المقدمة
في هذه الدراسة سنحاول أن نسير في منحى نوضح فيه معالم الطريق إلى الله تعالى ، وهو عبارة عن تلمس مواطن الحقائق الصوفية من خلال السيرة الحياتية الشريفة لقدوتنا وأسوتنا حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى اله الطاهرين وصحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم وأثرها في تكوين أركان الحياة الروحية في الإسلام .
إن هذه الدراسة تدعو إلى التعرف على سيرة حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وتفاعل الصحابة الكرام معه فيها وهي محاولة لحث الناس على محبتهم والاقتداء بهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم ..
وسعي هذه الدراسة للكشف عن الجوانب الروحية لهم في مختلف أحوالهم سواء أكانوا آباء أو قادة أو محاربين ، حكاماً أو سياسيين أو مربين ، دعاة أو قضاة أو عارفين ، وعلى هذا فيمكن أن يجد كل مسلم بغيته فيهم أو في آحادهم ، فهم كانوا بحق النموذج المصغر لما تلاهم من البشرية إلى قيام الساعة . وإن الداعية يمكن أن يتلمس الأفق الروحي لدى الدعاة منهم ولا يقف عند حدود الكلمة والموعظة الحسنة ..
فإن مرتبة إعطاء كل ذي حق حقه هي مرتبة الإنسان الكامل المؤهل لخلافة الله تعالى في الأرض وهي الغاية العظمى التي جاء الإسلام لتحقيقها في هذه الحياة ، وقد اجتهد الصوفية في اتباع الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم والإقتداء به وبالصحابة الكرام للوصول والتحقق بهذه الغاية ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا .
فإذا كانت القضايا الإيمانية ذاتية تربط الإنسان بالله تعالى روحياً فإن أعمال الإنسان لها علاقة بالمجتمع الذي يحيا فيه تأثراً أو تأثيراً ، والأساس الذي تقوم عليه عقيدة الولاية في الإسلام هو تعميق رابطة الإيمان بالله تعالى من جهة واستحضار كمالاته القدسية جل وعلا قلبياً للتفاعل مع العمل الذي يقوم به المرء في حياته الدنيا من جهة أخرى وبهذا يصبح الإنسان وكأنه واسطة لتحقيق مراد الحق في الخلق . ومعنى هذا أنه لا فصل بين الجوانب الروحية والجوانب المادية في عقيدة الولاية الإسلامية على اختلاف مستويات هذين البعدين ، قال صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى في إشارة منه صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إلى ضرورة الترابط بين باطن العبد وظاهره في أقواله وأفعاله . فمن هنا جاءت أهمية دراسة سيرة المصطفى الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم من أقوال وأفعال وأحوال ، وكيف تأثر الصحابة بها في حركاتهم وسكناتهم ، وعلاقتها من جانب مترابط بين الشيخ والمريد .
فمن الضروري للمريد أن يعلم بأن ولاءه لشيخه ، والطاعة له هي من أولويات السلوك فالشيخ بين المريدين كالنبي بين أصحابه ويعني أن الشيخ في قلوب المريدين كالنبي في قلوب الصحابة وهو كما يقول ابن عربي قدس الله سره ( الوارث للنبوة من غير أن يكون نبياً ) ، فاقتداء المريد بشيخه هو اقتداء بحضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لأن الشيخ هو الوارث المحمدي ، ناهيك عن أن اتباع الشيخ يشع في القلوب أنوار اليقين ، ويذكي في النفوس جذوة الإيمان ، ويسمو بالنفوس إلى مستوى الإيمان والإحسان ، ويطهر القلوب من أدران المادة لقوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . فالشيخ قدس الله سره هو الطريق إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وباب الوصول إليه ، ومن وصل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فقد وصل إلى الله تعالى فالمشايخ إذن هم الطريق إلى الله جل وعلا والأدلاء عليه والباب الذي يدخل منه إليه ، وإن عدم اتباع الشيخ والطاعة له يورث الغفلة وقساوة القلب وانشغاله بالدنيا . فعلى المريد الصادق أن يفنى بشيخه ويؤثره بالمحبة على أهله وماله وعشيرته ونفسه . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين ) والشيخ هو الأب الروحي الذي يتقدم على أب الدم وهو كما يقال : ( الأب في الدين مقدم في النسب على الأب في الطين ) .
السير والسلوك في المدرسة المحمدية
أدرك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أهداف الرسالة المحمدية وغاياتها العظيمة ، فحاولوا جاهدين أن يستفيدوا منها في تكميل أنفسهم من خلال محبتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وطاعتهم المطلقة له ، فكانوا يستلهمون من حضرته صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كل الحقائق والمعاني الروحية التي يستفيدون منها في تعاملهم مع الحياة الدنيا ، إذ كانت تمدهم بالقوة الروحية التي يغتنموها للدعوة والإرشاد وللبناء والجهاد ..
لقد كان التدارس في القضايا الروحية لوناً خطابياً معروفاً في عصر الصحابة ، ولقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم يفهمون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ما يرمي إليه ، وكان حضرته صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يرشدهم إلى المراقي التي تساعدهم على زيادة إيمانهم وترفع من سقف يقينهم وتقواهم ..
لنستمع إلى حوار تطرق إلى جوانب روحية مهمة أفرد لها علم التصوف فيما بعد القواعد والأصول ..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم خرج يوماً فاستقبله شاب من الأنصار يقال له : حارثة بن النعمان ، فقال له : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمناً حقاً ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : انظر ما تقول ، فإن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ ، فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعادون فيها ، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أبصرت فالزم ، مرتين ، عبد نوّر الله الإيمان في قلبه ، فنودي يوماً في الخيل : يا خيل الله اركبي ، فكان أول فارس ركب ، وأول فارس استشهد ، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فقالت : يا رسول الله ، أخبرني عن ابني حارثة ، أين هو ؟ إن يكن في الجنة لم أبك ولم أحزن ، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في الدنيا ، فقال لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : يا أم حارثة ، إنها ليست بجنة ولكنها جنان ، وحارثة في الفردوس الأعلى ، فانصرفت وهي تضحك وتقول : بخ بخ لك يا حارثة .
إن المرتبة الإيمانية التي وصل لها حارثة لم تعزله عن واقعه الاجتماعي وما يتطلبه العمل مع الجماعة بل بالعكس كانت دافعاً له ليكون سبّاقاً حين نادى داعي الجهاد : يا خيل الله اركبي . وبهذا يكون حارثة رضي الله عنه قد جسد على أرض الواقع نموذجاً رائعاً للمؤمن العامل للصالحات ، وكان ختامه مسك في الفردوس الأعلى .
من جهة ثانية فإن حديث حارثة رضي الله عنه قد اشتمل على مصطلحات طالما اهتم بها الصوفية أيما اهتمام وهي هنا الفحوى الحقيقي لعبارة ( حقيقة الإيمان ) التي سأل عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، والتي أكد حقيقتها فيما بعد وعلل سببها بالنور الذي أشرق في قلب حارثة والذي جعله يرى ما لا يرى غيره من أحوال أهل الجنة والنار وعرش ربه وما لم يتطرق لذكره .. والحديث في مجال اليقين ( حقيقة الإيمان ) يطول عند الصوفية ولكنه في الأصل استقى جذوره الأولى من سلوك الصحابة الكرام بين يدي الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم. ومما يثيره حديث حارثة رضي الله عنه أيضاً هو الإشارة إلى مراحل السلوك التي تخصص الصوفية فيها فيما بعد على اختلاف طرقهم ومشاربهم ، إذ بداية الطريق هو عزوف النفس عن الدنيا والزهد فيها ، والعمل بأركان السلوك ومنها الإكثار من قيام الليل ( السهر ) وصيام النهار ( الجوع ) والإخلاص فيها يوصل العبد إلى مراتب اليقين ومنها مرتبة عين اليقين التي وصلها حارثة رضي الله عنه . ومن أهم ما يمكن أن نقف عليه من هذا الحديث الشريف أيضاً هو إشارة رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إلى مسألة نور الإيمان ( اليقين ) والذي محله القلب وهو ما يقول به مشايخ الصوفية ويؤكدون عليه في كل أطروحاتهم التي تذهب إلى أن القلب هو مركز معرفي ثاني في الإنسان جنباً إلى جنب مع العقل ، والفارق الرئيسي بين القلب والعقل هو أن علم القلب والمسمى ( معرفة ) يكون شهودياً بينما العلم العقلي تصوري . إن ما يمكن أن ننتهي إليه من هذه القصة هو أن الوصول إلى مراتب الكمال في الدين الإسلامي يمكن أن تتحقق إذا ما اقترن الإيمان بالعمل الصالح ، وإذا ما تجاوز العبد المعنى الضيق للإيمان المحصور في التقليد إلى فضاء التحقيق كما كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يفعلون .
التمسّك بالدعوة والثبات على العقيدة
إن المشركين مشوا إلى أبي طالب مرة فقالوا له : يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلةً فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك ، فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً بتسليم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لهم ولا خذلانه . وأن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليَّ وعلى نفسك ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: ( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ) ، قال ثم استعبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فبكى ثم قام ، فلما ولى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل يا ابن أخي ، فأقبل عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقال : اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشيء أبداً .
ومن صور التمسك بالإيمان والعقيدة والدفاع عنهما أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في شِعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحي بعير فشجه ، فكان أول دم أهريق في الإسلام .
وعند اشتداد الحصار على الصحابة , وبني هاشم , وبني عبد المطلب , اضطروا إلى أكل ورق الشجر ، وأصيبوا بضنك العيش وشدته ، إلى حد أن أحدهم يسمع بقعقعة شيء تحته ، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها ، ثم يحرقها ثم يسحقها ، ثم يستفها ، ويشرب عليها الماء ، فيتقوى بها ثلاثة أيام وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع ، ولكن السيرة لم تذكر أبداً أن أحداً منهم قد تراجع عن دينه وعقيدته . وهكذا يجب أن يكون المريد صابراً على الأذى والعذاب محتسباً في سبيل عقيدته شامخاً ، أمام عدوه ، قال حضرة السيد الشيخ الخليفة السلطان محمد المحمد الكسنزان قدس الله سره : لكل درويش عدو يهيأ له ، يبادره بالعداوة وذلك ليشتد عوده ويصلب موقفه أمام عدوه قال تعالى : {وَكذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً مِنَ المُجْرِمين }.
نموذج من الهجرة النبوية
إن الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى ، وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين ، حتى تأكد من وجود القاعدة الواسعة نسبيّاً ، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن الكريم وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة . وقد تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله ، وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم إليهم ، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية ، تؤكد الحرص الشديد من الأنصار على تأكيد البيعة ، والاستيثاق للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم ، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل منى ، ممن آذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك ، ولكنه قال لهم : « لم أؤمر بذلك » . حتى أتى الإذن من الله تعالى بالهجرة إلى المدينة ، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : « لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم طابت نفسه ، وقد جعل الله له منعة ، وقوماً أهل حرب وعدة ، ونجدة ، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج ، فيضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم واستأذنوه في الهجرة ، فقال : « قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين ، وهما الحرتان ، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي » ، ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً ، فقال : « قد أخبرت بدار هجرتكم ، وهي يثرب ، فمن أراد الخروج فليخرج إليها » ، فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك . ومن أساليب قريش في محاربة المهاجرين ، ومن مشاهد العظمة في الهجرة أن عملت قيادة قريش ما في وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة ، واتبعت في ذلك عدة أساليب منها : أسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده ، وأسلوب الاختطاف ، وأسلوب الحبس ، وأسلوب التجريد من المال .
خروج النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم واستخلافه عَلِيّاً على فراشه
أتى جبريل رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه : « نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم عليه ، فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم » وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ينام في برده ذلك إذا نام . ولما اجتمعوا وفيهم أبو جهل بن هشام ، فقال وهم على بابه : إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها ، وخرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : « نعم أنا أقول ذلك وأنت أحدهم » ، وأخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه ، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم ، وهو يتلو هذه الآيات : يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم إلى قوله : فأغشيناهم فهم لا يبصرون حتى فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم من هؤلاء الآيات ، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم ، فقال : وما تنتظرون هاهنا ؟ قالوا محمداً ، قال : قد خيبكم الله ، قد والله خرج عليكم محمد ثم لم يترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً ، وانطلق لحاجته ، أفما ترونها بكم ؟ قال : فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، فإذا عليه تراب ، ثم جعلوا يطّلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فيقولون : والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده ، فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا ، فقال علي على الفراش ، فقالوا : والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا ، فكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى ، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة ، والأمن مفقود بل يغتنم كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى ، ولذلك نجده صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة ، وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة ، ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً ، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته . فقد ذكر أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب الأسلمي ، فدعاه إلى الإسلام ، وقد غزا مع الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ست عشرة غزوة ، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام ، وفتح الله لقومه – أَسْلَم – على يديه أبواب الهداية ، واندفعوا إلى الإسلام ، وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس ، قال صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: « أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، أما وإني لم أقلها ، ولكن قالها الله عز وجل » .
وصول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة
وكانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ووصوله إليهم سالمـاً ، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد ، وحملت الرجال على ترك أعمالهم ، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً ، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً ، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجب فيها ، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، قال عبد الرحمن بن عويم : حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قالوا : لما بلغنا مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم من مكة وتَوكّفْنا قدومه ، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، فإذا لم نجد ظلاً دخلنا ، وذلك في أيام حارة . حتى جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وصاحبه ، فكمنّا في بعض خراب المدينة ، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما ، فقالت الأنصار : انطلقا آمنين مطاعين ، فأقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وصاحبه بين أظهرهم ، فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن : أيهم هو ؟ أيهم هو ؟ فما رأينا منظراً شبيهاً به . قال أنس رضي الله عنه : فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أر يومين شبيهاً بهما . فإظهار السرور لقدومه صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم هو سرور محمود ، وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به وفي كل سبب مباح من أسباب السرور ، كما يقول الغزالي في الإحياء : وكان من الفرح بقدوم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إنشاد الناس بالدف والألحان وهم يقولون :
طلع البدر علينـا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعـا لله داع