يقول الإمام أحمد بن قدامة المقدسي : « اعلم أن لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتجرد والإنفراد لخدمته ، وقد كان الرهبان ينفردون في الجبال طلباً للأنس بالله ، فجعل الحج رهبانية لهذه الأمة … واعلم أن في كل واحد من أفعال الحج تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر . فمن ذلك : أن يتذكر بتحصيل الزاد ، زاد الآخرة من الأعمال . وليحذر أن تكون أعماله فاسدة من الرياء والسمعة فلا تصحبه ، ولا تنفعه ، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر ، فيبقى صاحبه وقت الحاجة متحيراً .
فإذا فارق وطنه ودخل البادية وشهد تلك العقبات ، فليتذكر بذلك خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وما بينهما من الأهوال .
ومن ذلك : أن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه ، إذا لبس المحرم الإحرام لبس كفنه ، وأنه سيلقي ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا .
وإذ لبى ، فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال : {وَأَذِّنْ في النّاسِ بِالْحَجِّ}(1) ، وليرج القبول وليخش عدم الإجابة .
وكذلك إذا وصل إلى الحرم ، ينبغي أن يرجو الأمن من العقوبة ، وأن يخشى أن لا يكون من أهل القرب ، غير أنه ينبغي أن يكون الرجاء غالباً ، لأن الكرم عميم ، وحق الزائر مرعي ، وذمام المستجير لا يضيع .
ومن ذلك : إذا رأى البيت الحرام استحضر عظمته في قلبه ، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه .
وليستشعر عظمة الطواف به ، فإنه صلاة .
ويعتقد عند استلام الحجر أنه مبايع لله على طاعته ، ويضم إلى ذلك عزيمته على الوفاء بالبيعة .
وليتذكر بالتعلق بأستار الكعبة ، والالتصاق بالملتزم : لجأ المذنب إلى سيده ، وقرب المحب …
ومن ذلك : إذا سعى بين الصفا والمروة ، ينبغي أن يمثلها بكفتي الميزان ، وتردده بينهما في عرصات القيامة ، أو تردد العبد إلى باب دار الملك ، إظهاراً لخلوص خدمته ، ورجاء الملاحظة بعين رحمته ، وطمعاً في قضاء حاجته .
وأما الوقوف بعرفة : فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق ، وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم موقف القيامة ، واجتماع الأمم في ذلك الموطن ، واستشفاعهم .
فإذا رميت الجمار : فاقصد بذلك الانقياد للأمر ، وإظهار الرق والعبودية ، ومجرد الامتثال من غير حظ النفس .
وأما المدينة : فإذا لاحت لك فتذكر أنها البلدة التي أختارها الله لنبيه وشرع إليها هجرته ، وجعل فيها بيته ، ثم مثّل في نفسك مواضع أقدام رسول الله عند تردده فيها ، وتصور خشوعه وسكينته ، فإذا قصدت زيارة القبر ، فأحضر قلبك لتعظيمه ، والهيبة له ، ومثل صورته الكريمة في خيالك ، واستحضر عظيم مرتبته في قلبك ، ثم سلم عليه واعلم أنه عالم بحضورك وتسليمك »(2) .
_____________________
الهوامش :
[1] – الحج : 27 .
[2] – الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي – مختصر منهاج القاصدين – ص 63 – 64 0 .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج5- مادة ( ح ج ج ) .