لابد ان نضع النقاط على الحروف في مسألة قد تطرق وهي قول القائل ، ان أحوال النفس البشرية أمر يقوم بتحليله الفلاسفة الالهيون أيضا وكذلك القول بوحدة الوجود ، موجود ايضا في افلاطونية المحدثة ومن تأثــر بهــا من مذاهب فلــسفية ، فكيف يــتم التمييز بيــن أهل الطــريقة وهــؤلاء ؟ والجواب عن ذلك ، ان أهل الطريقة يتميزون عن الفلاسفة الإلهيين بما يلي:
1- أداة المعرفة:
عند أهل الطريقة هي ملكة خاصة تسمى الذوق او العيان (الشهود) بينما عند الفلاسفة الإلهيين هي العقل والبرهان العقلي ، لذلك فان أهل الطريقة يفرقون بين علم الظاهر وعلم الباطن ، ويقصدون بعلم الظاهر أساسا لعلم الشريعة لأنه يتعلق بالأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة وهي العبادات والأحكام الشرعية . أما علم الباطن فيتعلق بالأعمال الباطنة (أعمال القلوب) وهي المقامات والأحوال مــثل: (التصــديق ، الأيمان ، اليقين ، المعرفة ، التوكل ، المحبة ، الرضا ، الذكر ، الشكر ، الإنابة ، التقوى ، المراقبة ، الخوف ، الرجاء ، التفويض ، القرب ، الشوق ، الوجد ، التعظيم ، الإجلال ، الهيـبة) ، وكما نعلم ان علم النفس عند الفلاسفة والنفسانيين لا يعني بهذه المعاني فهي من مميزات علم الباطن عند أهل الطريقة وان علم النفس في الطريقة ما هو إلا دراسة لأحوال النفس في علاقتها مع الله تعالى .
اذن المعرفة التي يصل إليها المريد هي معرفة مباشرة بغير وسائط من مقدمات او قضايا او براهين إنها معرفة فوق عقلية لا ينالها إلا من سلك سبيل الطريقة وألهم المعرفة المباشرة ومن هنا تسمى المعرفة (كشفا) ولهذا نرى ان هذه المعرفة هي (علم الصديقين وان من كان له نصيب وهو من المقربين ينال درجة أصحاب اليمين) ، فهي من مواهب الله وكرمه وفضله لا تأتي إلا بعد طهارة القلب وتزكية النفس قال تعالى: (قد أفلح من زكاها )(1) ، هناك تفيض عليه الأنوار من قبل الواحد الأحد وإذا وصل المريد الى هذه الدرجة (سمي عارفا) .
2- فيما يتعلق بالقول بوحدة الوجود :
يتميز أهل الطريقة بأنهم يهدفون أساسا ومنذ البداية الى الوصول الى هذا الاتحاد أي (مرتبة شهود الحق في قلب السالك فتنمحي الكثرة وتتجلى الوحدة ، ويفنى المتناهي في اللامتناهي) ، هنا ينمحي كل وجود للعالم الخارجي ولنفس المريد السالك ، فيرى السالك الله وحده ، ويعرفه معرفة ذوقية عن طريق اتصاله به روحيا .
أما عند الفلاسفة الإلهيين القائلين بوحدة الوجود ، فان المهم هو معرفة ترتيب الكون وكيفية تركيـبه بصدوره عن الواحد في صدورات متوالية يتدفق بعضها من بعض في مراتب ، فوحدة الوجود عندهم نظرية في الكون وعند المريد السالك أساس يستند إليه في تجربة الاتحاد (الفناء التام) فالفيلسوف يسعى لإدراك الوحدة ، والمريد يفترضها مقدما ويسلك الطريق لتحقيقها في تجربته الذاتية ، ذلك ان الطريقة تقوم أساسا على السلوك والممارسة الحية ، بينما الفلاسفة لا شأن لهم بالعمل والممارسة بل علمهم نظري خالص .
ان الفلسفة تعتمد على مقدرة الإنسان الفكرية للمعرفة ولا يمكنها الوصول الى (حق اليقين) في الإلهيات ، ذلك ان العقل البشري محدود في طاقته كما هو الحال في الحواس جميعا وميدان حق اليقين في الإلهيات لا حدود له (والمحدود المتناهي لا يحيط بما لا حد له ولا نهاية) فالعقل لا يدرك شيئا إلا بعد الاحاطة بحده الذاتي ، أي إلا عندما يكون محيطا بالمحدود احاطة شاملة فلا يمكنه إدراك ما وراء الطبيعة مما هو خارج عن دائرة المادة .
ان العقل يعتمد أدوات ووسائل مادية لمعرفة الأشياء هي الحواس الخمسة : (البصر ، السمع ، الذوق ، اللمس ، الشم) ، وهذه الحواس لا تدرك ما يقع خارج قوتها الحسية ، ولمحدودية وظائفها فلا قدرة لها على إدراك ما وراء الطبيعة . والخلاصة ان إدراك ما وراء الطبيعة هو إدراك معنوي وهو شيء وجداني له علاقة بالأيمان والحس الوجداني فهو ليس منهج الفلاسفة المعتمد على العقل والحواس الخمسة .
ان العقل البشري قادر على التوصل (بالاستدلال) الى ان لهذا الكون مدبرا وربا عظيما والتفكير العقلي قاد معظم الفلاسفة الإلهيين الى الأيمان بالله وكذلك الأنبياء كما هو الحال بسيدنا إبراهيم عليه السلام إذ استدل بعقله الى معرفة الله ، قال تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين )(2) ، وما هذه الآيات إلا دليل على استدلال سيدنا إبراهيم بعقله على وجود الله سبحانه وتعالى .
ان لكل فلسفة نمط خاص في التفكير العقلي فأرسطو مثلا اعتمد مبدأ العلة الفاعلية والعلة الغائبة للتوصل الى معرفة واجب الوجود ومعنى ذلك ان لكل معلول علة أوجدته بموجب نظام ، وما من شيء يحصل اتفاقا وبالمصادفة وبالخوارق ، وكل ما في الكون خاضع لهذا الناموس الشامل ، غير ان هذه العلل تنتهي الى علة موجودة بذاتها لم تنشأ عن علة خارجة عنها ويسمي أرسطو هذه العلة (السبب الأول) . وكذلك الحال عند الفلاسفة المسلمين إلا إنهم حاولوا تقريب الفلسفة الى الدين فالفارابي ركز نظرته العقلية على فكرة الواجب والممكن ، واتضحت هذه الصورة عند ابن سينا إذ توصل بها الى حقيقة واجب الوجود وبمقتضى هذه الفلسفة يكون واجب الوجود هو الله مدبر الكون ، أما المخلوقات فهي من الممكنات ، أما الفيلسوف الكندي فقد نظر الى فكرة الأثر والمؤثر والسبب والمسبب ورأى ان لهذا الكون منظما بديعا ، وحيث ان لكل اثر مؤثرا ولكل سبب مسببا فان للكون منظما بديعا لا ريب فيه .
وقد جمع جون كلورمونس في كتابه (الله يتجلى في عصر العلم) آراء أربعين أستاذا وخبيرا في المعرفة البشرية في عصرنا آمنوا بالله سبحانه وتعالى بتأملهم العقلي في عجائب الكون وقالوا جميعا ان هذا الكون العظيم البديع لا يمكن ان يتكون دون مهندس أزلي خالد .
وللإمام الغزالي تجربة غنية ورائدة فيما نحن بصدده (الفلسفة والطريقة) حيث بين ذلك في كتابه (المنقذ من الضلال) فقال: (… رأيت الفلاسفة على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم ينقسمون الى ثلاثة أقسام :
1. الدهريون .
2. الطبيعيون.
3. الالهيون .
الصنف الأول (الدهريون):
هم طائفة من الاقدمين جحدوا الصانع المدبر العالم القدير وزعموا ان العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه بلا صانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا وهؤلاء هم الزنادقة .
الصنف الثاني (الطبيعيون) :
وهم قوم أكثروا بحثهم في عالم الطبيعة وعجائب الحيوان والنبات وأكثروا الخوض في علم التشريح وأعضاء الحيوان فرأوا فيها من صنع عجائب الله تعالى وبدائع حكمته ما اضطروا معه الى الاعتراف بفاطر حكيم مطلع على غايات الأمور ومقاصدها إلا ان هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم الاعتدال بالمزاج تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان فظنوا ان القوى العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه ايضا وإنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم ثم إذا انعدم لا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا فذهبوا الى ان النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة وانكروا الجنة والنار والحشر والنشر والقيامة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام وهؤلاء زنادقة ايضا لان اصل الأيمان هو الأيمان بالله تعالى واليوم الآخر .
الصنف الثالث (الالهيون):
وهم المتأخرون مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون هو أستاذ أرسطو وهو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم . ثم صنف الغزالي علومهم فقال اعلم ان علومهم ستة أقسام : رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية . وبعد ان ناقشها قال: (ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه علمت ان ذلك ايضا غير واف بكمال الغرض وان العقل ليس مستقلا بالاحاطة بجميع المطاليب ولا كاشفا للغطاء عن جميع المعضلات)(3) .
ثم تناول تجربته مع الطريقة فقال: (ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت ان طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل وكان حاصل علومه قطع عقبات النفس والتنـزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها الى تخلية القلب من غير الله تعالى وتحليته بذكر الله … فظهر لي ان اخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات)(4) .
وبعد ان جاهد نفسه بالعزلة والخلوة والرياضة وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب قال: (إني علمت يقينا ان الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وان سيرتهم أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا فان جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة وليس وراء النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به)(5) .
الهوامش:
[1] الشمس: 9.
[2] الأنعام : 76 – 77 – 78.
[3] الغزالي – المنقذ من الضلال- ص34 .
[4] المصدر نفسه والصفحة نفسها .
[5] المصدر نفسه والصفحة نفسها- ص49-50.