راحت تطلب نافح المسك طبيب القلوب كسلطان العلماء ” العز بن عبد السلام”وحجة الإسلام”أبو حامد الغزالي” وغيرهم من أئمة الأعلام”ابن القيم ,السيوطي, ابن عجيبة, والشوكاني…” رضس الله عنهم, راحلوا في طلب العلم المشافه المأخوذ من أفواه الرجال, وجدوا ما كانوا يبحثون عنه في صحبة الأخيار… وأنت يا أخي المسلم من أين تأتيك الاستقامة, إن كنت بحالك راضيا ولطلب الدنيا ساعيا؟ فتضحى فيئا ينتهب وهدفا يرمى من قبل شياطين الإنس والجن, ونسيت يوم ينادي عليك الحق جل وعلا:”أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبنا كنتم تفسقون”. وأقول في هذا الصدد: يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيِي الحُبُّ ذِكْرَهُمْ *** وَالْبُغْضُ يُلْحِقُ أَمْوَاتًا بِأَمْوَاتٍ. ولا يزال ربنا تبارك وتعالى يفيض على هذه الأمة بفضله وكرمه، حيث يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد أمر دينها. عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ سيدنا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ :”إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”( رواه الإمام أبو داود البيهقي والحاكم -رحمهم الله- بسند صحيح، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- في صحيح الجامع.). والمجددون هم الدعاة إلى الله من العلماء العاملين الربانيين، والأولياء الكمل أهل المحبة والصفاء، الذين يؤلفون بين القلوب ويدلون الناس بحالهم ومقالهم، ويصلحون ذات بينهم، فهم ليسوا صالحين وفقط، بل مصلحين، والكريم لا يأكل وحده، عرفوا طريق الحق فنادوا في الناس هلموا إلى حاجاتكم، هلموا إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، هلموا إلى النعيم الخالد، والمنزلة العظمى،… وأرجع لأحدثك أخي الحبيب عن المحبة والصحبة والنصوص الدالة على ذلك: يقول الإمام السيد محمد بن علوي المالكي المكي الحسني رحمه الله:”ومن شرف المحبة الصادقة أنها تجبر الكسر، وتأخذ بيد الضعيف فتلحقه بالأقوياء، وتقدم المتأخر إلى الصف الأول، فيلبس ثوبا يتأهل به لينقلب من حال إلى أحسن حال، ببركة تشبهه بأهل الكمال من أفاضل الرجال”( انظر كتابه: خصائص الأمة المحمدية، ص255.). ويقول الإمام عبد السلام ياسين -حفظه الله ورعاه- :”ومن رُزق في الدنيا من المؤمنين تحابا خاصا عميقا كان له في الآخرة مكانة خاصة. يقول الله تعالى يوم القيامة: “أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظِلُّهم تحت ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلِّي”( أخرجه مسلم ومالك في الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا.). ومن أحب قوما حشر معهم. فانظر يا غافل من يسكن في فؤادك حبّه. روى الشيخان –رحمهما الله- وغيرهما عن سيدنا أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: “متى الساعة؟ قال: “وما أعددت لها؟” قال: لاشيء، إلا أني أحب الله ورسوله. قال: “أنت مع من أحببت”. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي:أنت مع من أحببت.
قال أنس: فأنا أحب النبيَّ وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم”(..) اهرُب من قرناء الغفلة، وارْتَمِ في أحضان قوم صالحين، وابك على ربك ليرزقك محبتهم، عسى أن تنجوَ من وَرطة الانحشار في زمرة الهالكين. فإن حب الصالحين يُثمر حب الله، وحب الله يثمر حب الصالحين”( كتاب الإحسان، 1/189-190.). ولذلك اعتبرت هذه المحبة من أفضل وأحب ما يتقرب به العباد إلى الله جل وعلا: محبة الله تعالى ونبيه المصطفى وآل بيته و الصالحين المصلحين من عباد الله – أولياء الله تعالى- ؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سيدنا رسول الله : إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذَنته بالحرب. وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعِلُه تردُّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مَساءَتَه، فالله جل وعلا قدم فضيلة المحبة على سائر الأعمال. “من عادى لي وليا”:فمنطوق الحديث :أن من حارب وليا من أولياء الله تعالى بأي وسيلة من الوسائل كالكلام في عرضه والتنقيص من قدره, أو قدر محبيه والافتراء عليه و… فإن هذا المحارب قد دخل في زمرة الهالكين المغضوب عليهم الذين جاء الوعيد الشديد -في الحديث القدسي المذكور- بتحذيرهم من مغبة معاداة أولياء الله تعالى الذين قال في حقهم الباري جل وعلا:”ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة”. هذا عن منطوق الحديث، أما مفهوم الحديث –حسب تعبير علماء الأصول في المفهوم والمنطوق- :”من عادى لي وليا”:أي من أحب لي وليا أحببته، فالقلوب عليها أقفالها، لا تفتح هذه الأقفال إلا بهذه المحبة الدالة على الله تعالى والمرشدة الناس إلى طريق الرشاد, العارجة بهم إلى مقامات الإحسان. فمن تحققت له المحبة انحلت عقد قلبه لأنه ظفر بالكنز الذي لا ينفذ, والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة. ثم يأتي الحديث -حديث الولي – يرغب ويحث ويحض على القيام بما افترضه الله علينا، وأدائه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، بدءا بإقامة الفرائض وإتمامها، وبخاصة الصلاة التي هي عمود الدين الإسلامي الحنيف وروحه وآكد أركانه بعد الشهادتين .. ولمزيد بيان لهذا الأساس أورد أحاديث أخرى توضحه أكثر: رواه الإمام الطبراني رحمه الله عن الإمام علي –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيت نبيكم، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبياء الله وأصفيائه”. انظر معي أحي الحبيب إلى هذا الحديث الشريف، وتأمل في معانيه الجليلة، وابحث في السر الذي جعل سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقدم محبته ومحبة آل بيته على تلاوة القرآن، فصلى الله على الحبيب ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، أوتي جوامع الكلم, كلامه نور وبرهان… فالقرآن الكريم نور نزل به النور (سيدنا جبريل عليه السلام) من النور(الله جل وعلا) على النور ( الحبيب صلى الله عليه وسلم)، فإذا أحببت هذا النور صلى الله عليه وسلم سرى نور القرآن في قلبك بفضل هذه المحبة الصادقة العميقة، وسهل عليك حفظه وفهم معانيه ؛ لأنك أحببت القلب الذي أنزل عليه القرآن ويسر بلسانه وتخلق بأخلاقه “كان خلقه القرآن” كما روت السيدة الطاهرة العفيفة النقية الفقيهة الصديقة بنت الصديق أمنا عائشة رضي الله عنها. فالصحابة رضي الله عنهم أوتوا الإيمان قبل القرآن، شربت قلوبهم الإيمان من القلب الذي أنزل عليه القرآن، أخذت منه الإيمان وأخذت منه القرآن.
الروح كالريح إن مر على عطر طابت وتخبث إن مرت على الجيف
أحب الصحابة رضي الله عنهم حبيبنا ومولانا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة شديدة فأفاض الله عليهم من بركة محبته ما صيرهم إلى أن يفتدوه بالمهج، فكانت أخلاقهم قرآنية, وتربيتهم قرآنية, ومعاملتهم للناس قرآنية, ومعاشرتهم لأهاليهم قرآنية, وتربيتهم لأولادهم قرآنية, ومواقفهم قرآنية, فرضي الله عنهم جميعا، فما بلغوا ما بلغوا إليه إلا بالمحبة والصحبة وبها سموا صحابة. فنحمد الله جل وعلا الذي أكرم هذه الأمة بالرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، والحمد لله الذي أكرمنا بِوُرَّاثِه من بعده. قال الحبيب المصطفى :يا أيها الناس؛ اسمعوا واعقلوا إن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. فَجَثى رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي .
فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لنا، حلهم لنا -يعني صفهم لنا شكلهم لنا-، فََسُرَّ وجه النبي بسؤال الأعرابي، فقال رسول وآله وسلم-: هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( رواه الإمام أحمد وأبو يعلى –رحمهما الله- بإسناد حسن. والإمام الحاكم وقال:صحيح الإسناد –رحمه الله-. ).
كرر عليَّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
فلابد أخي في الله من تربية لهذا الإنسان الذي يحمل مشروع الأمة في التغيير. “فالتربية بداية السير، فمتى كانت متينة على هدى من الله كان الجهاد ممكنا، وإن أخللنا في التربية فلا يصح أن ننتظر نصرا من الله”( المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص14.). والتربية تكون بالصحبة في الله والحب في الله، ” من أين يأتيك شَغَفُ حب الله، ولَهَفُ الإقبال على الله, وعزيمةُ الصبر على الله ومع الله، وحزمُ اتباع سنة رسول الله عملا بالقلب والجوارح، لا نبزا لمخالفك باللفظ الجارح؟ من أين من أين؟ ذلك باب تقرعه ولا من يجيب إن لم تنهض بك هِمَّةٌ، ولم ترِشْ جناحك من المَلَك لِمَّة. الهمة واللمة المدخل إليهما صُحْبَةٌ في الله، وتحابٌّ في الله، وكينونة مع الصادقين أهل القرآن أهل الله. الصحبة في الله في مجالس الإيمان والذكر. مجالس يباهي الله عز وجل بها الملائكة, وليل تقوم فيه إلى صلاتك وتهجدك. ناشئة الليل التي هي الجد، وتُعوِّد لسانك على ذكر الله في كل أحوالك، وقَلْبَك على الحضور مع الله في حَلِّك وتَرْحالك. ذلك، أو تزداد قلوب مواتا، ويطول الأمد فتقسو القلوب وتتحجر فإذا هي رُكامٌ ركيمٌ وعظمُ رميمٍ”( الرسالة العلمية للإمام سيدي عبد السلام ياسين –رضي الله عنه-، ص51.). مسك الختام: إن أمتنا أمة سند، يقول العلامة الإمام أبي الحسنات محمد اللكنوي رحمه الله:”الإسناد مطلوب في الدين، قد رغبت إليه أئمة الشرع المتين، وجعلوه من خصائص أمة سيد المرسلين، وحكَمُوا عليه بكونه سُنَّةً من سنن الدين” (أنظر كتابه: الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة، ص21). وقال سيدنا سفيان الثوري رضي الله عنه:”الإسناد صلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سرح فبأي شيء يقاتل”( ذكره الإمام السخاوي -رحمه الله- في شرح الألفية). وفي شرح النخبة للعلامة علي القاري-رحمه الله-:”أصل الإسناد خَصِيصةٌ فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية، وطلب العلو أمر مطلوب وشأن مرغوب” (ص194. وانظر كذلك: شرح المواهب اللدنية بشرح الزرقاني 5/455، وخلاصة الطيبي). ومن خلال هذه النقول تتبين لنا أهمية الإسناد في كل أمر من أمور الدين، في الحديث، وكذا في السلوك وباقي علوم الشريعة الغراء. وديننا الحنيف وصلنا عن طريق السند أي الصحبة والمحبة، صحبة ومحبة الصحبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحبة ومحبة التابعين للصحابة، وصحبة ومحبة تابعي التابعين للتابعين، وهكذا سلسلة متصلة الحلقات إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا ينقطع لها حبر ولا ينمحي لها خير إلى يوم القيامة. وإن أنكر الأعمى على الشمس ضوءها *** فما ضرَّها شيئا ولكن أتى نكرا. وخلاصة المرام في هذا المقام: إن الحديث عن الصحبة والمحبة لا تكفي فيه صفحات قصار على عجل، بل هو موضوع العمر، لكن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. إن المحبة هي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون وإلى نيلها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون وبأريجها الطيب تروح القانتون فهي نور القلوب وغذاء الأرواح, وقرة العيون وراحة النفوس, وضياء العقول, وعمارة البيت الباطني “وطهر بيتي للطائفين”, وحياة الأفئدة. وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات, والنور الذي من فقده فهو في ظلمات ثلاث، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه الأسقام وابتلي بالويل والثبور وعظائم الأمور, واللذة التي من لم يظفر بها عيشه كله هموم وآلام, فهي روح الإيمان والأعمال والمقامات التي متى خلت منها فهي كالجسد بلا روح، وكالقفل على خربة، وكالباب بلا دار. هي العروة الوثقى, والمنزلة العظمى, والسعادة الكبرى, من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا, ومن حرمها فقد حرم كل خير وفضل ونعمة, هي الغاية التي وجدنا من أجلها, لولاها ما كان خلق ولا أكوان. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس, وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصلها, وتبوءهم من مقاعد الصدق عند مليك مقتدر لم يكونوا لولاها داخليها, وهي مطية القوم إلى التي مسراهم على ظهرها إلى الحبيب الطبيب, وسبيلهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم من قريب. تالله وبالله ووالله لقد فاز أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم معية محبوبهم أوفر نصيب وأقرب مقام وأقرب مقام وأحسن منزلة وقد قضى ربنا جل في علاه يوم قدر مقادير الخلائق بحكمته البالغة أن المرء مع من أحب, ومن أحب قوما حشره الله في زمرتهم, فيا لها من سعادة أبدية, ونعمة خالدة ومنة ربانية ونعمة إلهية. ولا تنسوا أخوكم: رشيد كهوس من دعوة الخير. اللهم صل على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. والحمد لله رب العالمين