إن التصوف أضحى اليوم قانونا ضروريا لتحقيق التوازن في الحياة، وطريقة معَبدة للانسجام مع فطرية الوجود وبساطته، ومنهاجا محتما لتسديد القيم والسلوك، وشريعة غضة تستطيع برسالتها أن توجد الحلول الناجعة للمشاكل التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية، وترزح تحت وطأتها فئات من المهووسين بحمى الحياة المعاصرة، وتعيش من وراء حجابها فئام من المضطربين والحيارى الذين فقدوا تفسيرا واضحا لحقيقة وجودهم، ومعنى حياتهم.
فالتصوف بهذا الاعتبار والتقدير، سفينة النجاة التي تمخر عباب الأمواج العاتية للحياة المادية الفاقدة للروح والغاية، والمحطة التي تزود الإنسان بطاقة روحية ووجدانية تفيده في تحرير نفسه من سلطان الهوى، وربقة الشهوة، وأغلال النزوة.
لكن هذا الإرث الروحي تعاملت معه أطياف كثيرة بالتعمية والنقض، وطالته ألوان عدة بمعاول الهدم والطمس، وأرسلت إليه سهام طاعنة، وأطلقت عليه حداد الألسنة تسلق أهله بكل تؤبة وشنار، وتجرح محبيه بكل نقيصة وعار، وهذا ما يستلزم من أربابه أن يدافعوا عن بيضته، ويستوجب من معتنقيه أن يحموا ذماره، ويعرفوا بحقيقته، ويجلو مذهبه، و إلا تسممت العقول بالإنكار، وتصحرت النفوس بالجفاء، وهبت على القلوب رياح الاشتباه، وتولت على الباطن موجات الشك والارتياب، واستولت على السلوك أحاسيس المصلحة والاضطراب، وانتفت من الأرواح حب الحياة الروحية، وأثرة الانتساب إلى معاهد الصلاح، ومغاني الأخيار، فيتحول الإنسان المفتون بالعولمة والعصرنة قهرا إلى النظرة العجلى للحياة، والرؤية المسطحة الفاقدة للبراهين والدليل العلمي، وهذا مربط الضرر، وموقع الخطر.
فما هي أهمية التصوف؟؟
أولا: إن التصوف يعد جامعة شعبية تجمع مكونات الثقافة الإسلامية، ومختلف شرائح المجتمع الإسلامي، فالفلاسفة والحكماء، والمتكلمون والإلهيون، والمفسرون، والمحدثون، وأهل الفقاهة، وأرباب الأدب والشعر، وسائر طبقات الناس من العلية إلى السفلة، ومن النجباء إلى البلداء، يستطيع التصوف أن يمدهم بوهج يوقد أنوار الهداية في حياتهم، ويعطي غاية وهدفا حقيقيا لوجودهم.
ثانيا: إن التصوف يمثل الحياة الروحية للديانات السماوية، ويجسد حقيقة التدين الصحيح الذي يحرك الإنسان في دائرة الفعل المسئول، فلا حقد، ولا عداء، ولا حسد، ولا بغضاء، ولا كراهية، ولا إسفاف بحق الألوهية والربوبية، ولا تطاول على حقوق المخلوقين والعباد، فالتصوف هو الموصل للعبد الصادق إلى حضرة علام الغيوب، والمبلغ إلى مالك الملوك، وهو الجسر الذي يعين الإنسان على التعايش السلمي مع أخيه الإنسان، ويسير له أسباب الالتقاء والمقام الأمين.
ثالثا: إن التصوف يُعلِم الإنسان على اختلاف وظيفته في الحياة، ووظيفة في السلم الاجتماعي، كيف يحب غيره، فهو قيثارة الحب، وقانون الود، ومشتل الصفاء، فبالحب تصفوا الأرواح، وتسمو النفوس، وبالحب ستكتب الأمة قيمتها بين الأمم، وتعلوا مكانتها بين الأقوام.
رابعا: إن التصوف يبرُز في خاصيته بمثابة نقطة المحور التي تلتقي في رحابتها جميع المذاهب والمشارب، فالسني إلى جانب الشيعي، والماتريدي إلى جانب الأشعري، والمالكي إلى جانب الشافعي، وهكذا دواليك، فلكل حظ من هذا الإرث الروحي، ونصيب لا ينكر.
خامسا: إن التصوف يقدم للإنسان حلولا عملية تساعده على ترويض نفسه، وتهذيب أخلاقه، وتخليص ذاته من الأنانيات المفرطة، والإنيات النورانية، ويعطي أملا في تهيئة الأنفاس والحواس الباطنية والظاهرة للإقبال على الله عز وجل، والبلوغ إلى غاية استحضار عظمته في ملكه وملكوته، فمن اقتادته الأقدار، وساعدته الألطاف، لا بد أن ينتهي إلى مراده، ويستبين مقصوده، ومن لم تلحظه عناية الله بقي جامدا تقتله فترة البعد والسحق، وتُنقصه من مقاماته ساعات اليأس والحنين.
فالتصوف يعبر كما يقول بعض الباحثين: عن شوق الروح إلى التطهر، ورغبتها في الاستعلاء على قيود المادة وكثافتها، وسعيها الدائم إلى تحقيق مستويات عليا من الصفاء الروحي، والكمال الأخلاقي.
سادسا: إن التصوف يدفع عن المسلم غلواء الحياة، وفحيح الحضارة، وضغطة المادة، فنحن كما يقول سعيد حوى في كتابه تربيتنا الروحية، في عصر مادي، وهذا يقتضي منا أن نقابله بفكر مكافئ، وبحيوية روحية عالية، ونحن في عصر شهواني، وهذا يقتضي منا أن نقابله بأشواق روحية راقية مع تأمين الشهوات المباحة وإبقاء منافذها مفتوحة. والمتتبع لمسار المدنية المعاصرة يلحظ ابتعادها عن محور الوجود، وغفلتها عن المعاني الخالدة، والجوانب الملكوتية في النفس البشرية، ويلمس إيلاءها الرعاية القصوى، والأهمية الكبرى للجانب الحيواني في الإنسان، فالربح واكتناز الثروة، والرفاه المادي، والغنم السريع، صار مع التحولات الاقتصادية غاية الآملين للحياة الوديعة، ومنتهى غايات المحمومين بسعار الحضارة، وهذا ما أنتج كما يقول القرضاوي في كتابه الإيمان والحياة شعورين مختلفين، أولا: شعور الإنسان بالتفاهة والضياع، ونظرته إلى نفسه نظرة حيوانية بحتة، ثانيا: شعور الغرور والكبر، ذلك الشعور الذي ينتهي بالإنسان إلى تأليه نفسه حتى يسقط وجود الإله الحق من اعتباره، ويتصرف كإله لا يسأل عما يفعل، كما زعم جوليان هسكلي حين قال: “إن الإنسان في العالم الحديث أصبح هو الله المنشئ المريد”.
إن الفراغ الروحي، والعطش النفسي، والاضطراب الذي يواجهه الغربيون وأزلامهم من أبناء جلدتنا، لا يمكن القضاء عليه إلا بالإجهاز على مسبباته، والقضاء على موجداته، ولا مسلك يؤدي حتما إلى اقتلاع هذا الهوس من قلوب وعقول وأرواح كثير من شباب اليوم إلا بإحياء القيم الروحية، وتعبئة المتدينين للأخذ بما يضمن سلامة أرواحهم من عواصف فتنِ ومغريات الحياة، ويؤمن للمجتمع استقراره وهدوءه وطمأنينته، ويمد الحياة في مشكلاتها بحلول ناجعة، فالعصر الذي نعيش فيه كما يقول سعيد حوى في تربيتنا الروحية( ص12):” عصر الشهوة، وعصر النزوة، وعصر المادية، ولا بد أن تقابل هذه الأشياء فيه بما يكافئها ويقابلها، وإن التربية الصوفية وحدها هي التي تقابل ذلك، فالشهوة لا تحل مشكلتها المقال وحده، بل لا بد من الشعور والذوق والإحساسات الإيمانية مع المقال، والتمرد لا يعالج بالكلمة وحده، بل يعالج بالإخبات لله والتقوى والورع والأدب، وهذه طريقها العملي هو التصوف” فالتصوف كما يقول بعض الباحثين: يغطي زوايا حساسة ومهمة في حياة الأفراد، ويلبي الخَوَاء الروحي والنفسي الذي يعيشه الغربي في حياة الفكرية وحضارته المادية.
سابعا: إن التصوف يفسر الوجود، ويكشف الحقائق الكبرى للكون، عن طريق ذوقي بدون وسائط، وقد احتار الناس قديما في هذه الحقائق، دون أن يجدوا لها مدلولا إلا داخل التجربة الصوفية التي تعبر عن نظرية معرفية ذوقية مستوحاة من القرآن.
ثامنا: إن التصوف يعلم الإنسان كيف يستشعر مسؤوليته في موقعه من الحياة، ويحفزه لتنمية جوانبه المرتبطة بكون الروح الذي أودعه الله بجسده، ويهيئه لتعميق تجربة الإيمان ذوقا ووجدانا بعد أن كانت أنظارا فلسفية لا تفيده في قيام علاقة فيما بينه وبين نفسه وكونه وعالمه العلوي والسفلي، فينتقل الإنسان بواسطة التصوف إلى إنسان مسدد مقوم يتحرك في فلك الحياة بقابلية الخير والرشاد، ويسعى في مجال العبادة بنية خلوصة تدفع عنه الريب والشكوك، وتمنعه من حضور الأغيار في ممارساته العبادية.
تاسعا:إن التصوف بعد من أبعاد التجربة الدينية، ما دامت التوجيهات الدينية مرتبطة بالجانب العقدي والأخلاقي، فالتصوف فقرة أخيرة من فقرات السير الذي ينتقل فيه المتدين من الإسلام شعيرة، إلى الإيمان عقيدة، إلى الإحسان سلوكا، فالتصوف عبارة عن التخلية عن الأخلاق الأرضية، والتحلية بالأخلاق الملكوتية، والتدثر بالصفات الإلهية،
عاشرا: إن التصوف يعلم الإنسان كيف يحتفظ على أعمال الظاهر والباطن، وكيف يرسم الطريق الموصل إلى تحقيق ذلك، فالظاهر يجسد جوهر العمل بإحدى الجوارح والكواسب، والباطن يمثل الحقيقة الدافعة إلى العمل، والغاية المقصودة منه، فإذا فسد الباطن تحولت العبادة إلى فراغ لا ترجى منه فائدة ولا عائدة، وإذا صلح أثرت في سير الإنسان، وجعلت عبادته مقبولة تؤثر على الإنسان في مسار حياته وسلوكه، يقول السيوطي: (وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوها، فقال الغزالي: إنها فرض عين) [“الأشباه والنظائر” للسيوطي ص504]، فتطهير الباطن يؤثر في سداد الظاهر، والنصوص متواترة في شأن ذلك، قرآنا وحديثا. يقول ابن عابدين في حاشيته الشهيرة: (إن علمَ الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرضُ عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة، والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من “الإحياء”. قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجاً إليه.
وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه) [“حاشية ابن عابدين” المسماة رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، ج1/ص31]. فالتصوف هو الذي اختص بتبيان معرفة أدواء الأرواح، ووسائل علاجها، وطرق المحافظة على سلامتها.
إحدى عشر:إن التصوف يحقق للإنسان فردانيته التي تجعله مسئولا عن أفعاله واختياراته، فلا يعيش تحت تأثير أو مجريات أخرى تجعله مسلوب الإرادة، فاقد الحركة، فهو من الله وإلى الله، وغايته أن يفنى في الله عز وجل حضورا وفقدا، ووجودا وعدما، والتصوف في خدمة الإنسان حتى تكتمل دوراته وقراراته، وتنتهي حياته دون خنوع إلا للجمال الإلهي، يقول ابن عربي::” فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ” ( فصوص الحكم )
إثنا عشر: إن التصوف يقرب صورة المعتقد والعبادة على أنها بسيطة غير معقدة، بخلاف المماحكاة المنطقية التي شغلت المتكلمين والفلاسفة ردحا من الزمان.
أسباب عدم اعتبار التصوف قيمة جمالية
أولا: المصطلح الذي سبب للكثير من خصومه خللا في الفهم جعلهم يهاجمونه بكل قذيعة وقبيحة، ويتهمونه بما ينقص من قيمته وأهميته.
ثانيا: ظلم المنتسبين إليه له بانحرافهم عن المعاني الحقيقية للتصوف إلى ترهات وخرافات ومنامات تعطل الدور الحضاري للأمة، وتنتقص من قيمة الشرع والعقل، وتدفع بالآخر إلى الاتهام له بأنه وافد حقير، ومبتدع ضليل.
وقد تخذ من رام التصوف بلوم هؤلاء المتسمين بسمته رُوحَه وصورته، وهم في جلية أمرهم، طائفة تدعي التصوف كذبا وزورا، وتدعوا إليه خداعا ونفاقا، وفات المعترضين على التصوف بسببهم، أن التصوف لا يعبر عنه إلا من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر، كما قال سيد الطائفة الإمام الجنيد.
ثالثا: الاتجاهات الفكرية والسياسية التي كانت على خط التماس مع التصوف، فإما أن تخدم المعارف الدينية بما فيها التصوف مصالح هذه الطبقات المستغلة للدين في جملة من مناحي حياتها، أو أن يمس بتهمة التواطؤ والعمالة للغير خصوصا الأجنبي، وقد جارى هؤلاء المتهِمين من الساسة وأرباب الفكر في القديم، مستشرقون نبذوا التصوف بدوافع استعمارية، ونبزوه ببعض الشطحات التي صارت عند كثير من الباحثين المعاصرين علما على التصوف، لا يذكر اسمه إلا وتستحضر صورها الذهنية في عقول كثير ممن قرأ عنه في كتيبات تهدى ولا تباع، والغريب أن بعض المجتِرين لأفكار هؤلاء المستشرقين أعداءِ الحياة الروحية في الإسلام، هم من فصيل التراثيين الذين يدجنون الفكر بالسلفية والرجوع إلى الماضي..
رابعا: اعتقاد أن التصوف يقوم بأدوار هامشية في عملية الحراك الاجتماعي، فهو بعيد كل البعد عن الأحاسيس والمشاعر التي تنتاب مؤسسة المجتمع العربي، وتتفاعل مع نشأة التاريخ البشري، بل الأدهى أن يكون التصوف شماعة تعلق عليها تداعيات تخلف الأمة وتقهقرها في ميادين الحياة.
خامسا : عسر هذه المفاهيم الروحية، والمعاني الوجدانية على كثير من رواد الثقافة الإسلامية.
سادسا: امتزاج الأذواق الصوفية بما هو مشترك فيما بينها وبين الديانات والفلسفات الأخرى، وتكرار المقولات التي توحي بوجود تقابل فيما بين التصوف الإسلامي وغيره، (الشريعة، الطريقة، الحقيقة عند المسلمين، في مقابل التطهر، التأمل، الإشراق لدى المسيحيين) بل دعا ذلك إلى اعتبار اللاحق جزءا من السابق، وإن كان اللاحق لا يعاني بعد المسافة من السابق لتوحد المصدر والغاية.
____________
المصدر : منتديات النفيس .
http://www.elnafeas.net/montada/index.php?s=a7587117c712a4428eda29dfa520c766&showtopic=4886