الدكتورة سعاد الحكيم
لقد أفرد الشيخ الأكبر كتاباً خاصاً للكلام على هذه الأرض ، كما أفرد لها باباً في الفتوحات ( الباب الثامن ) ، ننقل منه نصاً طويلاً يبين ماهية هذه الأرض وما تحويه من الغرائب ، ومن معطيات النص نستطيع أن نستخلص تحديداً لأرض الحقيقة عند الشيخ الأكبر ، يقول :
« اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام الذي هو أول جسم إنساني تكّون ، وجعله أصلاً لوجود الأجسام والإنسانية وفضلة من خميرة طينته فضلة خلق منها النخلة فهي أخت لآدم عليه السلام وهي لنا عمة … وفضل من الطينة بعد خلق النخلة قدر السمسمة في الخفاء ، فمد الله في تلك الفضلة أرضاً واسعة الفضاء ، إذ جعل العرش وما حواه ، والكرسي والسماوات والأرضون وما تحت الثرى والجنات كلها والنار في هذه الأرض ، كان الجميع فيها كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض ، وفيها ( فضلة طينة آدم ) من العجائب والغرائب ما لا يقدر قدره … وفي هذه الأرض ظهرت عظمة الله ، وعَظُمت عند المشاهد لها قدرته ( تعالى ) وكثير من المحالات العقلية ، التي قام الدليل الصحيح العقلي على إحالتها ، هي موجودة في هذه الأرض .
وهي مسرح عيون العارفين … وإذا دخلها العارفون إنما يدخلونها بأرواحهم لا بأجسامهم فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيا ويتجردون … وتعطي هذه الأرض بالخاصية لكل من دخلها الفهم بجميع ما فيها من الألسنة …
ودخلت في هذه الأرض أرضاً من الذهب الأحمر اللين ، فيها أشجار كلها
ذهب …
ودخلت فيها أرضاً من فضة بيضاء في الصورة ذات شجر وأنهار وثمر شهي كل ذلك فضة … ودخلت فيها أرضاً من الكافور الأبيض …
وكل أرض من هذه الأرضين التي هي أماكن في هذه الأرض الكبيرة لو جعلت السماء فيها لكانت حلقة في فلاة بالنسبة إليها …
وخَلْقُهَا ( سكان أرض الحقيقة ) ينبتون فيها كسائر النبات من غير تناسل بل يتكونون من أرضها …
وسرعة مشيهم في البر والبحر أسرع من إدراك البصر للمبصر …
ورأيت في هذه الأرض بحراً من تراب يجري مثلما يجري الماء .
ورأيت أحجاراً صغاراً وكباراً يجري بعضها إلى بعض كما يجري الحديد إلى المغناطيس فتتألف هذه الحجارة … فإذا التأمت السفينة من تلك الحجارة رموا (سكان أرض
الحقيقة) … بها في بحر التراب وركبوا فيها وسافروا حيث يشتهون …
ومدائنها ( مدائن أرض الحقيقة ) لا تحصى كثرة …وجميع من يملكها من الملوك ثمانية عشر سلطاناً …
وأهل هذه الأرض أعرف الناس بالله ، وكل ما أحاله العقل بدليله عندنا وجدناه في هذه الأرض ممكناً قد وقع …
فعلمنا أن العقول قاصرة وأن الله قادر على جمع الضدين ، ووجود الجسم في مكانين وقيام العرض بنفسه وانتقاله …
وكل جسم يتشكل فيه الروحاني من ملك وجن وكل صورة يرى فيه الإنسان نفسه في النوم فمن أجساد هذه الأرض … »(1) .
نستخلص من النص السابق ما يلي :
- إن هذه الأرض فضلة من طينة آدم عليه السلام ، وهذا يجعلها مغايرة لكل
المخلوقات ، لأنها أكسبت الصفات التي منحها الله جسم آدم الجامع لحقائق العالم ، ومعلوم أن نشأة جسم آدم من طين سواه الحق عز وجل بيديه ، فتكون هذه الأرض بتلك الصفة اكتسبت كل الأسرار والغموض والعجائب التي يتفنن في وصفها وإيرادها الشيخ الأكبر ومن أتبعه .
- إن هذه الأرض تجمع الأضداد حتى المحالات العقلية في واقعها ، فهي من ناحية قدر السمسمة في الخفاء ، ومن ناحية ثانية العرش وما حواه والكرسي والسماوات والأرضون كلها فيها كحلقة في فلاة ، كما أن الداخل إليها يرى الكثير من المحالات العقلية ممكناً قد وقع كوجود جسم في مكانين ..وهذا الجمع للأضداد هو من مظاهر قدرة الله وعظمته …
- إن هذه الأرض بإيجاز : هي عالم الخيال الذي ندخله بالروح ، عالم الخيال كما يفهمه ابن عربي …
بعد هذه الملاحظات نستطيع أن نحدد ارض الحقيقة بأنها : أرض بقدر السمسمة تتسع لكل العوالم ، بقيت من طينة آدم ، كل المحالات العقلية واقعة فيها ممكنة ، لأنها مظهر لتجلي صفة القدرة ، وهي من عالم الخيال ، مسرح لعيون العارفين يدخلونها بأرواحهم (2) .
______________
(1) -الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 1ص 126 – 130 .
(2) – د . سعاد الحكيم – المعجم الصوفي – ص 69 – 71 ( بتصرف ) .