أ.د.ضاري مظهر – جامعة بابل
الجوزي والطاعة الملهمة
للطاعة وجهان ، وجه يكون في المطيع يطيع قسراً ، ووجه يكون الطائع فيه يطيع اختياراً ،والكون كله مجبول على الطاعة اختياراً فيما عدا الإنسان والجن لأنهما مخيرين في ذلك، يقول تعالى :ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت:11)
وللطاعة مراتب خيرها ما كان عن طريق العلم والمعرفة ، وللون الجوزي وجه يدل على هذا ، ذلك لأنه وليد تزاوج مرتبتين لهما من الدلالات ما يشير إلى هذا الأمر ، وهما مرتبة النفس الملهمة ذات النور الأحمر ، ومرتبة النفس الراضية ذات اللون الأخضر ،فاللون الجوزي له من الدلالة ما يقابل به اندفاع مرتبة النفس الملهمة، باتجاه اختصار المراتب التي تعلوها وصولاً إلى مرتبة النفس الراضية ،فالطاعة هنا قد استحقت بجدارة أجنحة البراق لتختصر من خلاله المراتب الممتدة من مرتبة النفس الملهمة وصولاً إلى مشارف مرتبة النفس الراضية دون أن تستوقفها مرتبة النفس المطمئنة والمراتب التي تقع ضمن جاذبيتها نزولاً وصعوداً ، فالجوزي الملهم الذي ارتضى لنفسه عالم اللاهوت عالماً له فاختار الحق،كافئه الحق على هدفه من الهجرة بالبقاء بعد الفناء بالحق تعالى .
الطريق لمن صدق وليس لمن سبق ، والصدق براق الوصل ، فمن تحقق صدقه من خلال عمله وصل إلى مطلوبه .
للجوزي درجات عديدة ، وله من التمكين ما يتقارب به مع النور الأسود ، فإن لديه سلطة على إفناء إي لون يمر به ، فلم تعد لذلك اللون هوية ، روحانيته غامرة كل لون حتى الأبيض ، يخلف عن الأسود من كونه أحادي التوجه ، فهو لا يرى غير سبيل الارتقاء سبيلاً ، في حين أن اللون الأسود له وجهتين هابطة وصاعدة .
ولأجل الوقوف على مدلولات مرتبة اللون الجوزي لابد لنا من معرفة دلالتي الأحمر والأخضر عند الصوفية :
1- الأحمر ، لون النفس الملهمة ،من صفاتها السخاوة، والقناعة والعلم ،والتواضع والصبر ،والتحلم ، وتحمل الأذى والعفو عن الناس وحملهم على الصلاح وقبول عذرهم ، وشهود بأن الله تعالى آخذ بناصية كل دابة ، فلم يبق له اعتراض على مخلوقٍ أصلاً ومن صفاتها كذلك الشوق والهيمان والبكاء والقلق ،والإعراض عن الخلق والاشتغال بالحق، وحب الذكر وبشاشة الوجه والفرح بالله .
2- الأخضر ,لون النفس الراضية ،من صفاتها راضية بقضاء الله ، والزهد فيما سوى الله ، والإخلاص ، والورع ،والنسيان ، والرضا بكل ما يقع في الوجود من غير اختلاج ولا توجه لرفع المكروه منه ، ولا اعتراض أصلاً لأنه مستغرق في شهود الجمال المطلق وقلبه مشغول بعالم اللاهوت وسر السر . ما بين القناعة التي تختزنها مرتبة اللون الأحمر (النفس الملهمة )والرضا بقضاء الله تعالى الذي تزدان بها مرتبة اللون الأخضر (النفس الراضية ) تجد مرتبة الجوزي بهجتها ووجودها ، فهي تأخذ من القناعة أعظمها وأجلها ، وتأخذ من الرضا تسليمه وتفويضه وحسن توكله ، لتجعل من كل هذا صياغة روحية محمولة على أجنحة ملكية عازمة على الوصول إلى الحضرة الإلهية .
والقناعة إذا ما نظرنا إليها من حيث الحقيقة هي وجه من أوجه مرتبة الرضا ، ذلك لأن مرتبة الرضا ترى فعل الحق ساري في الوجود ، وهذا يعني ليس هناك من فاعل غير الحق وأن ما يصدر عن الحق حق ، فتسقط بناءاً على هذا كل مجالات الاعتراض ، فلن تبقى إلا القناعة المطلقة والتي هي عين الرضا ،فيكون قضاء الله تعالى خيره وشره مقبولاً ، ولم يكن عليه ثمة اعتراض ، فالجلال كالجمال في عين العارف غير أن الجلوس والتعامل معهما يختلف من باب الآداب ، أي يفترض أن يقابل الجمال بالهيبة ويقابل الجلال بالقبول والانبساط .
إن العفو عن الناس والعمل على إصلاحهم ، وقبل العذر منهم كل ذلك بداية مرتبة (الجوزي ) وهو خلق حيادي ، ومن المعروف عن خاصية هذا اللون كونه من الألوان الحيادية ، ونتيجة لهذه الحيادية فإن نزوع صاحب هذه المرتبة (الجوزية ) يميل إلى الزهد شيئاً فشيئاً حتى يبلغ في زهده إلى حد لا ينظر فيه إلى ما سوى الله تعالى طرفة عين , ثم يتطور الحال لدية فلا يرى في الوجود سوى الله ، وكل هذا يمثل إعداداً واستعداداً لمرتبة (الأخضر ) النفس الراضية ( فالجوزي ) هي مرتبة الذي شهد وعرف واطلع وأدرك بأن الحق آخذاً بناصية كل دابة ، فجعلته هذه المعرفة يغض النظر عن أي أذىً يأتيه من الخلق ، كما أن المعرفة جعلته فعل الحق ساري في الوجود كما يقتضيه العدل الإلهي وإن الصفات التي تخرجها الأفعال لا تخرج عن الصراط المستقيم مطلقاً ، يقول تعالى :مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(هود: من الآية56).
ولطالما إن (الجوزي) مستغرق في هذا المشهد، لم يبق له اعتراض على مخلوق أصلاً لأنه يرى أن الاعتراض خروج عن حد آداب الحضرة الإلهية ، لذا فهو في هيبة وحذر دائمين،مع الرضا بكل ما يقع في الوجود ،لانشغاله في مطالعة تنوعات جمال الحق وانذهاله فيه واستغراقه في تلك المشاهد المطلقة التي لا يحوم حولها خاطر يشغله عنها إلى غيرها ، فلا رؤية له غير الحق ، ولا شاغل له غير عالم اللاهوت وما يبطن في السر من سر .
تطور الشوق والهيمان الذي اتصفت به مرتبة (النفس الملهمة) ليصبح في مرتبة (الجوزي) أقصى حالات الوجد ،فثمل صاحب هذا المقام بخمرة الجمال ، وصيره الشوق كثير البكاء تارةً وكثير الفرح تارةً أخرى , مزاجه يتقلب في ريح أحوال الجانب الروحي ، ولا مستقر له في حال ، كثير القلق والتلون .
ولمرتبة (الجوزي ) بوادر إخلاصٍ وورع، فهو مستغرق في المرابطة مع كل خطوةٍ يخطوها ، لا يفارق الحق تعالى طرفة عين ، لا يرى شيء إلا ويرى الله فيه ، تملكه الورع حتى دعاه الحال أن يراقب باطنه يحاسب نفسه على كل شيء ،حتى المم من الآثام الباطنة كالغفلة وشرود الذهن أو النسيان أو السهو .
إن محبة الذكر في النفس الملهمة (الأحمر ) تتصاعد فاعليتها في مرتبة( الجوزي ) حتى توشك أن تصل بصاحبها مرتبة الفناء في المذكور ، ويبدو أن بشاشة الوجه والفرح بالله في مرتبة النفس الملهمة قد قابلها الحق بجزيل العطاء ، لأنه تعالى عند حسن ظن العبد ، فقابل تعالى البشاشة بالجود الإلهي ، وقابل الفرح في مرتبة( الجوزي ) بالقربة والوصل حتى يبلغ العبد مأمنه .
إن مرتبة (الجوزي )لم تكن من المراتب ذات الطابع البرزخي ، بل من المحطات التي يجد السالك فيها ما يعينه ويغريه على مواصلة السفر ، إنها استراحة المسافر الذي لا يريد التوقف من اجل الراحة ، بل من اجل أن تستمر معه تنزلات المشاهد والمذاقات الإلهية ، وديمومة تدفقات المعارف الربانية ، فإن فيها ما يأنس به المشاهد وينسى مشقة وأعباء السفر .