د. أمين عودة
مدخل وإضاءة
يمثل التصوف جوهر الإسلام الروحيّ، والغاية التعبدية القصوى للفرد الذي ينشد التحرر من عبوديته للأشياء، إلى إخلاص العبودية لرب الأشياء؛ لأنه كذلك لا لعلّة أخرى. وسيبدو هذا الأمر واضحا إذا ما توقفنا قليلا على مكونات الدين الإسلامي بمراتبه الثلاثة التي هي الإسلام والإيمان والإحسان، لنجد أن التصوف ينبع من مرتبة الإحسان التي تمثل القمة الهرمية في هذه المراتب، وقد جاء في وصفها: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. والمتأمل لهذه العبارة الشريفة يجد أنها تنقسم قسمين، قسم أصل وهو الغاية الحقيقية من الدين، والهدف الأسمى له، وهو قوله: “أن تعبد الله كأنك تراه” هذا هو الأصل، وهذه هي الغاية. عبادة يُرى فيها الحق تعالى متجليا، وحاضرا، وقريبا، ومهيمنا. وعندما نتحدث عن حضور الحق تعالى- وهو الذي لم يغب أبدا- علينا أن ندرك أن حضوره ليس كحضور الأشياء؛ لأن حضوره يلغي حضور غيره، ويفنيه. فهو الباقي أبدا وأزلا، والأشياء فانية أبدا وأزلا. هذه هي الحقيقة، لكننا لا نتعامل مع هذه الحقيقة تعاملا مباشرا؛ لأننا لو تعاملنا معها تعاملا مباشرا فسنكون في حالة التلاشي والفناء واللاوجود، ولن يكون ثمة عابد ومعبود؛ لذلك اقتضت رحمته تعالى وحكمته أن يحتجب عنا بحضوره، ليصح التكليف وتصح العبادة. أقول هذا الكلام؛ لأن العبارة الشريفة الآنفة الذكر تستضمره، وتشي به. والتصوف مبني على هذا المرتبة التعبدية التي تنبني على الرؤية، وهي ليست رؤية بصرية، إنما هي رؤية قلبية، وذوقية، أو هي حالة تعبدية يستشعر فيها العابد تلاشي وجوده إزاء وجود الحقيقة الكبرى التي هي وجود الحق تعالى؛ إذن فهي ليست علما نظريا، أو رسوما بلا أذواق؛ فالهدف من العبادة هو المعبود، وليس العبادة نفسها، فإذا لم تؤد العبادة إلى شهود المعبود فما جدواها! فالأصل أن تعبد الله كأنك تراه، ولنتأمل مرة أخرى في هذه العبارة الشريفة التي قدمت معناها عبر التشبيه بـ”كأن” التي يقول النفريّ في وصف مثلها:” الكاف ليس تشبيها هي حقيقة أنت لا تدركها إلا بتشبيه” معنى ذلك أن قوله:”كأنك تراه” ليست تشبيها من باب التخيّل أو التصور، إنما هي حقيقة يعيشها العابد ويذوقها، فإذا ما أراد أن يعبر عنها لم يجد غير التشبه ملاذا له. ولعل مما يؤكد صحة قول النفري، هو أن القسم الآخر من العبارة حذف “كأن” وقال:” فإن لم تكن تراه فإنه يراك” ولم يقل:” فإن لم تكن (كأنك) تراه فإنه يراك” وذلك بتعبير إشاري يستضمر المعنى الذي ذهب إليه النفري. وليس من شك في أن العابد عندما يصل إلى هذه الدرجة من العبادة، فإنه لا يرى في هذا الوجود إلا وجه الحق تعالى، مصداقا لقوله تعالى:فأينما تولوا فثم وجه الله وهذه هي خلاصة التصوف. وبعبارة أخرى، وهي أن تتحول هذه الآية الكريمة في حق العابد من مقولة علمية إلى حالة ذوقية معيشة يشهد فيها وجه الله تعالى. ومن ثم فالتصوف هو السعي إلى شهود وجه الله تعالى.
نشأة التصوف، وأهم المراحل التي مر بها
التصوف وليد الزهد الإسلامي الذي جسّده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته الشريفة، وصحبه الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون من بعدهم، وصولا إلى العابدة الصوفية رابعة العدوية التي استطاعت أن تتسامى في عبادتها لله تعالى، من عبادة الخوف والطمع التي كانت غالبة على من سبقوها من زهاد وعبّاد، كالحسن البصري، وعبد الواحد بن زيد، وعطاء بن رباح القيسي وغيرهم، إلى عبادة الله تعالى لا لعلة، ولكن لأنه يستحق العبادة، وهي عبادة تجد صداها في قوله تعالى:واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فإن كان ولا بد من وجود علة للعبادة، فالعلة ههنا أنهم يعبدون الله تعالى لذاته، لا لشيء آخر؛ وأن وجود ذات الحق فحسب، علة هذا النمط التعبدي.
إن العلاقة التي يتوجه بها العابد نحو المعبود، علاقة قائمة على الحب والشوق، بل هي علاقة متبادلة من قبل الطرفين، كما في قوله تعالى: يحبهم ويحبونة. وقد جسدت رابعة هذا المفهوم في قولها:” ما عبدت الله خوفا من الله فأكون كالأمة السوء، إن خافت عملت. ولا حبا للجنة فأكون كالأمة السوء، إن أعطيت عملت، ولكني عبدته حبا له وشوقا إليه”.
ومن نافل القول الإشارة إلى أن نشاة التصوف وتطوره اكتنفهما عوامل عديدة متداخلة ومتشابكة، كالعوامل الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فالإسلام يحث على الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة. وكان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، كما تقدم، القدوة العليا في هذا الشأن. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتى يلتمس لذلك دواء يمرئه، فذكرتُ نبيكم، صلى الله عليه وسلم، فذاك الذي أبكاني: خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين. كان إذا شبع من تمر لم يشبع من الخبز، وإذا شبع من الخبز لم يشبع من التمر. وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مرتين حتى لحق بالله، ولا رفعنا له فضل طعام عن شِبَع حتى لحق بالله. ومثل هذه المواقف كثيرة ومعروفة. بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أشار قائلا:” فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم”. وهذا الذي حدث في الأمة بعد ذلك، فقد كثرت الفتوحات والغنائم، وبسطت الدنيا على الناس، واختلطوا بأمم مجاورة، فتأثروأ بهم وأثروا فيهم، اجتماعيا، وثقافيا، ودينيا. وكثرت الفتن، لا سيما بعد مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، الذي خلّف صراعا سياسيا داميا، وتفرقت الأمة أحزابا وشيعا. ويحضرني في هذا السياق تعليق ابن خلدون في حديثه عن نشأة التصوف حيث يشير إلى اختلاف الناس وميلهم إلى طلب الدنيا، وانحرافهم عن جادة الصواب، وظهور البدع، واختلاف الفرق، وتراجع العبادة والزهد… ولم يبق إلا أولئك الذين هربوا بدينهم من الفتن، وظلوا مقتدين بالسلف الصالح، محافظين على أعمال العبادات الظاهرة والباطنة، وهؤلاء هم الذين سموا بالصوفية. ويشير ابن خلدون إلى أن مصطلح التصوف والصوفية قد عرف قبل المائتين للهجرة بقليل، على أنني أرى أن هذا المصطلح عرفه الناس، وشاع استعماله في زمن أبكر مما أشار إليه ابن خلدون، وبالتحديد في النصف الأول من القرن الثاني.
والحقيقة التي ينبغي عدم إغفالها في هذا السياق، أن نزعة التصوف في الإسلام ليست محدثة فيه. ففي عصر النبوة عرفت هذه النزعة وإن لم تسمّ باسم التصوف، وثمة نماذج كانت تشي بها، كأنموذج أهل الصفة، وهم فقراء المهاجرين، وكذلك عند بعض الصحابة الكرام، كأبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وأويس القرني. وفي غير قليل من الأقوال الثابتة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، الذي قال فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقد انحدرت هذه النزعة إلى التابعين، وفي مقدمتهم الحسن البصري الذي كان يغلب عليه الحزن والبكاء والتجافي عن الدنيا، وتلقفها من بعده تلاميذه، كأيوب السختياني، وفرقد السبخي، ومالك بن دينار، وعبد الواحد بن زيد، ومحمد بن واسع، وغيرهم.
ومن الشخصيات المهمة التي طورت نزعة التصوف في القرن الثاني، وأثرته بمعان خاصة؛ إبراهيم بن أدهم الذي سبق رابعة العدوية بقليل- وكانت معاصرة له – بالحديث عن الحب الإلهي، وعن الجنة كما تحدثت عنها رابعة فيما بعد. ثم يأتي شقيق البلخي الذي التف من حوله المريدون، مكونا بذلك ما يشبه مدرسة صوفية للتربية والسلوك. وثمة شخصيات أخرى أسهمت في ترسيخ معالم التصوف ونشرها أمثال حاتم الأصم، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي، وغيرهم. ويمكن أن تعد هذه المرحلة المرحلة الأولى التأسيسية لمعالم المنهج الصوفي، المستقاة من أقوال هؤلاء السادة، على غير تبويب أو تصنيف.
وتأتي المرحلة الثانية في القرن الثالث، وفيها أخذ أرباب التصوف يتكلمون على الأحوال والمقامات، ومصطلحات القوم، ويعنون بتنظيم سلوكهم فيما يعرف بالطريق الصوفي، وبتربية المريدين وفق أسس تنظيمية يضعها أشياخ الطريق، مهمتها متابعة المريد في أذكاره وأوراده، وتبصيره بمكائد الشيطان، وعيوب النفس، وكيفية التغلب عليها ومعالجتها، والترقي في معارج الروح إلى شهود علام الغيوب. وقد صنفت بعض الرسائل والكتب التي توضح بعض معالم الطريق ومصطلحاتها. ومن الشخصيات التي أسهمت في تكوين هذه المرحلة، الحارث المحاسبي، وأبو الفيض ذو النون المصري، والسري السقطي، ورويم البغدادي، وكثير غيرهم. بيد أن أبا القاسم الجنيد الذي لقب بسيد الطائفة، يمكن أن يعد المؤسس الرئيس لسنن الطريق الصوفي المرتكزة على الكتاب والسنة الأخلاق والمجاهدات الروحية.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، التي تبدأ بالقرن الرابع، فقد تُوّجت بمجموعة من التصانيف التي عنيت بتدوين علوم التصوف وشرح مفرداته، بوصفها فقها للباطن، وسيكون هذا الفقه مكملا لفقه الجوارح الذي دونه الفقهاء. فتجد كتاب “قوت القلوب” لأبي طالب المكي، وكتاب”اللمع” لأبي نصر السراج الطوسي، وكتاب “التعرف لمذهب أهل التصوف” للكلاباذي، و”طبقات الصوفية” لأبي عبد الرحمن السلمي، و”الرسالة القشيرية” لعبد الكريم بن هوازن القشيري، و”إحياء علوم الدين” وغيره للغزالي، و”عوارف والمعارف” للسهروردي. وكثرت التآليف في هذه المرحلة، وأخذت أدبيات التصوف تجد لها موقعا في التراث العربي، لاسيما الشعر الصوفي. وإلى جانب ذلك انتشرت الطرق الصوفية، واتسع تأثيرها التربوي والأخلاقي، كالطريقة القادرية أو الجيلانية، والطريقة الرفاعية، والطريقة والمولوية، والطريقة البدوية، والطريقة الشاذلية، والدسوقية، النقشبندية، والخلوتية، وغيرها… ولعل من أهم ما تنماز به هذه المرحلة، أن ما كان مكتتما في صدور رجال التصوف الأوائل، باستثناء ما كان يشطح به بعضهم، قد وجد له منفذا عبر أقلام الصوفية المتأخرين نسبيا، هؤلاء الذين توسعوا في شرح مذاقات التصوف العرفانية، ومعانيه الوجودية. وقد مثل هذا الجانب المعرفي- المبني أصلا على الذوق- فلسفة التصوف العرفانية. ولعل محيي الدين بن عربي في تصانيفه الغزيرة والعميقة، ينتصب شاهدا لا ينازعه منازع على ذلك.
التصوف الإسلامي والمؤثرات الفكرية والثقافية غير الإسلامية
كثرت الأقوال في هذه المؤثرات، وتضاربت الآراء فيها منذ أن وضع الاستشراق الغربي في القرن التاسع عشر، دراساته الأولى في موضوع مصادر التصوف الإسلامي، التي أصبحت فيما بعد شبه مسلمات حتى عند أغلب الدارسين العرب. وكانت حصيلة هذه الدراسات أن التصوف الإسلامي، نبت غريب في صحراء الإسلام المقفرة، وأنه غير أصيل، ويرجع تارة إلى أصول هندوسية وبوذية وزرادشتية ومزدكية ومانوية، وتارة أخرى إلى الأفلاطونية واليهودية والمسيحية. ويبدو أن نزعة الاستشراق التبشيرية في ذلك الحين المتأثرة بالفكر القروسطي عن الإسلام، كانت تقف وراء هذا التعصب في رد كل فكر إيجابي وخلاق في البيئة الإسلامية، إلى مصادر أجنبية. ومن المعروف أن الاستشراق بدأ نشاطه بصورة منظمة بقرار من الكنيسة بغية تنصير المسلمين وإخضاعهم، وفي الوقت نفسه تحصين المواطن الغربي ضد الإسلام. وثمة مقولة للمستشرق الألماني “يوهان فوك” يشير فيها إلى أن مجمع “فينا” الكنسي سنة 1312م قد أقرّ أفكار “بيكون” “ولول” بشأن تعليم اللغات الإسلامية، وتمت الموافقة على تعليم اللغة العربية في خمس جامعات أوروبية كبرى… إضافة إلى الجامعة البابوية ذاتها، وقد قدر لـ”لول” أن يعيش لينعم برؤية حلمه يتحقق… وكان “لول” يعتقد أن الوقت بذلك قد حان لإخضاع المسلمين عن طريق التنصير، وبذلك تزول العقبة الكبرى التي تحول دون تحويل الإنسانية كلها إلى العقيدة الكاثوليكية. وليس من المستغرب أن يرى المستشرقون الغرب أن مصادر الإسلام كله أجنبية، وليس التصوف فحسب. وعلينا أن نتذكر أن أول من قال إن الإسلام هرطقة مسيحية، هو “يوحنا الدمشقي” في عهد خلافة الأمويين، في نهاية القرن الهجري الأول، ثم تابعه من بعدُ “توما الأكويني” في القرن الثالث عشر الميلادي. وتلخص المستشرقة الكبيرة، المتخصصة في دراسة التصوف الإسلامي “أنيماري شِمِل” موقف الدارس الغربي من الإسلام بقولها إن الدارس الغربي للإسلام، الذي ألِفَ الصورة التقليدية التي رسمت لمحمد في العالم المسيحي عبر مئات السنين من الكراهة والعداوة، سيصاب بالدهشة إذ يرى السجايا الروحية الرفيعة تزجى إلى ذلك الرجل الذي كان طبقا للفهم السائد- مجرد سياسي داهية … أو على أحسن التقديرات، مؤسس بدعة منشقة عن المسيحية…” فإذا كان الإسلام هرطقة مسيحية، فمن الطبيعي أن يكون التصوف هرطقة بوذية أو مانوية أو أفلاطونية أو يهودية أو مسيحية، أو ما شئت فقل، من وجهة نظرهم.
على أن دراسات المستشرقين في النصف الأول من القرن الماضي، تم عليها شيء من التعديل، بعد أن تحرر بعضهم من سيطرة النزعة العدائية للإسلام، وأتيح لهم الاطلاع على أمات المصادر الصوفية، بعد أن كانت أغلب دراساتهم تعتمد التصوف الفارسي المتأخر دون وصله بمنابعه الأولى، ولحظ التطور الذي لحق به. واعترف غير قليل منهم بأصالة التصوف الإسلامي، وأنه نابع من روحانية الإسلام. ولا بأس من الوقوف هنا وقفة سريعة عند مستشرقين انجليزيين كبيرين، تخصصا بالدراسات الصوفية، للاطلاع على أهم آرائهما في هذا الموضوع. أولهما ” أربري” الذي وجه نصيحة إلى زملائه المستشرقين بالتأني عند دراسة التصوف المقارن، فقال ما ملخصه أن للتصوف المقارن إغراء من النادر أن يقاوم، وقلائل هم الذين استطاعوه، ومع ذلك، يجب أن يكون مفهوما بوضوح أن بناء تاريخ التصوف الإسلامي يظل أمرا مقلقا، وتلك التعميمات التي تطلق على التصوف الإسلامي في الغرب أمر لا قيمة له. ويطلب آربري هدنة لمدة جيل على الأقل يتوقف خلالها المستشرقون عن مثل هذه الافتراضات والتعميمات، والعمل بوساطة المتخصصين على وصف المذهب الصوفي وتحليله وتطبيقه، على أساس من المصادر الإسلامية، المصادر الإسلامية وحدها. وقد ناقش آربري بعض نظريات المستشرقين، أمثال ” ماكس هورتن” و ” ريتشارد هارتمان” التي ترجع التصوف الإسلامي إلى مصادر أجنبية، وأثبت عدم صحتها. أما “نكلسون” فقد كان في دراساته الأولى يؤمن بالمصدر المسيحي والأفلاطوني المحدث للتصوف الإسلامي، ولم يعترض على أولئك الذين قالوا بالمصدر الهندي، بل أقرهم. وكان في هذه المرحلة متأثرا بآراء المستشرق”جولدزيهر”، لكنه فيما بعد، تراجع عن آرائه هذه، وصرح في كتابه “فكرة الشخصية في التصوف الإسلامي” بتعدد مصادر التصوف الإسلامي، وأقر بأهمية المصادر الإسلامية الممثلة بالقرآن والسنة في تفسير نشأة التصوف الإسلامي. وإتماما للفائدة، لا ضير من إثبات ما خلص إليه المستشرق الفرنسي “لويس ماسينيون” بعد دراسته لمصطلحات التصوف الإسلامي، فقد وجد أن مصادرها أربعة:
1: القرآن الكريم، وهو المصدر الرئيس للمصطلحات الصوفية.
2: العلوم العربية الإسلامية، كالحديث والفقه وغيرها.
3: مصطلحات المتكلمين الأوائل.
4: اللغة العلمية التي تكونت في الشرق في القرون الستة المسيحية الأولى من لغات أخرى، كاليونانية والفارسية وغيرهما، وإصبحت لغة العلم والفلسفة. ثم يشير في نهاية المطاف إلى أن التصوف الإسلامي قد نشأ من صميم الإسلام نفسه، على الأقل في القرون الثلاثة الأولى.
وبعيدا عن أغلب دراسات المستشرقين التي يختلط فيها الحابل بالنابل، والنوايا المعلنة بالنوايا المستترة، لنقول إن التجربة الروحية تجربة إنسانية عامة، وهي ليست حكرا على أمة من الأمم. والتجارب الإنسانية في هذا المجال تتشاكل وتتقاطع، وليس من الضروري أن يقترض أحدها من الآخر. والأديان كلها تفسح مجالا للنفاذ إلى عوالم الروح واللاهوت دنيويا، كل دين بحسب ما فيه من حق ونقاء. ولا شك أن تجربة الفرد الروحية مرتبطة أشد ارتباط بالمعتقد الديني الذي يؤمن به، وفي ضوئه تتم عملية تأويل التجربة وتفسيرها ووصفها. أما الخطوات الإجرائية التي يقوم الفرد بسلوكها، وما يكتنفها من مجاهدات نفسية، ورياضات روحية، فهي متقاربة عموما في الجوهر والمضمون، والقاعدة المشتركة بينها أنها تنبني على التوجه إلى المعبود، والتعبد له، وممارسة الفضيلة، والزهد، ومجاهدة النفس …الخ، والكل يحظى بوصل من ليلاه، ولكن شتان ما بين ليلى وليلى، وشتان ما بين وصل ووصل.
في نهاية هذا المطاف، أحب أن أقف على مقولة للشيخ محيي الدين بن عربي، يجيب فيها إجابة شافية عن القضية التي نحاورها ههنا، وهي تفسر ما يمكن أن يقع من تشابه وتلاق فيما بين التجارب الروحية، والتأملات الفلسفية الإنسانية بعامة، من جانب، والتصوف الإسلامي من جانب آخر. يقول:” فلا يحجبنك أيها الناظر في هذا الصنف من العلم، الذي هو العلم النبوي الموروث عنهم صلوات الله وسلامه عليهم، إذا وقفت على مسألة من مسائل أهل الله قد ذكرها فيلسوف أو متكلم، أو صاحب نظر في أي علم كان، فتقول في هذا القائل الذي هو الصوفي المحقق: إنه فيلسوف لكون الفيلسوف ذكر تلك المسألة، وقال بها واعتقدها، وأنه نقلها منهم، أو أنه لا دين له. فلا تفعل يا أخي، فهذا القول قول من لا تحصيل له؛ إذ الفيلسوف ليس كل علمه باطلا، فعسى تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق، ولا سيما إن وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال بها، ولا سيما فيما وضعوه من الحِكَم والتبري من الشهوات ومكائد النفوس وما تنطوي عليه من سوء الضمائر، فإن كنا لا نعرف الحقائق فينبغي لنا أن نثبت قول الفيلسوف في هذه المسألة المعينة وأنها حق”.
الخطاب الصوفي والسياق الحضاري للأمة
ينطوي هذا الأمر على مجموعة جوانب لا بد من الحديث عنها، وهي جوانب تسهم في تشكيل الإطار الحضاري لأي أمة، كالجانب الاجتماعي والديني، والثقافي والمعرفي، والحفاظ على الهوية الحضارية، ويمكن أن نفرد لكل جانب منها حديثا خاصا به.
الخطاب الصوفي- في جوهره – خطاب قائم على السعي والحركة، أعني أنه خطاب لا يتولد إلا عن السعي، ولعله الخطاب الوحيد المرتهن دائما للتجربة الفعلية، إي أنه لا يصدر إلا عن عمل وذوق. ومثل هذا النمط من الخطاب يكون تأثيره عميقا في متلقيه، بشرط أن يملك هذا المتلقي القدرة على التعامل معه على مستوى وجداني وعقلي وثقافي. ومن نافل القول إن أنواع المتلقين تتعدد بأعدادهم، والتفاعل والتواصل مرهون بمستويات مختلفة، ثقافية ومعرفية ودينية ونفسية وحضارية…الخ ، وفي هذا الجانب يمكن أن يصنف المتلقون للخطاب الصوفي على اختلاف مرجعياتهم ثلاثة أصناف، الصنف الأول يقف موقفا عدائيا من الخطاب الصوفي. والصنف الثاني يتلقى الخطاب الصوفي بوصفه خطابا يمتلك حساسية إبداعية فائقة، ومسكونا برؤى عرفانية حدسية تستشرف المطلق، وتحل كثيرا من إشكاليات الوجود، وتجيب عن غير قليل من التساؤلات العالقة. إن الخطاب الصوفي ههنا يمثل خطابا إبداعيا، وفلسفيا عرفانيا، يقدم لمتلقيه فنا وفكرا عاليين، ومثل هذا المتلقي قد يتصوف –تجاوزا- تصوفا نظريا. أما الصنف الثالث من المتلقين فيتواصل مع الخطاب الصوفي كنظيره الثاني، لكنه يتأثر به تأثرا أعمق، فيتحول من التصوف النظري إلى التصوف العملي.
- دور التصوف في الجانب الاجتماعي والديني:
يجب أن أوضح في البداية إنني قبل قليل استعملت مصطلح الخطاب الصوفي، وكنت أعني به الخطاب الصوفي المكتوب، لكنني أحبذ التعامل ههنا مع مفهوم أوسع للخطاب الصوفي الذي من ضمنه الخطاب الصوفي المكتوب، وهذا المفهوم ينبع من جوهر التصوف وحقيقته العملية السلوكية، ومن ثَمّ، فالخطاب الصوفي وفق هذا المفهوم يسير على قدمين، إنه خطاب متشخصن، أو هو الشخص الصوفي نفسه، فأبو يزيد البسطامي، والجنيد، وعبد القادر الجيلاني، وابن عربي، وأبو الحسن الشاذلي … خطابات صوفية حية في أزمانها، باقية بعد مماتها؛ لأن ما تركوه من أقوال وكتابات يمثل ذواتهم وأشخاصهم. هؤلاء وكثير غيرهم كان لهم دور كبير في الحياة الدينية والاجتماعية عبر سلوكهم وأفعالهم قبل أقوالهم، ولقد تربى على أيدي هؤلاء قطاع واسع من أفراد المجتمع تربية دينية وأخلاقية، تربية تشيع فيها الفضيلة والمحبة والتسامح والإيثار والتواضع. وهل يحتاج الدين في جانبه الاجتماعي أكثر من هذا! وأذكر على سبيل المثال أن الشيخ عبد القادر الجيلاني تتلمذ على يديه عدد كبير من الفقهاء والعلماء والمحدثين والعارفين. وكان سببا في إسلام خلق كثير من اليهود والنصارى، وعلى يديه تاب جم غفير من المنحرفين وقطاع الطرق. وللتصوف يد طولى ومباركة في نشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. فقد كان للصوفية الذين قُتِل عدد كبير منهم على أيدي التتار في أواخر عهد الخلافة العباسية في بغداد، دور كبير في إسلام هؤلاء. ودخل الملك غازان، حفيد هولاكو، في الإسلام على يد إبراهيم الجويني الشافعي الصوفي، ودخلت أمم كثيرة معه. وفي جبال البنغال ينتشر الدين الإسلامي بفضل الشيخ جلال الدين التبريزي. ويرجع الفضل الأكبر في نشر الإسلام في جنوب أفريقيا وغربها: السنغال، ومالي، والنيجر، وغانا، ونيجيريا، وتشاد، إلى الطرق الصوفية، لاسيما الطريقة التيجانية والسنوسية والشاذلية. وفي أندونيسيا والملايو والصين والفلبين، انتشر الإسلام بفضل الطرق الصوفية والتجار المسلمين. ومن ثمرات التصوف الاجتماعية والتربوية، أنه وضع نظام الزوايا التي كانت تقوم بأداء وظائف متعددة، كالتربية والتعليم، وتقديم القرى لطلاب العلم وعابري السبيل، ونشر الإسلام. فعلى سبيل المثال، اشتهرت الزاوية الدلائية بالمغرب في أواخر القرن العاشر الهجري في هذا المضمار، وصارت تزاحم جامع القرويين. والزاوية التي أنشاها الشيخ عبد السلام الأسمر في ليبيا، وكانت تحتوي على مكتبة كبيرة، وهي الآن أكبر معهد لتحفيظ القرآن. وقد رصد الرحالة ابن بطوطة في أثناء رحلته التي طاف فيها بآسيا وأفريقيا والأندلس، ما يزيد على مائة زاوية، كانت تقدم للمسافرين وعابري السبيل الأمن والطمأنينة، وما يحتاجونه من زاد. وفي مصر، كما يذكر الشعراني، إضيفت وظيفة جديدة للزوايا، وهي إيواء النساء المطلقات اللواتي لا مأوى لهن، حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن، تحت إشراف نساء مؤهلات فاضلات.
- دور التصوف في الحفاظ على الهوية الحضارية للأمة، ومجهادة الأعداء:
لا يقتصر تأثير الخطاب الصوفي في الجانب الاجتماعي والديني ، إنما يتعداه إلى جوانب أخرى تهم الفرد والمجتمع في الدفاع عن الهوية الحضارية للأمة في ظل مواجهتها للأزمات، وتكالب الأمم عليها ، كممارسة الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر والتحصن بهما. أما الجهاد الأصغر فهو مدافعة العدو وقتاله في سبيل الله، وهذا الجهاد يحتاج مقومات إيمانية مستمدة من الجهاد الأكبر الذي هو مجاهدة النفس والتخلق بأخلاق الله، وإلى جانب ذلك المقومات المادية في إعداد العدة والعدد. والجهاد الأصغر مؤقت، أما الأكبر فدائم. والعلاقة بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، كالعلاقة بين أس البناء وسائر أجزائه، ولا يتم تحقيق معنى الجهاد الأصغر وغايته، إلا بتحقيق معنى الجهاد الأكبر أولا. هذا تمهيد مختصر لموضوع الجهاد عند الصوفية، هؤلاء القوم الذين شُوِّهت صورتهم عن قصد أو غير قصد، ونتيجة لعدم استقراء علمي مستقص لتاريخ التصوف ورجاله الحقيقين، قديما وحديثا، ولعدم التمييز بين المدعين والكذبة والبطالين الذين يوجدون في كل عصر، وينبتون في كل حقل كالحشائش الضارة. وكم من الذين ادعوا النبوة بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؟! وكم كُذِب عليه ؟! فهل سينجو التصوف ورجاله من مثل ذلك ؟! ألم تكن آفة الإسلام في أوله المنافقين، وما زال سمهم يسري في أوصال الأمة يمزقها تمزيقا ؟! ولكي لا نبتعد عن مقصدنا، نذكر- للتمثيل لا الحصر- بعض الشواهد من جهاد الصوفية وبطولاتهم في القرون الماضية، والعصر الحديث. لقد شارك صوفية القرون الأولى في الجهاد والرباط في الثغور، وكان من بينهم أشياخ كبار كإبراهيم بن أدهم، وتلميذه شقيق البلخي، وعبد الله بن المبارك الذي كان يغزو سنة ويحج سنة ويتجر سنة، ويوزع أمواله على الفقراء، وتوفي حاتم الأصم وهو مرابط، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: لم أزل منذ أربعين سنة، ما استندت إلى حائط، إلا إلى حائط مسجد، أو رباط، وأبو حمزة الصوفي الذي كان يأتي بلاد الروم والناس بالسلاح، وعليه جبة صوف، وسري السقطي الذي كانت له غزوات في بلاد الروم، والجنيد الذي قال: خرجت يوما في بعض الغزوات، وكان قد أرسل إليّ أمير الجيش شيئا من النفقة، فكرهت ذلك، ففرقته على محاويج الغزاة، وإسماعيل أبو إبراهيم الصوفي الذي كان كثير الغزو والحج، وغير هؤلاء كثير في القرون الأولى، هؤلاء الذين تأسست مبادىء التصوف على أيديهم، وكانوا مثلا عليا في الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر. والجدير بالذكر أن شيوخ الصوفية في الربط، كانوا يقيمون زوايا لهم على السواحل للذكر والعبادة ومراقبة السفن المعادية. وها هو ذا أرسلان الدمشقي الذي لقب بإمام السالكين وشيخ المجاهدين، له رباط خارج أسوار دمشق، يتردد إليه المريدون لتلقي العلم وفنون القتال لمدافعة الصليبيين. وكان الملك العادل المجاهد، نور الدين محمود زنكي يراسله، ويعتقد فيه كثيرا. أما العصر الوسيط، الذي ماج بالحروب والفتن، فقد شهد مشاركة أشياخ التصوف في جهاد الصليبيين والتتار. ويضرب المثل بالشيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية، الذي شهد معركة المنصورة هو وأصحابة ومريدوه، يبعث فيهم الحمية والحماسة، إلى أن تحقق النصر للمسلمين. وكان القائد الظاهر بيبرس صاحب عين جالوت يعظم الشيخ أحمد البدوي، وكان ينتسب إلى طريقته. وكان للشيخ خضر الكردي العدوي تأثير كبير في الظاهر بيبرس، وكان يستشيره في أموره، ويأخذه معه في أسفاره وغزواته. وكان محمد الثاني فاتح القسطنطينية ذا نزعة صوفية. وفي العصر الحديث، قامت حركات جهادية صوفية لمقاومة الاستعمار، والوقوف في وجه المحتلين، قادها صوفيون مجاهدون أمثال الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ الحداد ضد الاستعمار الفرنسي، والشيخ محمد السنوسي وعمر المختار في ليبيا، والشيخ الحكيمي الذي تزعم حركة التحرير الوطني في اليمن، والسيد محمد عبد الله حسن في الصومال، والإمام شامل ورفاقه في روسيا، والشيخ بديع الزمان سعيد النورسي في تركيا، وفي دمشق الشام كوكبة مباركة من علماء الصوفية الذين وقفوا في وجه المحتلين، وغير هؤلاء من قادة تحرير وجهاد لا يتسع المقام لذكرهم. أما أولئك الذين تزيَّوا بزيّ الصوفية، وانخدع بهم الناس, وأذعنوا لهم، أو أولئك الذين فهموا التصوف على أنه تواكل وانعزال وبطالة، فمثل هؤلاء ليسوا من التصوف في شيء، بل هم وبال على الأمة، وعون لأعدائها عليها، كما تشهد بعض وقائع التاريخ على ذلك.
- دور التصوف الثقافي والمعرفي والإنساني:
لا أحد ينكر أن الفكر الصوفي ارتاد حقولا معرفية خاصة، تنبع من تجربة روحية موصولة بالمطلق. وإن أقلّ ما يمكن أن يقال في هذا السياق إن معرفة الصوفي معرفة تتسم باليقين، ومما لا ريب فيه أن المعرفة اليقينية تحقق السعادة التي لا ينشدها الفرد فحسب، وإنما تنشدها البشرية جمعاء. ولكي لا أتهم بالبحث عن مدينة فاضلة من بين ثنايا فكر طوباوي أقول إن التصوف بجوانبه المعرفية يسهم في الحفاظ على ألق الحياة الروحية للبشرية، ويمدها بمعين لا ينضب، ترتوي منه كلما أثقلتها المادة وأصابها الجفاف، ويجعلها تسير بجانحين متوازنين، جناح الروح وجناح العقل، فلا يعدو أحدهما على الآخر. لقد استطاع الخطاب الصوفي، معرفيا وثقافيا وإنسانيا، أن يخترق الفكر الآني والمحدود ويسمو فوق الخلافات العقائدية السجالية التي تهدف إلى إلغاء الآخر. إن اتساع أفق الخطاب الصوفي، وقدرته على النفاذ إلى حقائق الأشياء وجواهرها يجعل منه خطاب الحكمة، وخطاب الباحث عن الحقيقة المجردة بامتياز؛ من ثم يؤهله ليكون خطابا عالميا وكونيا ذا تأثير إيجابي في الإنسانية جمعاء. ومن جهة أخرى، يعد التصوف من أهم الروافد الثرية التي أمدت التراث العربي والإسلامي والعالمي، بخطاب أدبي له مفرداته الخاصة، واساليبه التعبيرية ذات الطابع الرمزي الفريد، وأشكاله الفنية المتجددة، ينضاف إلى ذلك فكر إنساني ولاهوتي عميقان. وقد أثرت أدبيات التصوف، والخطاب الصوفي عموما في الفكر الغربي تأثير بيّنا، وتجد هذا واضحا- على سبيل المثال- عند الفيلسوف المتصوف الألماني جوهان إكهارت, والفيلسوف المتصوف الإسباني رايموندلول، والقديس يوحنا الصليبي، والقديسة تريسا، وشاعر إيطاليا الأكبر دانتي، والفيلسوف الألماني ليبنتز، وغيرهم. لنتحدث الآن عن شيء مما قدمه الخطاب الصوفي للإبداع العربي المعاصر في انطلاقته الحداثية الأولى، على الأقل مع أدونيس الذي كان له دور ريادي في استدخال الخطاب الصوفي بلغته الرمزية، ورؤاة الكونية والحدسية، في الخطاب الشعري المعاصر، وصار الخطاب الصوفي فيما بعد جزءا من مكونات الحداثة الشعرية. ثم انتقلت عدواه إلى الرواية العربية المعاصرة، وشكل رافدا مهما من روافد تأصيل الشكل الروائي، إلى جانب التراث التاريخي والقصصي العربيين. وتعدى تأثيره ليلامس الموسيقى والفن التشكيلي المعاصر.
أظن أن الجوانب التي تناولناها بالحديث، جوانب أساسية في تكوين الإطار الحضاري للأمة العربية والإسلامية، وأجد أن التراث الصوفي يشكل معينا لا ينضب في رفد هذا الإطار، وفي صبغه بصبغة خاصة تُلمس في قيمه الروحية، والأخلاقية، ومرونته في استيعاب الآخر، واحترامه لإنسانية الإنسان، وفي سعيه الدؤوب نحو تطهير النفس البشرية من الأمراض والخبائث، وفي توثيق عرى المحبة والعبودية بين العبد والرب. وأعتقد أن افتقار الحضارة الغربية لأغلب هذه الجوانب المهمة، جعلها حضارة ذات طابع مادي وبرغماتي، لا يحسب حسابا إلا لتقنيات السيطرة التي يتمكن بها من الهيمنة على الآخر، وإقصائه، وإلغاء دوره الحضاري والإنساني. وما المآسي التي تحدث في واقعنا المعاصر ، عربيا وعالميا، إلا نتيجة لهذه الثغرة القاتلة في الحضارة الغربية، على أنني لا أبرّيء نفسي، وواقعنا العربي والإسلامي من التقاعس والخذلان، باستثناء من منّ الله عليهم بقوة الإيمان والثبات على الحق ورفض الذل.
إن طبيعة الخطاب الصوفي، بما يمتلكه من قدرة فذة على التأثير في النفس البشرية، سيكون مؤهلا ليسهم بفاعلية في تصحيح مسار الفرد والجماعة في آن، ولديه القدرة العلمية والعملية لتحقيق ذلك، وخصوصا إذا ما عرفنا أن أشياخ الطريق الحقيقين، أرباب التربية والإرشاد والسلوك، المتبعين للكتاب والسنة، لا يسعون وراء هدف دنيوي من مال أو منصب أو جاه، وأن جل هدفهم هو استئصال منابت الشر والقبح في النفس البشرية، وتحويلها من أنفس ظلمانية إلى أنفس نورانية راضية مرضية، تدافع عن الحق وتنشر الخير، تعبدا لله مرضاة له. وإذن، أفلا يسهم هذا الأمر في الحد من جبروت التعبد للشهوات المادية والمعنوية التي تتوج الحضارة الكئيبة لهذا العصر المكبل بقيودها؟! وأعتقد أن واقعنا العربي والإسلامي، بأمس الحاجة إلى انتشال ما هو مضمر فيه من بذور الإيمان والخير والنقاء والصفاء والقوة الروحية، وتربيتها وتنميتها والتحصن بها أمام إغواء المادة وطغيانها الجارف، وهذا مسعى من مساعي التصوف الحميدة. وأخيرا أقول إن نزعة التصوف موجودة بالقوة في ضمير كل إنسان، لأنه مكون من جسد وروح، وهذه النزعة صفة من صفات الروح، وما عليه إلا أن يبحث عن الطريقة التي تصعّد فيه هذه النزعة، ليكتشف النور الذي يحمله في داخلة، والذي سيقوده إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
غربة الخطاب الصوفي وصراع الإقصاء
يأتي الدين عموما بتعاليم وتشريعات تصلح لجميع أفراد المجتمع، فلا يراعي طبقة معينة من المجتمع على حساب أخرى، ويكون بوسع كل فرد أن يمارس شعائره، سواء أكان صغيرا أم كبيرا، غنيا أم فقيرا، عالما أم متعلما أم أميا؛ أي أنه يتسم بالشمولية والعمومية، وهذه إحدى القواعد الأساسية للدين. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف أن مفردات الدين وشعائره ونصوصه ليست مجرد حركات وعبارت وطقوس خالية من المعاني الروحية، والحقائق المعرفية. فالدين له شكل ومضمون، مظهر ومخبر، والمضمون والمخبر لا يتناقضان مع الشكل والمظهر، وبتعبير أدق، إن المضمون والمخبر، ما هما إلا طبقات العمق التي يتكون منها شكل الدين ومظهره. وثمة إشارة وردت في حديث نبوي شريف يُستأنس بها في مثل هذا الموطن. قال عليه الصلاة والسلام: “إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى. ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”. إن استعمال فعل “أوغل” ليدل بوضوح على العمق الذي يتسم به هذا الدين العظيم، وكل ما هنالك أن استكشاف طبقاته التحتانية العميقة يتطلب رفقا وأناة وسيرا هادئا، دون تكلف أو جهد فوق الطاقة والاحتمال؛ إذن فالباب مشرع لمن أرد أن يوغل في الدين، والمسألة محمودة، ويحث عليها الحديث، لكنها تبقى في النهاية اختيارية، ومرتبطة بإرادة الفرد وهمته.
لقد استدرجت هذا الكلام، توطئة للحديث عن الخطاب الصوفي الذي تنبع أحواله ومعانيه من أعماق هذا الدين، عندما تلبس أهله بمفرداته، وأوغلوا فيه كل حسب طاقته وهمته، وفي كل مرة يوغلون فيه، تنكشف لهم طبقة من طبقات المعاني الروحية والعرفانية للشريعة، وذلك بحسب مستوى العمق الذي وصلوا إليه. إن هذه الرحلة الروحية في أعماق الدين، تكسب صاحبها أيمانا ويقينا ذوقيين راسخين كالجبال، وفهما أعمق للدين، وماهية الوجود والإنسان، وعلاقتهما بالحق تعالى.
إن ممارسة الدين وفق هذه الرؤية، يعني أن تكون صوفيا عارفا بالله. وما أُطلق مصطلح “عارف” على الصوفي إلا لأنه حظي بمعارف ذوقية جديدة، تتعلق بالحق تعالى والوجود والإنسان، ولم يكن ليتسنى له ذلك دون الإيغال في الدين برفق. عندئذ، إما أن تبقى هذه المعرفة مكتتمة في صدر صاحبها، وإما أن يطلق لها العنان لتشكل خطابها الخاص بها، وعند حدوث الأمر الأخير- وهو الذي حدث – وقع الخطاب الصوفي في مأزق التصادم مع خطاب الفقيه، والخطاب الديني الرسمي عموما، وهذه نتيجة طبيعية ومتوقعة، إذ إن المعرفة المحمولة في هذا الخطاب، قادمة من مناطق لا يرتادها إلا قلة من الأفراد ذوي الإرادة الجبارة والهمة العلية. أما الخطاب الديني الرسمي الذي عليه أغلب جمهور الناس، فكان يقنع بما دون هذه الممارسة الموغلة في الدين، أقول هذا الكلام لأن شواهد الحال والتاريخ تشهد أن غالبية الناس تخلد إلى الراحة والدعة، وتنفر من المجالدة والمصابرة والمجاهدة ومخالفة هوى النفس، إلا في الحدود الدنيا. وعلى كل حال، ففي كلٍّ خير.
محصلة هذا الكلام، أن الخطاب الصوفي أخذ يؤسس لمشروع معرفي غير معهود، وراح يغرد بلسان غريب، ولو قدر لهذا الخطاب أن يظل حبيس أهله لا يغادر أرضهم، لما حدث- بطبيعة الحال- أي صدام بينه وبين الآخر ؛ إذ إن المرسل والمتلقي ينتميان إلى أفق واحد. ولكن ما حدث هو أن الخطاب الصوفي غادر أرضه، قصدا أو من غير قصد، دون أن يمهد لنفسه آفاقا للتوقع والاستجابة عند متلقيه الآخر الذي يمثله الخطاب الديني الرسمي، فوقع الصدام الذي أدى إلى إقصاء الخطاب الصوفي وتهميشه، فالقوة والنفوذ بيد السلطة صاحبة الامتياز في صياغة الخطاب الديني الرسمي، وتوجيهه الوجهة التي تصلح لسياسة جمهور الناس، من وجهة نظرها. ولعل أبرز شاهد على ما يقال هنا، الحلاج الذي ذهب ضحية خطابه الذي كان يشدو به في غير أهله. ولا بأس هنا من وقفة سريعة على الظروف الأخرى التي أحاطت بمقتل الحلاج، كالظروف السياسية التي ربما كانت السبب الحقيقي في مقتله، وخصوصا أن قطاعا لا بأس به من عامة الناس، أثارتهم شخصية الحلاج بغرابتها وجرأتها، لا لأنهم فهموا خطابه، ولكن لأنهم رأوا فيه شخصية غير عادية، تستجديهم سفك دمه، ليؤجروا هم، ويسعد هو بلقاء الحبيب،كما ورد عنه في بعض كلامه. ولعل الخلافة العباسية خشيت من التفاف الناس من حوله، وأن تكون له كلمة مسموعة تؤثر في وضع السلطة المتداعي. أذكر هذا الكلام؛ لأن قضاة السلطة العباسية قتلوا الحلاج باسم الخطاب الديني الرسمي، لا باسم الخطاب السياسي، مستثمرين خطاب الحلاج الصوفي لأدانته، وهذا يشير إلى المدى الذي وصل إليه عدم الانسجام بين الخطاب الصوفي، وأفق التوقع الذي كان سائدا في ذلك الحين.
الحلاج يمثل حالة من حالات الخطاب الصوفي، الذي لم يراع مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وهو يمثل حالة الإيغال في الدين، والإيغال في الخطاب. وثمة حالات أخرى كانت بمنجاة من مصير الحلاج، وإن كانت موغلة في الدين مثله ، لكنها كانت تتكتم، وإلا فإنها تكون رفيقة في الخطاب إن صدر عنها، بمعنى أنها كانت تبني خطابها وفق استراتيجية تقلص من فجوات التوتر بينه وبين متلقيه، سعيا إلى النجاة، وفي أحسن الأحوال سعيا إلى إحداث تواصل واستجابة.
يبدو أن هذا هو العامل الرئيس، الذي أسهم إسهاما مباشرا في خلق الصراع بين الخطاب الصوفي والخطاب الديني الرسمي، ينضاف إليه عوامل أخرى، صُنفت فيما بعد تحت عنوان أغاليط الصوفية، ولا شك أن الغلط لا يصدر إلا بحدوث خلل ما عند الصوفي، كقلة إحكامه لأصول الشريعة، وضعفه في الصدق والإخلاص، وعدم التواصل مع المربي، وهذا كله يترتب عليه ارتكاب أخطاء في الفروع التي هي الآداب والأخلاق والمقامات والأحوال والأفعال والأقوال، وكل هذا ذكره الطوسي في اللمع. ويُذكر أحيانا بعض الباطنيين الذين انتسبوا إلى التصوف، ودعوا إلى إسقاط التكاليف. مثل هذه العوامل، لا شك أنها شاركت العامل الرئيس في التوجس من الخطاب الصوفي والحذر من تعاطيه جيلا بعد جيل.
وأود أن أشير هنا إلى أن الصوفية كانوا حريصين دوما على ربط سلوكهم وأقوالهم بالكتاب والسنة، لكنهم في المراحل الأولى، بصفة عامة، لم يعنوا بتأسيس خطاب واضح المعالم، يعتمد على استراتيجية التنظيم والتبويب والسبر والتقسيم والشرح والتعليل واستنباط المعاني المضمرة في أقوالهم وأفعالهم، وبيان صلتها القوية بالكتاب والسنة، ليكون ظهيرا لهم في تقريب المسافة بينهم وبين الخطاب الديني الرسمي. و غياب هذا الأمر يشكل عاملا مهما ينضاف إلى العوامل السابقة.
وأخيرا، فإن الصوفي يواجه عجزا واضحا في التعبير عن التجربة الصوفية ووصفها كما عاشها، ولا يمكن للعبارة أن تحيط بها كما ينبغي، وعلى الرغم من ذلك فقد حاولوا وصف تجاربهم بما هو متاح لهم من أساليب تعبيرية رمزية وغير رمزية، ولكنهم على كل حال كانوا ينبهون إلى أن الكلمات في النهاية غير قادرة على التعبير بدقة.
إنتاج خطاب صوفي وفق استراتيجيات تواصل جديدة تخفف من حدة الصراع
لم يبق الحال على ما هو عليه، فمنذ النصف الثاني من القرن الرابع، بدأ علماء الصوفية بتأسيس مشروع لصياغة خطاب صوفي يسعى إلى معالجة ثغراته، ويقدم نفسه إلى الأخرين بوصفه خطابا مستمدا من الكتاب والسنة، معتمدا على استراتيجيات تواصلية تهدف إلى خلق آفاق توقع جديدة عند المتلقين الذين يعيشون في ظل آفاق توقع تفرضها سيادة الخطاب الديني الرسمي. ولقد نجح هذا المشروع نجاحا جيدا في ردم غير قليل من الفجوات، وحقق شيئا من التصالح مع الخطاب الديني الرسمي، وفي الوقت نفسه ظل بمنآى عن الوقوع في دائرة الأسر للسلطة. وربما حدث العكس، وهو أن السلطة كانت تنقاد إليه في بعض الأحيان، كبعض النماذج التي سبق الحديث عنها في موضوع جهاد الصوفية. ولاستكمال الحديث في هذه النقطة، تنبغي الإشارة إلى أن بعض الصوفية الذين ضعفوا وانحرفوا عن جادة الصواب، أو كانوا دخلاء على التصوف، كانوا يستثمرون الخطاب الصوفي لغايات دنيوية مذمومة ومشبوهة. لقد ساق هذا التحول في الخطاب الصوفي أشياخ التصوف فيما بعد إلى تكوين خطاب صوفي تعليمي، يمكن أن يستقطب قطاعا واسعا من الناس لسلوك طريق التصوف، وهذا من العوامل التي أسهمت في إنشاء الطرق الصوفية التي وجدت طريقها إلى المجتمع، وأدت دورا بارزا في تربيته وتهذيب أخلاقه. ثمة نقطة جوهرية لم تذكر حتى الآن، وقد آن الأوان للوقوف عليها، تتلخص في أن بنية الخطاب الصوفي الآن، تنطوي على مستويات معرفية ووظيفية متعددة، وأول هذه المستويات وأهمها هو خطاب السلوك والتعليم والتربية الأخلاقية ومجاهدة النفس ودقة التعامل مع أوامر الدين ونواهيه، وهو خطاب يتسم بالتدرج والموضوعية، ويؤهل السالك إلى ممارسة مستوى آخر من الخطاب، هو الخطاب الذوقي الذي يتسم بالذاتية، ويمكنه من أن يعيش أفاقا معرفية جديدة تسلمه إلى تكوين يقين ذوقي وشهودي. ويظل السالك يرقى في هذا السبيل جانيا منه ما لذ وطاب من معارف إلهية وحقائق أزلية، محققا بذلك الغاية السامية من وجوده في هذا الكون، ألا وهي العبودية المحضة لله تعالى.
أما خطابات ابن عربي، وابن سبعين، وعبد الكريم الجيلي، والسهروردي المقتول، وأضرابهم، فهي خطابات نهضت بعبء ترجمة الوجدان والذوق اللذين يفتقران إلى لغة خاصة بهما، إلى لغة الحس والعقل. ولأن مفردات هذه اللغة لا تمتلك القدرة الكافية على النقل الأمين، عدلت أقلام هؤلاء إلى تمثيل حالات الذوق الصوفي وترميزها بما يوازيها من حالات في عالم الحس والعقل، وسبق للمتلقي أن خبرها وذاقها، كالرموز الغزلية والخمرية ورموز الطبيعة، مما يجعله قادرا على التواصل مع هذا النمط من الخطاب، ولكن عبر تأويل رموزه. ومع ذلك، فقد ظل هذا المستوى من الخطاب، عرضة للرمي بالخروج عن الدين، والسبب في ذلك أنه بقي متمسكا بتسجيل المعاني التي تتعارض مع الخطاب الديني الرسمي، يفصح عنها تارة، ويخفيها تارة أخرى. وعلى كل حال، هي خطابات يمكن التسليم بمحتواها والتواصل معها، ولكن بعد العمل بالخطابات العملية والسلوكية التي ذكرناها آنفا، والتي أشرنا إلى أهميتها للفرد والمجتمع، وهذا هو الأهم، والذي ينبغي أن يُبدأ به بدلا من القفز إلى محاكمة ابن عربي أو غيره، ونحن لا نملك من أدوات الفهم، فضلا عن الحكم، شيئا.
أزمة القراءة الصوفية للنصوص الدينية والوجودية
لتوضيح هذه النقطة، تنبغي استعادة الحديث عن الأيغال في الدين مرة أخرى، لأنه متصل بقراءة الصوفي للنصوص الدينية المكتوبة أو المروية من جهة، والنص الكوني الذي هو الوجود من جهة أخرى. فالموغل في الدين، تتهيأ له معرفة مخبآته التي تحتجب أحيانا عن الأنظار العادية، لشدة وضوحها وظهورها وانكشافها. والأيغال في الدين رحلة تعبدية معرفية، كلما أوغل صاحبها في أعماقها اتسعت معرفته ودقت عبارته وعبادته. والطريف في الأمر أن المعارف التي يعود محملا بها من رحلاته، سيجدها مقيدة في النص الكوني المرقوم الذي هو القرآن الكريم، وكأن لسان حال القرآن الكريم يقول لهذا العابد: هذه بضاعتنا رُدت إلينا، ولدينا مزيد. وإلى هنا لن تجد أية إشكاليات بين العابد نفسه والقرآن الكريم، بعيدا عن الآخرين والسلطة الدينية التقليدية، إنما تظهر الأزمة، ويحتدم الصراع عندما يبدأ هذا العابد بتأويل القرآن في ضوء إيغاله في الدين، وإظهار تأويلاته للملأ. إن ما يسمى بالقراءة التقليدية، هو في الحقيقة قراءة واجبة، ومشروعة. والتقصير فيها تقصير في أداء واجب الدين. وهي القراءة التي تخاطب الناس على قدر عقولهم، وبما يصلح دينهم ودنياهم. أقول هذا الكلام لأنني لا أفاضل بين ما يسمى بالقراءة التقليدية وغير التقليدية التي هي هنا القراءة الصوفية. فبينما تنبع القراءة التقليدية من معطيات الحس والعقل، تنبع القراءة الصوفية من معطيات الذوق والوجدان، ومن هنا يحدث التعارض والصدام الوهميان. ولا سبيل إلى إقناع الحس والعقل بأذواق الروح، ما لم يسيرا في ركابها بين فينة وإخرى. والحقيقة التي أسلّم بها هو أن القرآن الكريم الذي كان يتلقاه الرسول الأعظم ،صلى الله عليه وآله وسلم، ويتفصد عنه العرق، ويغيبه عن الوجود، لثقل وطئه، لهو كتاب يحمل في طياته ما يتجاوز تصورات الحس والعقل. ولا أجد ضيرا في البحث عما يتجاوز هذه التصورات.
وفي القرآن قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله ألا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله ألا هو العزيز الحكيم فهل شهود الحق تعالى لنفسه بالوحدانية يوازي شهود الملائكة، وهل شهود الملائكة يوازي شهود أولي العلم، وهل شهود غير أولي العلم يوازي شهود أولي العلم؟! أعتقد أن الإجابة ستكون بالنفي. فهذه مستويات شهودية أربعة لكلمة التوحيد، وشتان ما بين شهود وآخر.
ومسعى الصوفي الأثير، هو أن يشهد كلمة التوحيد كما شهدها الحق تعالى في نفسه. وإذا ما تحقق له ذلك، وأراد أن يتكلم في شهوده أو يعبر عنه، أنكر الناس عليه، ورموه بالزيغ والمروق.
لخطاب الصوفي وتحرير العلاقة بين الله والإنسان والوجود
من المؤكد أن التجربة الصوفية، تورث صاحبها آفاقا معرفية تتصف بالعمق والجدة، وتمكنه من عبور نصوص مركزية ثلاثة وقراءتها قراءة عرفانية، هي القرآن الكريم، والإنسان، والوجود. هذه النصوص التي تشكل هوية الحق تعالى من حيث اسمه الظاهر. وتتصف القراءة العرفانية هنا بالنظر إلى هذه النصوص على أن لها وجهين، يكمل أحدهما الآخر، وجه ظاهر، ووجه باطن. والوجه الباطن هنا ما هو إلا المعنى الرمزي والأعمق للوجه الظاهر. وهذا يؤدي إلى القول بأن كل ما في الوجود من مظاهر هو بمنزلة علامات أو رموز أو إن شئت قلت لغة إلهية لا تكف عن التخلّق والظهور آنا بعد آن.
إن مثل هذه التصورات المستمدة من التجربة الصوفية، تتيح مجالا معرفيا أرحب في القراءة والتأويل، واستنباط دلالات جديدة لا تجدها متداولة في القراءة التقليدية.
” أوقفني وقال لي: “أنت معنى الكون كله”
تنطلق القراءة العرفانية لنص الإنسان، وفقا لخطاب ابن عربي فيه الذي يعد امتدادا لمقولة النفري هذه، بوصفه مركز الوجود، وخليفة الله فيه، والمظهر الأكمل لتجليات أسمائه وصفاته العليا. وعندما أوجد الحق تعالى العالم وسواه، كان مفتقرا إلى الروح، فأوجد آدم عليه السلام وجعله روحا لهذا العالم. ولهذا يقال في العالم إنه الإنسان الكبير، ولكن بوجود الإنسان فيه. فالإنسان جامع لحقائق العالم كله، ونسخة مختصرة تتمرأى فيها الحضرة الإلهية، وهو مفتاح الوجود، ومفتاح المعرفة الإلهية؛ ولهذا ورد فيه القول المأثور:” من عرف نفسه عرف ربه”. ولذلك يصفه ابن عربي قائلا:” كنتَ كنزا مخفيا، إن أنصفتَ فهمتَ أن الإنسان هو الكون بأسره، من حيث هو ثمرته، وهو سره من حيث انفراده عنه؛ لأنه مرآة تحكي تجلي الحق بالعالم بظهور أسمائه وصفاته”. إن ما يتحدث عنه ابن عربي هنا يشمل البشرية جمعاء. وكل فرد فيها موصوف بهذا الوصف الموجود فيه بالقوة لا بالفعل، وما على الإنسان إلا أن يجاهد نفسه بما شرّعه الحق له، ويتخلق بالأخلاق الإلهية الكامنة فيه، فيخرجها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، ويحقق صيغة الإنسان الكامل الذي يوصف بأنه خليفة الله الفعلي في الأرض، ويجسد العبودية المحضة لله تعالى، وقيم الخير والعدل والحكمة، ويهدي إلى صراط مستقيم لا عوج فيه. وهذا عين ما فعله الأنبياء من قبل، الذين تحققت فيهم صيغة الإنسان الكامل، ومن بعدهم أفراد الأولياء الذين يفعلون ما فعله الأنبياء، ويسيرون على طريقهم داعين إلى الله على بصيرة، محققين قيم الخير والعدل والحكمة.
إن الحديث في هذا الموضوع حديث يطول، وثمة رؤية شاملة وعميقة لمفهوم الإنسان الكامل أسسها ابن عربي، بالإضافة إلى مفاهيم أخرى تكشف عن مدى غنى الخطاب الديني، فعلا وقولا، عندما يجد من يعيشه، ويتلبس به، ويحقق الغاية التي وجد من أجلها. وما أعتقده أن التجربة الصوفية استطاعت أن تقوم بهذا الدور خير قيام.
الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي علامة فارقة في تاريخ التصوف
إن شخصية هذا الرجل تكاد تكون فريدة في تاريخ التصوف الإسلامي، بل العالمي. وقد بهرت شخصيته الشرقيين والغربيين على حد سواء. وشخصيته الفكرية تنطوي على قدر كبير من الوضوح والغموض في الآن نفسه. وأطاريحه المعرفية تنماز من غيرها أنها استوعبت جل ما سبقها من قضايا صوفية وكلامية وفلسفية مثيرة للجدل، على هدي من ذوق صوفي ينبع من أعلى مقامات التصوف وأحواله، ويضيف إليها من تجربته العرفانية العميقة، ليؤلف من كل ذلك خطابا معرفيا كونيا يتصف بالغزارة والعمق، ويحل فيه غير قليل من المعضلات الفلسفية الكبرى ذات الطابع الميتافيزيقي. وقد استطال ظل ابن عربي ليتفيأ فيه أعلام الصوفية الكبار من بعده، ويقفوا على أعتاب خطابه مفسرين ومأولين ومستنيرين، وكأنه ما ترك لهم إلا هذه المهمة. لقد كان ابن عربي- بلغة الصوفية- مظهرا فريدا من مظاهر الصفة العلمية الإلهية. كما أن أكثر الطرق الصوفية من بعده أفادت كثيرا من رؤاه العرفانية، واستدخلت غير قليل من مقولاته الذوقية في خطاباتها التعليمية والسلوكية، وتجد ذلك واضحا في التصوف الفارسي وأدبياته، وكذلك في التصوف التركي، وامتدت أثار ابن عربي لتنير في سماء متصوفة المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الغربية المعاصرة. ويحضرني الآن بعض الأسماء الكبيرة التي ورثت شيئا من تراث ابن عربي وروحه، الأول هو الفيلسوف الفرنسي رينيه جينو، الذي أسلم وسمى نفسه عبد الواحد يحيى، والثاني البريطاني مارتن لينجز الذي تسمى بسراج الدين، والثالث الفرنسي علي شودكيفيتش. ووصف نيكلسون ابن عربي بأنه عبقري الإسلام في الأندلس بدراساته الجريئة في علم اللاهوت، وأنه أثر في النهضة الأوروبية وبعث آدابها. وظهرت آثاره واضحة في دانتي شاعر إيطاليا الأكبر. ووصفه أسين بلاثيوس بالأستاذ الحقيقي للنهضة الصوفية في أوروبا. وفي رأيي أن ابن عربي ترك هذا التراث الزخار بالمعارف، ليقول للإنسانية جمعاء: من عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه عرف ما له وما عليه، وصار ربانيا يعلم الناس الحكمة، ويرشدهم إلى الخير والسعادة.