محمد سالار شيخ على
استأثرالتصوف باهتمام الباحثين قديماً و حديثاً و كثرت الابحاث و الدراسات التي تناولته تأريخاً و دراسة و نقداً, و تباينت الاراء في حقيقته و في اثره على الفرد و الجماعة. و لا اعتقد ان تراثاً مكتوباً, مهما كان نوعه اختلف فيه مثل ما اختلف في التراث الصوفي و ارى ان ما كتب عن التصوف ما كتب عن غيره من المعطيات العقل الانساني بحيث ما ان نتصفح الكتب و الابحاث و الدراسات سواء أكانت تأريخية او ادبية او فنية او سياسية او دينية او غير دينية حتى احياناً الكتب العلمية الا نواجه فيها الحديث عن التصوف و دوره و رجاله, ذلك لأن التصوف نزعة روحية توهجت في اعماق الانسان منذ القدم و قبس نوراني اتقد في حناياه, و ايقن ان ذلك القبس ومضة من ومضات الحقيقة المطلقة, التي اولع الانسان بالاهتداء اليها و الاتصال بها منذ فجر تفكيره في نفسه و في ما حوله من العوالم ليتعرف اسبابها و اسرارها و مبدأها و منتهاها. و لكن هذا الحب المتأصل و المتجذر في اعماق الانسان للاطلاع على الغيب و استكشاف المجهول قد تعوقه العوائق عن الوصول الى غايته فيضعف او يموت و لكنه ان مات في بعض النفوس فقد يظل قوياً و مضطرباً في نفوس اخرى مع اختلاف اصحابها اختلافاً واضحاً في طرق حبهم للحقيقة و في نظرتهم اليها لان منهم من يرى الحقيقة نحو ما رأى “دانتي” الشاعر الايطالي محبوبته “بياترس” شيئاً يمت الى هذا العالم بصلة, و لكنه يكشف لنا من عالم اخر قد يراها الشاعر في حلمه الشعري, و الزاهد في محرابه و الصوفي في قلبه و الفنان في جمال الكون و هكذا.. اذن تساوت في ذلك الشعور الانساني جمعاء, في الماضي و الحاضر في الشرق و الغرب بصرف النظر عن الأقوام و الاوطان و الازمنة و الامكنة. اختلفت الوسائل و تعددت العقائد, و لكن المنطلق واحدا و الغاية واحدة, فالبوذي الذي يفنى عن نفسه في حالات النيرفانا في اعماق الهند السحيقة, هو نفسه المتعبد في هيكله يحرق البخور, و هو باباطاهر العريان الدرويش الغريب الاطوار الذي يصبح يجول في الكون وحده, و لما يمسي يتوسد حجراً و ها هو يقول:
انـا الدرويـش الذي يدعـى قلندر
بـلاجاه و لا حشـم و مظهـر
حينما اصبـح اطوف الكـون وحـدي
و في الليل مضجعي ارض و وسادتي حجر
و صرخة الصوفي الالمان اكهارت الشهيرة: “ليس لأي مخلوق ان يلفظ كلمة (انا هو) الا الله وحده اذ على المخلوق ان يشهد على نفسه بانه ليس شيئاً” أليست هذه الصرخة هي صدى لما صرح به ابو نصر عبدالله بن علي السراج الملقب بطاووس الفقراء قائلاً: “لا يلفظ انا الا الله فهو الشخص الحقيقي” و الصوفي الانكليزي ادوار كاربنتر Edward Capenter (1844-1929) يصرح قائلاً: “هذا الادراك يبدو و كأن جميع المشاعر اتحدت في شعور واحد” و هذا القول هو كذلك صدى لقول ابن الفارض الملقب بسلطان العاشقين 576 هـ – 1182 م الذي سجله قبل سبعة قرون:
فعيني ناحت و اللسان مشاهــد
و ينطق مني السمع واليد اصخت
و سمعـي عيـن تجتلـي كـل مابدا
و عيني سمع ان شدا الناس تنصت
نحن لا نستوقف هذه النصوص لنتهم اصحابها بالانتحال او نقول اقتبس بعضهم من البعض, بل قصدنا من عرض هذه النصوص هو الاستدلال بها على ان اولئك الرجال كلهم جبلوا من طينة واحدة و صبوا من حيث روحانيتهم في قالب واحد و استمدوا تلك الاشراقات الروحية من نبع واحد بل كأن قبساً من نور غير نور هذا العالم يسري في كيانهم و ينير السبيل امامهم لنيل مطلبهم. و نرى التشابه بل التماثل بين مقولاتهم واضعاً بصورة لاغبار عليها.
و لذلك نرى ما كتب عن التصوف كثيراً جداً كما نوهنا اليه لانه اضافة الى ما كتب عنه من قبل علماء الاسلام و باحثيه كذلك ساهم المستشرقون مساهمة كبيرة في هذا المجال و ابرزهم: فرينولد نيكلسون, جلود تسهير, هنرى كوبان, اسين بلاثيوس, و على رأسهم الاستاذ لويس ما سينون الذي يعتبر اعظم باحث بين المستشرقين في مجال التصوف الاسلامي على الاطلاق(1) و غيرهم من المستشرقين الذين كتبوا عن بعض اعلام التصوف الاسلامي مثل: الحلاج, و المحاسبي, و الجنيد البغدادي, و ابن عربي, و ابن مسرة, و ابن سبعين, و الغزالي, و السهروردي, و جلال الدين الرومي و غيرهم من اساطين التصوف و مما لا مؤاربة فيه ان باباطاهر الهمداني كان من جهابزة الصوفية كما يبدو من رباعياته و بعض مقولاته و لكن كما قال العبقري الراحل العلامة الشيخ محمد الخال في مجلة المجمع العلمي الكردي العدد الخامس ما معناه: “ان الذي كتب عن هذا الشاعر الفريد لم يعطيه جزءاً من حقه بل ان بعض ما كتب عنه قلل من شأنه” و يرجع هذا الى اسباب حدد بعضها الاستاذ الخال منها: “عدم تملقه للناس بحيث لم يمدح في حياته الملوك و لا جبابرة زمانه و المستبدين الطغاة”(2) لان نفسه الأبية لم ترض ان تخالط قصائده الحصنة دنس عباد المظاهر و أبالسة المطامع و الشهوات و لذلك لم تكتب رباعياته بماء الذهب و لم تعلق فوق عروش السلاطين ولارصعت بها تيجان الملوك و مع ذلك لاتزال رباعياته مشرقة في صفحات الادب كأشراقة الشمس في وسط النهار لانها نقشت على قلوب عشاق الحقيقة و المدقعين الذين تمتع الاغنياء المترفون بما يسد رمقهم, و اولئك العشاق حفيظون للامانة لانهم هم الذين اختارهم الهمداني و عاشرهم و اوضح لهم معالم الطريق توضيحاً بحيث لا يضلونها مهما كان الليل حالكاً و بذلك خلدت اقواله و وصلت الينا مطرة بطرة الحب و العز. ثانياً انه عاش ناسكاً منعزلاً عن الناس و بالذات الملوك و السلاطين ثالثاً انه كسائر كتاب الكرد لم تفلت اعماله من تعسف المارقين و الجائرين ولامن تلاعب ذوي العاهات و بائعي الاقلام المنحرفين الذين يعيشون لبطونهم و داهمتهم بهيميتهم بحيث لا يرون أي شيء سوى غرائزهم النتنة, و لكن العدالة كامنة في كل شيء في هذا الوجود و ان السحب مهما تراكمت فلن تستطيع ان تحجب الشمس و لا تستطيع ان تطمس ضوءها و انه اضافة الى ما كتب عنه من قبل كتابنا المتضلعين فقد كتب عنه بعض المستشرقين بصرف النظر عن منصفيهم و متعسفيهم فنحن نقدر جهودهم منهم مينورسكى في كتابه ما تيروكس الصادر في موسكو عام 1911 و وليم جاكسون في كتابه زيارة الى قبر باباطاهر الهمداني الصادر عام 1922 و المستشرق هارون الين و المستشرق الفرنسي جونيوميسو (كلمانت هوار) و ادواردهن و بروان كما ترجم بعض رباعيات بابا الى الفرنسية و الانكليزية و الجدير بالذكر ان رباعيات بابا نشرت مع ترجمة فرنسية في 1885م من قبل الباحث كليمان نورمار(3) و لكن مع كل ذلك لايزال ميدان الهمداني متسعاً لدراسات مكثفة خاصة رباعياته التي لا تنضب معانيها مهما امتشق الكتاب مراقمهم الجبارة لشرحها و كشف اسرارها لان فلسفة التصوف و حقيقته و عالمه كلها كامنة في رباعياته ليس هذا فقط بل ان مراحله التي يمربها الزهاد كلها مسرودة فيها و من المعلوم ان التصوف عالم متوسع و متشعب بحيث يسع كل شيء كما صرح بذلك الهمداني: “التصوف يسع كل شيء و لا يسعه شيء”(4) و لفرسان التصوف صولات و جولات في هذا الميدان اللامتناهي بحيث ان اقطاب التصوف انفسهم متحيرون فيما بينهم بخصوص بعض الحالات التي تأخذ المجذوبين حيث يقول الهمداني: “انتهاء العقل الى التحير, و انتهاء التحير الى السكر”(5) لان الحقيقة تتجلى على قدر مقامات العارفين بحيث يمكن ان تتجلى حقيقة واحدة لمجموعة من فطاحل التصوف, و لكن يختلف تأثيرها حسب مستوى تطورهم في هذا المجال وقوة استجاباتهم للتجليات و تبعاً لذلك يعبر كل واحد منهم مما يشاهد من ومضات الحقيقة على قدر نضجه النفسي و استعداده الروحي و لذلك نرى اقوالهم متباينة و هذه الاقوال المتباينة انعكاسات نشاهد فيها احوالهم كما قال الشيخ جنيد البغدادي: “لون الماء لون انائه”.
ان الحياة الروحية تطورت لدى العريان حتى وصل الى ذروة التصوف و تجرد من الحواس كلها و لذلك ان رباعياته تقتضي الشرح و التعليق بل بعضها يجب تأويله لان بابا من الرجال الذين جبلوا على التمرد و عدم الانصياع للقوانين و التقاليد المتحجرة هذه هي شيمة ذوي العقول الجبارة كيف يكون العقل لوخلا من التمرد و الثورة و الاعتساف؟ ان اقوى الاغاني و الأناشيد هي انفاس الملتاعين الذين قارعوا فتن الوجود ان اعظم الرجال هم الذين نقحوا ارواحهم في بحار الشهوات.
ان اقوى العيون هي العيون التي رأت دقائق الخفايا في الوان الصباحة و الجمال.
ان اقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل.
ان اعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كؤوس الغل و الحقد و الهيام.
ان اعظم العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك و اليقين.
حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تأريخه بانه احترم العرف و القوانين و التقاليد. ان الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء, و من سواه من الصغار هم صغار الاسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين. و ها هو الروائي العالمي العظيم نجيب محفوظ يقول: تحياتي للمتشددين اينما كانوا, لانهم هم الذين يحولون مجرى التأريخ(6) اذن اقتحام الاهوال غاية ما يشتهي العارفون لانهم يحبون اختراق الحواجز الوهمية و لذلك نرى لما تتحرر ارواحهم من اوهاق الجسد و النواميس المادية يمخرون لجج بحار الفلسفة و الافكار العميقة حتى يصلوا الى قعرها و لكن ابت روحهم الصوالة التسليم سطوة الفكر و التفلسف نابذين الجمود و التقليد وراء ظهورهم غير لافتين نظراً لوعرة الطريق و مخاطرها بل يواجهون المصاعب جذلين بغية اطاحتهم بالافكار البالية و ايقاظ العقول الهاجعة التي لا ترى من هذا الوجود الا ما تفضل به عليها العيون المتجردة من التفكر و التأمل و بالتأكيد ان بابا طاهر كان من الرجال المتعطشين لاكتشاف المجهول الذين لهم نظرات حصيفة تثقب الحواجز المادية, و هناك يجدون ما يخلب الالباب و ما يروي ظمأهم و غليلهم و لذلك يستصغرون هذه الحياة الزائلة و يحلقون في فضاءات الروح منطلقين في عالم الحقيقة اللامتناهي, حيث النور و الصفاء, هناك فقط تستوى المتناقضات و تتوحد, و تحيا الأشاء جميعاً في انساق ازلي خالد, ان بابا طاهر يشير الى هذه الحالة:
انا الباز الاشهب الهمداني
اقضي حياتي في الفلاء و الصحاري
بأجنحتي اسمو نحو القمم و ذرى الجبال
و بمخالبي اصيد و اسبق كل الرجال
و بابا طاهر مع تربعه على مقامه الروحي السامي و وصوله الى القمة في التصوف كان له قدم في الحب الحسي و ما في ذلك عجب, لان كثيراً من اقطاب التصوف قبل تكوينهم الروحي كانوا من عشاق المظاهر الحسية بحيث قد شغف بعضهم بجمال المرأة, ليس هذا فقط بل من الصوفية من صرح بان عشق صور الحسان هو قنطرة الى عشق الاله. منهم صدر الدين الشيرازي, و هذا الرأي الذي صرح به الشيرازي كان من اسباب ثورة رجال الدين عليه(7) و هذا هو الشيخ الاكبر ابن عربي كان له صبوات في عالم الحس قبل ان تنقل صبواته الى عالم الروح و الدليل على ذلك هو ما سجله نفسه في “ترجمان الاشواق” و هو ديوان يتغزل فيه “بالنظام” ابنة الشيخ مكين الدين بن شجاع بن رستم الذي لقيه بمكة المكرمة حين نزل بها, و كانت بنت الشيخ خفيفة الظل عذبة الحديث ملكت عليه اقطار قلبه و سارت به في شغاف الهوى العذري و الف ابن عربي يصف تلك الفتاة بقلمه الرشيق: “كانت لهذا الشيخ رضي الله عنه بنت عذراء, طفيلة هيفاء, تقيد النظر, و تزين المحاضر, و تحير الناظر, تسمى بالنظام و تقلب بعين الشمس و البهاء من العابدات العالمات السابحات الزاهدات, شيخة الحرمين..” و ابن عربي يصرح قائلاً: “فكل اسم اذكره فعنها اكني و كل دار اندبها قدارها اعني” و لاشك عندنا في نبل هذا الهوى و طهارته, و لكن ذلك الحب العذري هو الدرجة الاولى بين هوى الارض و هوى السماء, و هو طليعة الايمان بان للحب غاية اسمى من نعيم الحواس و كذلك ان الحب الحسي كان اساس الحب الروحي عند ابن الفارض, (576 هـ – 632 هـ) لقد هدتنا التجارب الى ان المحبين في العوالم الروحية كانوا في البداية سجينا في الاودية الحسية, و الهيام بالجمال الالهي لا يقع الا بعد الهيام الحسي.
اذن ان الدكتور زكي مبارك على الحق لما قال في كتابه (التصوف الاسلامي): “ان ابن الفارض في هيامه بالجمال الالهي كان مديناً الى الصور الجميلة التي الهبت حواسه و هو يغدو و يروح في ميادين القاهرة, و اكاد ارى بعيني اشباحاً تختال في قصائده الصوفية..”(8) و كذلك الاستاذ هادي العلوي يقول: “انا اتردد في جعل حب ابن الفارض حباً صوفياً فأنا اجد فيه حب الشاعر للمرأة لنقرأ من فائيته العاتية:
نفسي تحدثني بانك متلفي
نفسي فداك عرفت ام لم تعرف
يا مانعي طيب المنام و مانحي
ثوب السقام به و وجدي المتلفي
ما لي سوى روحي و باذل روحه
في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها لقد اسعفتني
يا خيبة المسعى اذا لم تسعف(8)
كل من في حماك يهواك لكن
انا وحدي بكل منافي حماكا
فقت اهل الجمال حسناً و حسنى
فبهم فاقة الى معناكا
يحشر العاشقون تحت لوائي
و جميع الملاحين تحت لوكا(9)
كما ان هناك دليلاً على ان الشيخ ابابكر الشبلي كان عاشقاً و لكن كتم اسم معشوقته كما صرح بذلك الكتمان في البيتين اللذين يدعي فيهما امارة الحب حيث قال:
باح مجنون عامر بهواه
و كتمت الهوى ففزت بوجدي
فاذا كان في القيامة نودي
اين اهل الهوى؟ تقدمت وحدي
و كذلك ان باباطاهر له صبوات حسية بحيث نستطيع ان نقول ان حبه الحسي هو سر في وقدة حبه الروحي و نحن لانرتاب في نبل هذا الهوى و طهارته و لكن هذا الحب هو الخطوة الاولى لاجتياز الحب الحسى الفاني و الاقبال على الحب الروحي الخالد الذي لا يفنى كما قال افلاطون: ان العقل الذي يسمو الى معرفة الحقائق الابدية لا يفنى.
و لاشك ان باباطاهر قد وجد في هذه الصورة الانسانية الحسناء مظهراً من مظاهر الجمال الالهي المطلق الذي تعشقه و قدسه و اسر قلبه لا من حيث هي امرأة يعشق جمالها الفاني, بل من حيث هي رمز لذلك الجمال الشامل المتجلى فيها في صورة كاملة, اذن لم تكن حبيبته الحسناء سوى واحدة من صور الجمال اللانهائي التي احبها باباطاهر لا من حيث ذاتها “بل من حيث هي رموز و مجال للذات الالهية المحبوبة على الاطلاق و المعبودة على الاطلاق. او نقول كما يقول الاستاذ هادي العلوي: المحبة جسر يمتد ما بين المرأة و السماء و فيها تتروحن المرأة فتفقد جسدها و تبقى منها الحروف و لذلك لا يتغزل الصوفي و انما يذكر الجمال المطلق و الاشتياق اليه بعين البصيرة لا حواسه الخمس(10) و ان رباعياته التي عبر بها عما في اعماقه من الحب الاهيم تجاه حبيبته صريحة جداً و انعكس فيها هيامه الحسي بصورة لاغبار عليها
قلبي من عشقك لا يعرف القرار
عيني مفعمة بدم كبدي المنهار
كل ذي حب طاهر عذري
يصير قلبه موقداً للنار
لي قلب يحترق من عشقك الاهيم
اقلب اجفاني و دموعي ممزوجة بالدم
و ما قلب العاشق الا مثل الحطب الاخضر
يدمع من جانب و من جانبه الاخر يضطرم
الليل حالك و الذئاب تمزق قطيع النعاج
اقبلي نحوي اعدي شعرك الداجي
واعطيني قبلة من وجنتك
احسبيها ماء اعطيته للحاج
حينما يجن الليل علي
تحترق احشائي و ما لدي
من اجل ليلى و جمالها
اخشى ان يفلت الايمان لدي
زورني يوما لأرى عينيك
اجني العبق من ندى وجنتيك
كوني معي و لاتهجريني ابداً
اكون خادما لديك
من حبيبي سقمي و دوائى
من حبيبي سروري و بكائي
لو سلخني الجزار سلخاً
يبقى عشقك حياً يا رجائي
خصلات شعرك انحنت على الغد
تعانق السنبل و الورد
كيف تلعبين بضفائرك هكذا
كل شعرة منها علق بها قلب عاشق مرد
كم كان مشغوفاً بجمال معشوقته و كم كان متفرغاً لها و مدققاً في حركاتها و سكناتها نرى لوعته بها ثبطته عن كل شيء سواها و هيامه بها جعله معتقداً ان كل شعرة من شعراتها قبلة لعاشق مثله كأن ضفائرها مغروسة في اعماق
قلوب العشاق او ان قلوبهم مكبلة بشعراتها
ان النسمة التي تأتي من العقاص
اطيب عندي من اريج الصباح
احتضن طيفك ليلاً
لما اسحر اجد عبير الوردة يا صاح
أي كلمة ابسط من هذه الرباعية ذات المفردات الواضحة و مع ذلك تتفجر منها المعاني المتلفعة التي تأسر الالباب و تهز القلوب أي حب هذا الذي الهب قلبه و أي قلب هذا الذي اتسع لهذا الحب العارم اية مدرسة ادبية انجبت هذا الشاعر ذا الخيال المرهف الخلاق و تخرج منها هذا الصوفي العبقري؟ اهناك قلب لم يرهف و لم يشتعل حينما يسمع هذه الرباعية؟ ام جلد لم يقشعر؟ لا اظن بقلب معهما كان جدباً لا يهتز و لا يلتهب لهذا التعبير الساحر.
مجرد خيال في حبيبته يعطيه كل ما يتمنى الصب من اللقاء ما ارق هذا الخيال و ما اهنأ هذا الحلم و ما اطيب هذا الشذا و ما اعظم هذا الشاعر, ما اصدق قول انتيشتاين هذا: “ان اجمل انفعال يمكن ان تهتز له نفوسنا هو انفعال الصوفي فهو اصل كل فن و كل حق, فمن ينعدم فيه هذا الشعور لا تجد الدهشة سبيلاً الى نفسه.. هذا هو قول صاحب النظرية النسبية التي غيرت الصورة الموضوعية للعالم. كم كان صادقاً مع نفسه و كم كان مبدعاً و متفوقاً في مجاله العلمي الخاص من غير ان يتجاهل الاحساسات الانسانية و للذات الروحية التي يتحسس بها عالم فلكي وراء مرصده كما يتحسس بها زاهد في خلوته او راهب في صومعته او فلاح في حقله, اجل لقد صدق انيشتاين لما قال: من ينعدم فيه الحنان و الذوق الانساني الخاص و النشوة الروحية التي هي من اهم الخصائص الانسانية و الانسان المتجرد من الاحساسات الروحية هو ميت او مشرف على الموت(11) و انيشتاين نفسه بعد ان اكتشف النسبية التي ادت الى تفتيت الذرة قال: ما اكثر الاسرار التي مازالت في الكون. و الكاتب المصري رجاء النقاش يقول: عندما نقرأ كتاب انيشتاين بعنوان “العالم كما اراه” نحس بأننامع احد الدراويش المتصوفين لامع احد العلماء الذين فتحوا اسرار الكون بمفتاح العقل. و ان هذا النوع من الحب العذري حينما يحتل الفؤاد يجعله بحاثاً عن عالم اوسع لانه يسمو نحو الخلود و لا يرضى بهذه الحياة و لا يلتفت الى ما فيها من الجمال الحسي و الملذات المادية لان هذه الاشياء كلها في نظره ليست الا ظلاً سيفنى و هذه النظرة الصوفية تشبه نظرة نبي الله ابراهيم الواردة في القران الكريم: فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما افل قال لا احب الافلينالانعام
نعم كذلك بابا من النشاوى الذين يكرهون الافول لحبهم لانه لثم من كأس العميا الحقيقي و ادرك بوعيه اللاقط ان الجمال الحسي لا يعمر بل هو كأزهار الربيع التي نراها ناضرة لأيام قليلة ثم تذبل بعد اسبوع او اقل كما صورها الهمداني نفسه:
روضة الربيع عمرها اسبوع
تأتي وراءها اشهر الدموع
حين يجول الصائح في القرى
لنقص العهود تسحب الاذرع
و حسب فهمي من هذه الرباعية ان بابا قد وصل الى ذروة الحب الحسي و في هذه الحالة لم تبق بين هذا الحب و الحب الحقيقي الخالد الا الخطوة التي خطاها الهمداني لينقذ بها حبه الطاهر من الشخص و التصدأ و ليطلقه في عالم فسيح يتجول فيه متحرراً من اوهاق الجسد و القيود المادية و فعلاً اجتاز العريان هذه المرحلة و امتطى صهوة جواده سباقاً كل اقرانه في عالم الخلود و هذا الازدراء للجمال الحسي الزائل نجده كثيراً في اقوال العارفين و ها هو جلال الدين الرومي يقول:
الى متى تعانق هذا المحبوب الميت
عانق الروح و ان كانت لا حدود لها
فالأزهار التي تتولد في الربيع تموت في الخريف
و بستان المحبة لا مدد له من الربيع
و لذلك يرى الامام الغزالي:
“ان المحبة هي الغاية القصوى من المقامات و الذروة العليا من الدرجات: فما بعد المحبة مقام الا و هو ثمرة من ثمارها, و تابع من توابعها كالشوق و الأنس و الرضا و اخواتها و لا قبل المحبة مقام الا و هو مقدمة من مقدماتها كالتوبة و الصبر و الزهد و غيرها”(13)
و ان محبة الله تعالى جعلت الصوفية احبوا كل شيء لأن الاشياء اثار المحبوب بل اعتبروا محبة الخلق قنطرة يعبر عليها الصوفي الى محبة الله, ليس هذا فقط بل اشترط بعضهم ان يكون للمريد سابقة عهد بحب انساني, لان من لا عهد له بحب انساني لا يستطيع ان يرقى درجة واحدة في سلم الحب الالهي, و هذه النزعة نجدلها صدى قوياً عند معتنقي وحدة الوجود.(14)
و يقول جلال الدين الرومي: “الحب دواء العجب و الرياء و طبيب جميع الادواء: و لا يكون الايثار صادقاً الا عند من مزق الحب توبة”(15)
بل يرى الصوفية ان الحب هو سر خلق الله تعالى للعالم لانه اراد ان يكتشف سر جماله الازلي ليظهر في صفحة الوجود كما في الحديث القدسي: “كنت كنزاً مخفياً فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق فيه عرفوني” (16)
اذن لسنا مبالغين عندما نقول: ليست هناك فكرة او فلسفة او قصيدة انسانية خالدة الا نرى في طياتها نزعة من نزعات الصوفية و بالذات الافكار و المذاهب المتطورة التي تدافع عن الانسان و تدعو الى تطبيق العدالة و تجسيد الحرية بين بني الانسان و ايجاد الراحة لهم و هذا الشيخ عبد القادر الكيلاني يحدد وظيفة التصوف بانها: “ايجاد الراحة للخلق” و كما يقول (قدس الله روحه): “اود لو ان الدنيا في يدي لاطعمها الجياع”(17) و سمنون المحب يقول: “لا يعبر عن الشيء الا بما هو ارق منه و لا شيء ارق من المحبة فبماذا يعبر عنها”(18)
و هذا الجنيد البغدادي و شيخ الطائفتين يقول: “الصوفي كالارض يطؤها البر و الفاجر, و كالسحاب يظل كل شيء و كالمطر يسقي كل شيء”(19) اليس هذا هو مبدأ التسامح و الايثار في التصوف فالصوفي لا يفرق في معاملته الناس على اساس من الدين او العنصر او اللون. و ابو تراب النخشى يقول: “الصوفي لا يكدره شيء و يصفو به كل شيء”(20) و الصوفي الفيلسوف الصيني لاوتسه الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد: “دعا الى اشاعة الاموال و عدم اكتنازها و احتكارها لفئة قليلة من الاغنياء و ارباب الدولة و عارض الاسراف في التمدن على حساب جوهر الانسان.. و عارض الحرب و دعا الى تحويل السيوف الى المحاريث.(21)
و بابا طاهر العريان يصف التصوف: “بانه يسع كل شيء و لا يسعه شيء” و لذلك نرى بعض الكتاب و المفكرين البارزين يدرسون اعمال الصوفية ليجدوا فيها نقاط التلاقي بينهم و بين الافكار و المذاهب العصرية الحديثة منهم الاستاذ حسين مروه, الاستاذ سامي خرطبيل, و الاستاذ هادي العلوي و الاستاذ عدنان حسين عوادي و في مقدمتهم المفكر المعاصر و الشاعر الكبير ادونيس الذي استطاع لاول مرة ان يجد نقاط الالتقاء بين الصوفية و السوريالية كما القى الضوء عليها منها قوله: “الاتجاه الى الصوفية املاه عجز العقل او الشريعة الدينية” عن الجواب عن كثير من الاسئلة العميقة عند الانسان و املاه كذلك عجز العلم. فالانسان يشعر ان ثمة مشكلات تؤرقه حتى عندما تحل جميع المشكلات العقلية, و الشرعية – الدينية, و العلمية, او عندما تحل جميع المشكلات بوساطة العقل و الشرع و العلم. هذا الذي لم يقل (لا يقال) هو ما يولد الاتجاه نحو الصوفية. و هو نفسه مما سوغ نشأة السوريالية. فدعوى السوريالية الاولى هي انها حركة لقول ما لم يقل, او ما لا يقال, و مدار الصوفية, كما افهمها هو اللا مقول, اللامرئي, اللامعروف”(22)
و في الختام نقول: ان كانت في العالم قصيدة انسانية خالدة فهي التصوف, و هو وحده الانشودة الباقية يوم تبيد الأناشيد, و لو فنيت الدنيا دفعة واحدة و بقي انسان يفتش عما حق فيها من الكلمات, لما وجد اصدق من كلمة الصوفية.
___________
الهوامش
1-تأريخ التصوف الاسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني- د. عبدالرحمن بدوي الطبعة الثالثة – 1978 م.
2-بابا تاهيرى همدانى – من مجلة المجمع العلمي الكردي – المجلد الخامس – الشيخ محمد الخال. بغداد 1977 ص 27.
3-بابا تاهيرى عوريان/ مجلة (روشنبيرى نوى) العدد (125) د. عزالدين مصطفى رسول.
4-بابا تاهيرى همدانى/ من مجلة المجمع العلمي الكردي – المجلد الخامس – الشيخ محمد الخال. ص 34
5-المصدر نفسه و الصفحة نفسها.
6-مجلة خاك.
7-الدكتور زكى مبارك/ التصوف الاسلامي في الادب و الاخلاق/ الجزء الثاني في هامش ص 189-190.
8-المصدر نفسه/ الجزء الاول ص 249.
9-المصدر نفسه/ الجزء الثاني ص 255.
10-هادي العلوي/ مدارات صوفية ص 162.
11-النظرية النسبية, انيشتاين.
12-تأملات في الانسان/ رجاء النقاش ص 74.
13-احياء علوم الدين الجزء الرابع ص 280.
14-التصوف الثورة الروحية في الاسلام, الدكتور ابو العلا عفيفي ص 232, دار الشعب – بيروت.
15-المصدر نفسه.
16-التصوف الاسلامي/ الدكتور حسن عاصي الطبعة الاولى 1414 هـ 1994 م. ص 115.
17-هادي العلوي/ مدارات صوفية ص 136.
18-المصدر نفسه ص48.
19-التصوف الثورة الروحية في الاسلام, الدكتور ابو العلا عفيفي ص 46 دار الشعب – بيروت.
20-المصدر نفسه ص 41.
21-هادي العلوى/ مدارات صوفية ص 113.
22-ادونيس/ الصوفية و السوريالية ص 11 دار الساقي.
المصدر:
http://www.sardam.info/Sardam%20Al%20Arabi/3/09.htm