يوسف سامي اليوسف
في سنة 1978 نشر الشاعر محمود السيد نصاً جيداً عنوانه مونادا دمشق. واليوم، أي بعد مرور حوالى عشرين سنة، نشر الكاتب نفسه نصين جديدين أظنهما قادرين على جذب انتباه المتابعين لحركة الكتابة الأدبية في سورية. أما الأول فعنوانه سهر الورد، وأما الثاني فعنوانه تتويج العشب. والنصوص الثلاثة من نوع الكتابة التي تسمى عادة بقصيدة النثر، مع أن الأفضل أن تسمى “الكتابة الفنية”، وذلك بغية فصلها عن القصيدة الموزونة فصلاً نهائياً حاسماً. وأياً ما كان الأمر، فإن سهر الورد: تجليات السهروردي في الورد والدم هو نص صوفي إلى حد كبير، لاسيما أثناء اللحظات التي يتخذ فيها من مثنوية النور والظلام موضوعاً له، وكذلك في البرهة التي يناجي بها الغياب ويحثه على الحضور والاستقرار في الدخيلة الجوانية حصراً. والحقيقة أن هذا النص الصافي، والمكتوب بلغة شديدة العذوبة والسلاسة، هو أغنية برسم النور والعلو في آن واحد. فما هو دالٌّ في ذاته، أنه حين يميِّز بين اللغة والكلام، إنما يميِّز بين العالي والخفيض، وبين الأصيل والنفيل، أو بين ما هو حي وما هو ميت. يقول: قبلك كنت في الكلام، فيك أستعيد اللغة. في اللغة الجسد خارج الجسد.
في اللغة أتوحد بك، بأقنوم النهار، ضد أقانيم الليل. (ص14) قد لا يخفى البتة أن اللغة في هذا الموضع هي العلوّ، أو اللوغس Logos الذي هو روح الكون وسرُّه ونظامه السرمدي، وأن الكلام هو الثرثرة الخاوية التي ليس من شأنها إلا أن ترمِّد الحياة. ويترسخ هذا المعنى في ذهن المرء حين يقرأ هذه الكلمات: وليس الجمر من الرماد.
الجمر من القلب، اللغة من القلب، الكلام من الرماد. (ص27)
أو هذا القول: توضأ باشتعالك، فلا تكون تحت سلطة الضجيج. (ص44)
وليس بخافٍ أن الضجيج ههنا هو الاسم الآخر للكلام، الذي يمتد معناه في هذا النص بحيث يتحول إلى مقولة سياسية سالبة. فكلاهما ليس لغة، وكلاهما يعجز عن أن يقول أيَّما شيء ذي بال. إنهما يفعمان الجيل الراهن بالخواء الباهت والباعث على الإحساس بأن الحياة ما عادت سوى بؤس أسود: “كلام هو العتمة يبايع سلطة الضجيج” (ص60). ولعل مما هو واضح أن الكاتب، حين يقول الكلام والضجيج، إنما يقصد الزيف والتزوير. وهذا يعني أن التاريخ مرجع من المراجع الكبرى للنص الراهن. بل لعل من الميسور القول بأنه نص مركب من التاريخي والصوفي على السواء، بحيث يمكن للمرء أن يقرأه على هذا الوجه أو ذاك، أو وفقاً لنهج يدمج الشيئين كليهما في بنية عليا. ولكن ما يجدر التنويه به، على صعيد الشكل أو البنية الصميمية، هو أن النص كثيراً ما ترد فيه صور الماء والنار، وكذلك الجمر والاشتعال، وهما وثيقا الصلة بالنار والحرارة. ومما هو جد معلوم في علم الرموز أن الماء أمومي أو أنثوي، وأن النار أبوية أو ذكرية. والحقيقة أنه ما من تضادّ بين الماء والنار في هذا النص، بل لاريب في أنهما يتكاملان تماماً كما تتكامل الذكورة والأنوثة في الحياة الواقعية. ولكن ما هو واضح إلى حد بعيد أن الرماد هو النقيض المباشر للنار، أو للحيوية والوجود الأصلي. أما الماء فنقيضه الرمل والعطش واليبس. ومما هو ملحوظ، بل مؤكَّد، أن المفردات الدالة على هذه الأشياء الثلاثة كثيرة التواتر في النص الراهن. ثم إن هنالك مثنوية أخرى من شأنها أن تلفت الانتباه بسبب من شدة تواترها، وهي مثنوية النوم واليقظة. يقول: “نوم يقوم بيني وبينك، فنظل على طرفي مسافة الانشطار” (ص32). إنها الاسم الآخر لمثنوية الغياب والحضور، بل إنها شديدة الشبه بمثنوية الموت والحياة. ناصع، إذن، أن النص الراهن منسوج من جملة من المثنويات أو المتضادات، وبخاصة مثنوية الخصوبة واليبس، أو الترمُّد، التي هي الاسم الآخر لمثنوية الوجود والعدم. ومع أن الصورة التموزية (الحسية الجسدية، واخضلال النبات، في مقابل الترمُّد والاندثار) تكاد أن تكون قوام هذا النص، سداة ولحمة، فإنه في جوهره نداء صوفي لغائب لا يغيب. فالتفكير بالمسافة الداخلية، وكذلك بالغياب والانشطار، أو الافتراق عن الطرف الذي لا كمال من دونه، هو لباب الصوفية، أو برهة تركيبية في لبابها الدائم، دون أدنى ريب. بيد أن الوجه الحيوي للتموزية، ولاسيما الماء والزهور وبعض النباتات الأخرى، وهي صور ذات طبيعة أنثوية دمثة، قد أسهم أيَّما إسهام في إسباغ النعومة والرقة على النص نفسه. وربما صح القول بأن هذه الجملة من المثنويات التي تنسج قماشة النص قد أسهمت هي الأخرى في تزويده بالقوة والجودة معاً. فالتضادّ برهان على أن الحياة خصيبة، متحركة، منتجة، بل على أنها تتصف بالزخم والعنفوان وشدة الاندلاع. ثم إن اهتمام الكاتب، كائناً من كان، بالتناقض والصراع واختلاف المتباينات، هو توكيد جازم على أنه ينتمي إلى الحياة، ويغار على سلامتها ونظافتها. وهذا الانتماء هو بحد ذاته مصدر عافية وريعان، أو ينبوع من شأنه أن يزود النص الأدبي بالطاقة والحيوية على الدوام. فلا مبالغة في الاعتقاد بأن الاهتمام بالمثنويات والأضداد ههنا هو واحد من أهم العوامل التي صنعت المزيَّة أو الجودة لهذا النص الراهن. وأياً ما كان جوهر الحال، فإن هذه الترنيمة بأسرها ليست سوى خطاب يوجهه المبدأ الأنثوي إلى المبدأ الذكري، وذلك لدى الحكم على الوضع من خارجه المحض، أو من سطحه المعطى لمقلة العين. ولكن الأصح أن يقال بأنها نداء يوجِّهه الحضور إلى الغياب، أو ما هو هنا إلى ما هو هناك، ولكنها في الحالين كليهما، تبقى نتاجاً فورياً لحلم مفاده أن كمال السعادة لا يتحقق إلا في الحب، وفي الاتحاد بالآخر، الأمر الذي من شأنه أن يؤكد ما فحواه أن الآخر هو من يتكامل بي وأتكامل به. “لاوطن لنا إلا في العشق” (ص93). فلا معنى للأنا بغير الأنت، وبما أن الأنت غائب فلا وجود لغير الرماد. ولكن هذا الهيام المترنِّم بأمجاد الجسد والروح على السواء هو، في الوقت نفسه، نتاج غير مباشر لقلق عارم تعيشه الذات التي يحاصرها الضجيج والكلام والرماد وما إلى ذلك من سلوك خانقة. ولعل المرء أن يوفَّق إلى السداد إذا ما ذهب إلى أن هذه النداءات الصادقة الصافية، التي يفعمها الحنين إلى السعادة أو إلى بهجة أصلية وعذوبة فاتنة، قد جاءت لتكون بمثابة تعبير عن غياب الحياة الحقيقية التي رمَّدها الزيف والتزوير، بعدما استلّ منها دسمها وطيبة نكهتها، فغدت أشبه بوردة صوحت تحت شمس تموز الحارقة. ولكن هذا التهجُّس للغياب، وهو ما يترع الروح بالحنين، لا يسعه أن ينوب عن الغائب، أو أن يكون بديلاً له، ففي الحق أن نائب الغائب، أو البديل عن السعادة المفقودة، هو النص نفسه، أو تلك المنسوجة اللغوية التي تبتكرها النفس تحت ضغط الحاجة إلى التألق والتضوُّع، بل إلى التفوُّر والرعش. وإذ ينوب النص عن الغائب، حتى لكأنه يحاول أن يستحضره، أو أن يجيء به مما وراء المسافة السرمدية، فإنه يمتص اللوعة، أو يخفضها إلى أدنى درجة ممكنة. ولعل في ميسورك القول بأن عذوبة النص هي في حد ذاتها تعويض عن العذوبة المفقودة. وربما صح القول إن امتصاص اللوعة من شأنه أن يرسخ تناسق البنية الروحية، وأن يعزز انسجامها الذي لا تستقيم الحياة من دونه، بل لابد لها من أن تفقد أصالتها وطيبة نكهتها في حال اختلاله. ولا مبالغة في الاعتقاد بأن كل شعر عظيم في اللغة العربية، منذ امرئ القيس حتى اليوم، قد أنتج تحت ضغط اللوعة قبل سواها من اضطرابات النفس. وفضلاً عن ذلك كله، فإن ثمة في هذا النص شعوراً نصف مكتوم بأن أنْفَس ما في الإنسان يخنقه طغيان السلب، أو الحرمان والحظر، أو يخنقه جبروت المسافة التي تتأبَّى على الطيّ أو على الاجتياز. ولهذا كان هنالك في النص ظمأ طاغٍ إلى فرح الاتصال بالحياة السوية وما يندرج فيها من مسرَّات مدهشة. يقول: وانس أنك كنت، فلايشغلك اشتياق إلى ما كنت، عن اشتياقك إلى ما ستكون اسهر معي لتقوم مع العشب وتستقبل الرعاة، لتقوم مع السنابل وتستقبل الشمس، لتقوم مع العصافير وتستقبل الرحابة. لتقوم مع الجياد وتستقبل البراري. (ص36) لكأن هذا المقبوس الأخير تشكيل لصورة تفتح الروح على روعة التكوين والابتكار. وهو نداء يدعوك إلى الاندياح فوق الأمداء المتمادية، أو فوق المسافات المسرَّحة التي لا تبدأ ولا تنتهي على الإطلاق. وبداهة، فإن مثل هذه الدعوة لا يملك أن يوجِّهها إليك إلا اللغة (اللوغس)، وليس الكلام الرمادي اللون، أو ما لا يتمتع بأي مساحة ذات شأن. ومع أن المكشوف، أو العنصر الحسِّي ههنا يتلامح من بعيد، في بعض الأحيان، فإنه في الغالب الأعمّ يبقى مستبطناً، محايناً، أو شديد الاستتار. ولقد جاءت هذه السمة في صالح النص حقاً. إذ لا يخفى على الألباب أن المكشوف هو أكثر أصناف الكتابة سهولة. فما من أحد إلا وهو قادر على الإتيان به على نحو من الأنحاء. ولهذا يصح القول بأن النص الراهن هو أغنية الذات التي استلبها التشيُّؤ، بل شيَّأها، أو أحالها إلى مسافة وغياب، بعدما حجز بينها وبين صبواتها وحاجاتها الملحة بسور صيني لا يرضخ للاختراق أو للعبور. ففي صلب الحق أن هذا النص لا يكافح ضد شيء قدر ما يكافح ضد قوة الإقصاء والتغريب التي أحالت الذات المنفية إلى جماد ملقى بين الجمادات، حتى لكأنها صنو الصخور أو الرمال. وبسبب هذا الكفاح، وهذه المواجهة مع الاغتراب، جاء النص تعبيراً حياً عن بطولة توكيد الإنسان، أو توطيده، في مواجهة القوة التي تقتلع وتجتث وتطمس وتغيِّب. يقول: أيها السرّ العظيم، ما يبشَّر به القلب فيفرح، ما يغسل وجع الجذور فلا تكون إلا النضارة، ما يغسل الرماد، فلايكون إلا لهب وجمر. (ص103-104) ثم إن النص صريح في توجيه إصبع الاتهام إلى هذا العصر بأنه عصر التزوير. فهذا هو الزمن الذي يتغلب فيه العطش على الماء، كما يقول النص نفسه، ويدَّعي الرمل بأنه الحقل، كما يدَّعي الليل بأنه النهار. ولهذا فإن اللغة تعجز عن أن تغلب الكلام، أو الثرثرة الجوفاء التي أحالت الحياة إلى جيفة باردة (ص102). وإضافة إلى ذلك فإنه يطرح سؤالين أراهما في صلب السداد: كيف تكون كل هذه السنابل، وليس من بيادر؟
كيف يكون كل هذا العنب، ولا نبيذ يغسل ظمأ الجرار، وظمأ الشفاه؟ (ص 101) فالاتهام واضح جداً، والجهة التي تشير إليها الإصبع بيِّنة، حتى على تلاميذ المدارس الصغار. أما البعد الصوفي، أو بيت القصيد في النص كله، فهو ليس شديد النصوع وحسب، بل إنه لينتشر فوق مساحته بأسرها، على وجه التقريب، ولكنه يحضر حضوراً غزيراً في القسم الثاني عشر من هذا النص الراهن، وإن كان ممزوجاً بشيء من الحسِّية أو الدنيوية. ولابأس في استعارة هذا المقبوس الطويل ابتغاء توضيح الأمر: كيف أمحو الزمان وأدعوك لمجالستي، لمشافهتي، لملامستي، للطواف بي، وللبكاء من فرح؟ وكيف أقول بجسدي: فرحي بك عظيم. وأنك الواحد الذي لا يحصى، العاشق، المعشوق الذي لا اسم له والذي يأتي بكل الأسماء؟ ليس لزمانك زمان ليس لمكانك مكان وكيفما تموَّهتَ يسقط عنك الحجاب وأراك. (ص58) فمما هو جد معروف أن “الواحد الذي لا يحصى”، أو الواحد–الكثير، هو المطلق الذي يتعشَّقه أهل التصوف، وهو نفسه العاشق والمعشوق الذي لا يختص باسم واحد، لأن له جميع الأسماء الحسنى. وهو كذلك بغير زمان ولا مكان، لأنه له جميع الأزمان وجميع الأماكن. وأهل التصوف يقولون بأنهم يرونه، على الرغم من تعدُّد الصور التي يلبسها أو يتخارج بوساطتها. ولعل مما هو بيِّن تماماً أن المقبوس الأخير لا يستضيف أيَّما شعور بالتشيُّؤ أو بالاغتراب، بل هو لا يعنى بشيء سوى ترسيخ الأسانيد أو المحمولات التي يغتني بها المطلق الصوفي، وهو الذي حلت تحديداته ههنا فحذفت كل ما هو سالب أو ناقض لصحة الروح. وربما حالفك السداد إذا ما قلت بأن اللغة في هذا المقبوس تبذل قصارى جهدها كي توقف الصيرورة وتعلِّق سيولة الزمان، وذلك بغية الاستتباب في السكينة السرمدية الهانئة. وقد لا يبالغ المرء إذا ما أعلن أن هذا العنصر الصوفي الحميم ذو أثر طيب. فحواه أنه أضاف العمق واللطف والنكهة والفحوى إلى نسيج هذا النص المتميِّز كله.
_________
المصدر : موقع معابر .
http://maaber.50megs.com/second_issue/irridations_suhrawardi.htm