بسم الله الرحمن الرحيم
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
هذا الشهر الفضيل الذي أنزل فيه القرآن الكريم وخط الله سبحانه وتعالى به بداية فجر الإسلام ونص الرسالة المحمدية هذا الشهر الذي فرض الله تعالى علينا فيه الصيام شهر الطاعة والغفران نطرحه هنا من منظور صوفي فقد شدني كلام أهل هذا المنهج لما يمثله من رسالة سامية ومنهج روحي للإسلام .
فالصوم لغة هو الإمساك ، صام الشخص : أمسك وفي الشرع إمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية (1) .
وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم 13 مرة بمشتقاتها المختلفة منها قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة183 .
أما في التصوف فيرى الشيخ فارس البغدادي أن : الصوم هو الغيبة عن رؤية الخلق برؤية الحق جل وعلا . (2)
ويقول الشيخ عبد الكريم الجيلي : الصوم هو إشارة إلى الامتناع عن استعمال المقتضيات البشرية ليتصف بصفات صمدية (3) .
وقد قال المستغانمي : الصوم في شرع القوم هو الإمساك عما سوى محبوبهم وكما يتبين لنا هنا المقصود هو الذات الإلهية (4).
فنرى هنا أن الصوفية لم يكتفو بالصيام عن الطعام والمشرب وما إلى ذلك ، ولكن تعدا الصوم ليصبح عندهم معراجاً إلى الحضرة الإلهية تُغيب الخلق لتظهر به نور الحق تعالى الذي بدوره يضفي نورانيته تعالى على قلوب العابدين ليغنيهم عن استعمال المقتضيات البشرية ليتصف بصفات صمدية تلك الصفات المستمدة منه سبحانه يقول الشعراني : الصوم صفة صمدانية (5).
ونجد أن في التجربة الروحية التأكيد على الجوارح أكثر من سواها لمعرفتهم سر مكنونات الإنسان فالباحث محمد غازي عرابي عبر عن الصوم بأنه : فطم النفس عن شهواتها وهي حاجة ملحة لخروج النفس من قمقمها المادي بمعنى كسرها إياه لا بمعنى المفارقة والصوم عماد الدين بعد الصلاة ، هو توأمها ورديفها الثاني ، فمن دون الصوم لا يمكن للعبد أن يتفكر في ما اعتاده في حياته من عادات ثابته (6) .
وفيما نعتبره نحن شهراً للطاعة وطلباً المغفرة وشهراً لغسل الذنوب وشهر مثوبة يراه الصالحون قدست أسرارهم على انه شهر نكران الذات والتخلي عن كل شي إلا الله تعالى ومعرفة ذلك معرفة حقيقية والتمسك بكونها إرادة إلاهية ، وفيما نحن نراه صياماً لله فهم قدست أسرارهم يروه صياماً به تعالى يقول الإمام القشيري :
من شهد الشهر صام لله
ومن شهد خالق الشهر صام بالله .
فالصوم لله يوجب المثوبة
والصوم بالله يوجب القربة .
والصوم لله تحقيق العبادة
والصوم بالله تصحيح الارادة .
والصوم لله صفة كل عابد
والصوم بالله نعت كل قاصد .
الصوم لله قيام بالظواهر
والصوم بالله قيام بالضمائر .
الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة ، والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة (7) .
وللصوم أنواع كما يرى حضرة السيد الشيخ الغوث السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدس الله سره في موسوعته موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان قال : ل{لصوم في الطريقة أنواع عديدة منها : الصوم عن الذنوب ، الصوم عن الغيبة ، الصوم عن النفاق الصوم عن البهتان ، الصوم عن الحسد ، الصوم عن النظر الحرام ، الصوم عن التجسس ، الصوم عن تخريب البلاد ، إلى غير ذلك من الأنواع ، وكلها تجعل حياة المريد في صوم روحي دائم فليس الصيام أن تترك الطعام والشراب فقط وإنما الصيام أن تترك الذنوب والمعاصي فالصيام صيام الجوارح }. (8)
ولصوم هذا الشهر الفضيل فوائد لا تعد ولا تحصى ولكن ما الرمزية الصوفية لفوائد الصوم ؟
يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام : الصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع ، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرع والخشوع والبكاء وجل الالتجاء إلى الله وسبب انكسار الهمة وتخفيف السيئات وتضعيف الحسنات (9) .
ويقول الحكيم الترمذي : ثمرة الصوم تطهير النفس (10).
وقد تكون رمزية الصوم عند الصوفية ذات مفاهيم اصطلاحية متعددة معبرة عن مسلكهم الروحي الذي طالما كان غامضاً مفهوماً ، ظاهراً باطناً أمام الخلق والعيان تفردوا بفهمه هم وحدهم أو من سلك مسلكهم ، ذلك المسلك الروحاني الذي يبنى على التجربة الروحية وما تحتويه من اختبارات الحال ونتائج المقام ، وقد نرى أن مراحل حياة الصوفي بمعنى أو بآخر كلها عبارة عن صيام حيث أن كل ما تقدم هو عبارة عن منهجهم التعبدي اليومي إلى آخر يوم في حياتهم . يحكى أن السيدة نفيسة احتضرت وهي صائمة فألزموها الفطر فقالت : وعجباً ، لي منذ ثلاثين سنة أسئل الله أن ألقاه وأنا صائمة فأفطر الآن ، هذا لا يمكن . ثم أنشدت تقول :
اصرفوا عني طبيبي
ودعوني وحبيبي
زاد بي شـوقي إليه
وغرامي ونحيبي
ثم ابتدأت بسورة الأنعام فلما وصلت إلى قوله تعالى :{ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ الأنعام127 خرج السر الالهي} (11) . فهنيئاً لهم بما كسبوا .
________
الهوامش :-
(1) – المعجم العربي الاساسي ص 757 .
(2) – الكلاباذي – التعرف لمذهب اهل التصوف – ص 134 .
(3) – الشيخ عبد الكريم الجيلي – الانسان الكامل في معرفة الاواخر والاوائل – ج2 – ص 88 .
(4) – المستغانمي – المنح القدوسية في شرح المرشد بطريق الصوفية – ص205
(5) – الشعراني – مخطوطة الاجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية – ورقة 124 .
(6) – محمد غازي عرابي – النصوص في مصطلحات التصوف – 198-199 .
(7) – الامام القشيري تفسير لطائف الاشارات – ج 1 – ص 165 .
(8) – الشيخ محمد الكسنزان – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج 13 – ص 470 .
(9) – عادل خير الدين – العالم الفكري للامام جعفر الصادق – ص 169 .
(10) – الحكيم الترمذي – الصلاة ومقاصدها – ص 4 .
(11) – الشيخ رشيد الراشد التاذفي – الدر المنظوم في وجوب محبة السيد الاعظم صلى الله عليه وسلم – ص 43 .