أ.د.ضاري مظهر – جامعة بابل
الحلقة الثالثة : البنفسجي والارتقاء المبارك
ما بين الأزرق والأحمر تتسع المسافة ,لتحتل قسماً كبيراً منها مرتبة الأصفر (النفس اللوامة )تلك المرتبة التي تقع ما بين مرتبتي الأمارة بالسوء والنفس الملهمة ، ومثل فعل الأخضر بالأزرق تكون فاعلية الأحمر فيه صفات الأزرق تحترق في الأحمر , وكأن الأزرق لم يكن شيئاً مذكورا ، إنها عملية ذوبان هوية بهوية أُخرى تلك نهاية انبجس عنها بداية تعرب عن صيرورة جديدة تنتمي إلى عالم اللاهوت ، من هنا يعلن البنفسجي عن هويته ، كونه قطع شوطاً باتجاه الولاية .
البنفسجي هو المعدن النفيس ،الذي تحول من خلال خاصية التفاعل ما بين الأحمر الناري , ومعدن الأزرق الرديء ، تماماً مثل معدن الذهب ، الذي لا يظهر على حقيقته إلا بعد أن يمر بجملة من التطهير ، كمعاملته مع بعض الحوامض ومن ثم مع بعض النيران المذيبة حتى يستخلص من شوائبه فيعود له لونه الناصع الذي تفتقر إليه المعادن الأخرى ، كذلك البنفسجي فهو تحويل جذري وشامل للأزرق حتى عاد إلى سابق عهده (فطرته الأولى ) بعد أن أُ زيلت وتشذبت عنه صفات السوء ، فأصبح بذلك نفيساً مثل نفاسة الذهب .
فمرتبة الأزرق كما تراها الصوفية , ذات دلالات ( كالجهل والبخل والحرص والكبر والغضب والشره والشهوة والحسد وسوء الخلق والخوض فيما لا يعني من الكلام ، وغيره ، والاستهزاء والبغض والإيذاء باليد واللسان لان هذه النفس هي المشار إليها بالخسران) (الكسنزان ،محمد عبد الكريم ، الطريقة العلية ..نفس المصدر السابق ،ص 110 ) .
ويبدو أن مرتبة البنفسجي هي أشبه ما تكون من طبيعة النار المحرقة ، غير أن الوقود هنا تلك الصفات الذميمة التي تتحلى بها مرتبة النفس الأمارة بالسوء ذات اللون الأزرق ، فالأزرق وما يمتلكه من صفات هو الوقود الذي يديم فاعلية النار وديمومتها وتنتهي مرتبة البنفسجي بانتهاء آثار مرتبة الأزرق ، وعلامة ذلك نهاية حظ العبد بالفناء في مرتبة الحق ، حيث لا لون ولا وصف يمكن أن يحد به أو يقيد به ، يعود كما كان عليه قبل أن يكون في الأشباح ، تلك النفخة التي تمثل امتداد النور بكل ما يمتلكه من صفات الحق تعالى ،وهو عالم أحسن تقويم ،يقول تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين:4) بعد احتراق الصفات السفلية ،ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (التين:5) . وقد تمت عملية الإحراق بحسب مقتضى الرحمة الإلهية التي اقتضت تنوير الروح بمدها بأسباب ترقيها بحيث يساعدها هذا الترقي بأن يجعل لها تمكيناً معرفياً ونوراً تمشي به يعينها على تجاوز الحجب الظلمانية ،فاللون البنفسجي وكما يبدو عليه أشبه ما يكون بتلك النار التي أحرقت صفات الأزرق ،فأحرق لهيب المعرفة قش الجهل ، وأحرق لهيب الكرم والجود أي اثر للبخل ، وأحرق التواضع كل مظاهر الكبر ، وأحرق اللطف كل مظاهر الغضب وهكذا بقية الصفات تحرق الصفات الرديئة حتى تصبح عوالم خالية من أي دنس وتعلق .
إن مرتبة النفس الملهمة ذات النور الأحمر ، وكما أخبرت الصوفية عنها تتصف بالسخاوة والقناعة والعلم والصبر والتحلم وتحمل الأذى ، والعفو عن الناس وحملهم على الصلاح وقبول عذرهم وشهود بأن الله آخذ بناصية كل دابة , فلم تبقى لهذه المرتبة أي حال من الاعتراض على أي مخلوق أصلاً ، ومن صفاتها الشوق والهيمان والبكاء والقلق والإعراض عن الخلق والاشتغال بالحق، وحب الذكر وبشاشة الوجه والفرح بالله .(نفس المصدر السابق ، ص 111 ).
وتلعب مرتبة الأحمر دوراً كبيراً من كونها وجه من أوجه الرحمة حين تتوجه بكل عزم على انتشال الأزرق من استغراقه في الضلالة فمرتبة الأحمر هي عين المدد والإسناد للأزرق من أجل أن يتخطى محنته ،وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(البقرة: من الآية105) وبعد أن يتم له الجذب والاجتباء بمقتضى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ (آل عمران: من الآية42) ومن ثم أوجد لها أرضاً طيبة من المراتب ليجد فيها غرسها منبتاً صالحاً للمكاشفات ومختلف المذاقات ، يقول تعالى : فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً(آل عمران: من الآية37) فأثمرت من بعد ذلك وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(الحج: من الآية5) من المعارف الحسية والروحية التي يكتمل بها نصاب المعارف الصحيحة ، لأن الظاهر حق مثلما الباطن حق والجمع بينهما هو من سنينة الحقيقة المحمدية .
لقد أسفر الصراع بين مرتبتي الأحمر والأزرق عن ولادة مرتبة البنفسجي ، فاصطبغت هذه المرتبة بصبغة الأحمر ، أو لنقل أخذت منها ما يجعلها أكثر رقياً شكلاً ومضموناً ، ولم يبق من مرتبة الأزرق شيء في عالمها، لأنه تجرد وتخلى عن كل صفات مرتبة النفس الأمارة بالسوء ، بفضل عناية الحق تعالى ،بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (الأنبياء:18) .
ومرتبة البنفسجي هي ليست بالضرورة أدنى من مرتبة النفس الملهمة ذات النور الأحمر ،صحيح أن البنفسجي انبجس عن فاعلية الأحمر إلا إنه تجاوز مرتبة الأحمر بفضل تقريب واعتناء الحق تعالى له بمقتضى وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(البقرة: من الآية105) أو لنقل بدقة أكثر إنها عبارة عن ارتقاء مرتبة الأحمر بعد أن تخلت وتخلصت بشكل نهائي من جميع شوائبها، وإن أوصافها بدأت تتقارب من أوصاف مرتبة النفس المرضية ذات النور الأسود ، أي : بلغت مرتبة السيادة على الذات بفعل تمكين الحق لها ، والسيادة هنا بالله تعالى ، ومن تكن سيادته بالله فلا عودة ولا خسران ،وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(الروم: من الآية47) فالبنفسجي هنا هو ارتقاء مبارك لأنه اختصر الكثرة من المراتب باتجاه الحق في سفرٍ مبارك ، وهو حال أهل العناية والتمكين من المرادين الذين يشملهم قوله تعالى :إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (الأنبياء:101 ،102 ).