الدكتور عبود عبد الله العسكري
الهتف والهتاف : الصوت الجافي العالي ، وقيل : الصوت الشديد . وقد هتف به هتافاً ، أي صاح به ، وهتف بفلان ، أي دعوته ، وهتف بفلان أي مدحته ، وسمعت هتافاً يهتف إذا كنت تسمع الصوت ولا تبصر أحداً . لكن الصوفية لم تجمع على تعريف اصطلاح جامع مانع الهاتف ، بل وردت أشكال متعددة للهواتف ضمن حكايا خارجة عن الحصر ، وقد انفرد الكلاباذي في كتابه التعرف بأن جعل الهواتف باباً مستقلاً . وللهواتف شأن ومنزل كبير عندهم ، فهي تنبههم على آفات النفوس ، وترشدهم إلى تصحيح المعاملات ، وتدعوهم لتغيير مسار حياتهم ، بل وقلبها حياة الملك إلى حياة الدروشة والفكر والسياحة ، كما عند إبراهيم بن أدهم وغيره ، ولا تقل الهواتف من حيث الأهمية عن الإلهام ، أو الفراسة ، أو الكشف ، وما دام الهاتف صوت مسموع بدون رؤية صاحبه فمن هو صاحب هذا الهاتف ؟ لقد ذكروا عدة مصادر للهواتف منها : ملكاً أو ولياً من الأولياء أو جناً صالحاً أو الخضر (عليه السلام) أو الله (عز وجل) أو إبليس لعنه الله وقد ذكروا ثلاثة أوقات تم سماع الهاتف في إحداها وهي :
1- في اليقظة ، ويعرف كونه كذلك ، بوروده مجرداً عن الإضافة أو التخصيص ، فيقول مثلاً : سمعت هاتفاً يقول : كذا وكذا ، وغالب حكاياتهم من هذا القبيل .
2- في المنام ، كما ورد في ترجمة أحمد البدوي أنه سمع الهاتف في المنام يقول له : يا أحمد سر إلى طنطا ، فإنك تقيم بها ، وتربي بها رجالاً وأبطالاً .
3- بين اليقظة والمنام ، كما في قول الشعراني : أخذتني حالة بين النائم واليقظان فسمعت هاتفاً .
أما موضوعات الهواتف ، فهي كثيرة منها : التنبيه على الآفات وتصحيح المعاملات ، فهذا أبو سعيد الخراز يقول : كنت في البادية فنالني جوع شديد ، فطالبتني نفسي أن أسال الله طعاماً ، فقلت في نفسي : ليس هذا من فعل المتوكلين ، فطالبتني نفسي أن أسأل الله صبراً ، فلما هممت بذلك سمعت هاتفاً يقول :
ويزعم أنه منا قريب
وإنا لا نضيع من أتانا
ويسألنا القوي عجزاً وضعفاً
كأن لا نراه ولا يرانا
وعن أبي يزيد البسطامي ، قال : مددت رجلي في محرابي ، فهتف بي هاتف : من يجالس الملوك ، ينبغي له أن يجالسهم بحسن الأدب ، ويكون مصدر الهاتف أحياناً داخلياً ، فقد قال الشيخ عبد القادر الجيلاني : نوديت في سري يا عبد القادر ، ادخل بغداد وتكلم على الناس ، قال : فدخلت بغداد ، فرأيت الناس على حالة لم تعجبني ، فخرجت من بينهم ، فنوديت ثانية : يا عبد القادر ادخل وتكلم على الناس فإن لهم بك منفعة ، فقلت : ما لي وللناس علي بسلامة ديني ، فقيل لي : ارجع ولك سلامة دينك ، وأخذت من ربي سبعين موثقاً أنه لا يمكر بي ، وقال الشعراني : وقد كنت قديماً أرى أن الأمر بالمعروف ينافي التسليم ، فسمعت هاتفاً على لسان الحق تعالى يقول : إذا شهدت الأمر مني وحدي ، سلم ولا تنازعني ، وإذا شهدته من غيري أنكر عليه ما خالف أمري ، وهنا يقرر صاحب القول عقيدة الجبر في الاعتقاد وفي ترجمة أبي الحسن الشاذلي ، أنه قال : سمعت هاتفاً يقول : كم تدندن مع من تدندن وأنا السميع القريب ، وتعريفي يغنيك عن علم الأولين والآخرين ، ما عدا علم الرسول (صلى الله تعالى عليه وسلم) وعلم النبيين عليهم الصلاة والسلام وهذا استدلال بما يسمى بالهواتف الربانية ، على صحة الإلهامات التي يقولون أنهم تلقوها عن الله . إلا أن الهاتف الصوفي يقرأ على أنه مرض ، وهلوسة ، وشعور بالنرجسية ، من قبل أصحاب الاتجاه النفسي في تحليل الظاهرة الصوفية ، لذا نجد أن الدكتور علي زيعور يرى أن الهاتف خاص بالصوفي ، يميزه ، ويجعله متفوقاً ، ويمتص به ما ينسب من مميزات رفيعة للأنبياء المعروفين . إنه هلوسة أو ظن ، أو ضعف في الأحاسيس ينجم عن التخيل والإجهاد ، كما قد يكون أيضاً صدى نفسياً لاعتقاد متين ذاتي كاذب ، ولشعور حاد بالنرجسية وعبادة الأنا المتضخم مرضياً أو للتغطية.
_________
المصدر :
الدكتور عبود عبد الله العسكري – التصوف – ج 4 – ص 182 – 184 .