الدكتورة سعاد الحكيم
( النبوة ) من المفردات والأفكار التي جلبت للشيخ الأكبر مختلف التهم ، تدرجت في ألوانها من الاستياء إلى التفكير .
فإذا أخذنا بعين الاعتبار – نظراً لصورته التي أضحت واضحة في هذا المعجم – أن هذا الشيخ الجليل لا يقع في خطأ إسلامي شرعي فما مصدر الغلط ومنشأه ؟
1 – أن المطالع لكتبه أخذ عبارة مثل ( الولي أعلى من النبي ) ، قاطعاً إياها عن سياقها الفكري . كمن يأخذ الآية : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ (1) بمعزل عن بقيتها ، جاعلاً منها : نصاً شرعياً .
يقول : « … وإذا سمعتم لفظة من عارف محقق مبهمة وهو أن يقول : الولاية هي النبوة الكبرى ، والولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول .. فالنبي له مرتبة الولاية والمعرفة ، والرسالة . ومرتبة الولاية والمعرفة : دائمة الوجود ، ومرتبة الرسالة : منقطعة . فهو من كونه ولياً وعارفاً أعلى وأشرف من كونه رسولاً . وهو الشخص بعينه واختلفت مراتبه ، لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله من الخذلان … »(2) .
2 – إن ( النبوة ) ( والولاية ) عند ابن عربي كلتاهما أخذت معنى له أصوله اللغوية – الدينية بعيداً عن محملاته المعهودة والمعروفة .
لذلك وانطلاقاً من هاتين النقطتين ، فلابد قبل الحكم على موقفه من النبوة والولاية أن نتعرض لمضامينها عند شيخنا الأكبر , لأن المفكر العربي الإسلامي يحكم عليه ، في إطار اللغة التي وضعها وفي ضوء توافقها من اللسان العربي ، والتشريع الإسلامي .
ما هي محملات ( النبوة ) و ( الولاية ) ؟
أ . أن ( النبوة ) لا تفهم عامة خارج أشخاص أنبياء الشرائع والأنبياء المرسلين .
إنها ( مضمون ) و ( نمط ) اتصال بين الحق والخلق بَعدي . على حين أنها عند ابن عربي مضمون ونمط قَبلي –إن أمكن القول – تَحَقَقَ في الأشخاص ، فهي موجودة في بنيانه الفكري : كمرتبة وجودية وامكانية نمط وجودها في الإنسان : تحقيق ( = تحققت في الأعيان ) ، وبلغتنا المعاصرة ، تجسيد .
لذلك يظل قِبلَة نظر ابن عربي هذه المرتبة الوجودية ، وليس أشخاصها . فعندما يتكلم عن النبوة فهو يقصد : ( مرتبة ) و ( مقاماً ) وليس : ( عيسى ) و ( موسى ) الخ عليهما السلام … وإن أطلقها على عيسى وموسى عليهما السلام مثلاً فهي لا تحتويها ، بل نسبة ووجه من وجوههما …
ب . أن ( الولاية ) تفهم عامة منسوبة إلى النمط من الرجال الذين مارسوا التدين والتقوى والورع ، فظهرت عليهم من الآثار ما لفت نظر العموم ، فخصوهم بالألقاب منها : ( الولي ) ، التي تجد جذرها القرآني في الآية : أَلا إِنَّ أولِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (3) وحصرت بالأتقياء من البشر من غير الأنبياء .
على حين أن ابن عربي جعل ( الولاية ) كالنبوة : مرتبة وجودية لها خصائص مميزة تتحقق في الأنبياء المرسلين ، والأنبياء غير المرسلين ، والأتقياء من عامة المسلمين .
فالولاية بهذا المضمون هي ما أشار إليه : بالنبوة العامة ، فموسى وعيسى مثلاً ( عليهما السلام ) هما : أولياء – في نسبة تختلف عن النسبة ، التي يطلق من أجلها عليهما لفظ : ( أنبياء ) . وهكذا ..
ولنحاول الآن أن نحصر بنقاط جملة مفهوم ابن عربي للنبوة :
- أشار ابن عربي إلى النبوة بمعناها اللغوي السابق ، أي الرفعة ، يقول :
« … وأما النبوة ، التي هي غير مهموزة ، فهي : الرفعة . ولم يطلق على الله منها اسم ( لا يتسمى بالنبي ) ولها في الإله اسم : رفيع الدرجات … »(4) .
- النبوة : هي الإنباء الإلهي والإنزال الرباني ، أو التنـزل الَملَكي عموماً .
فالنبوة عامة ، بهذه الصفة غير منقطعة تستمر في الظهور بصورتين :
1 – الولاية .
2 – الوراثة .
ومن أبرز خصائصها أنها : دون تشريع ، يحكمها شرع آخر الأنبياء ( محمد) وهنا يستعمل ابن عربي جملة مفردات للإشارة إلى هذه النبوة فيسميها : النبوة الباطنة ، نبوة عموم ، نبوة الأخبار ، نبوة عامة ، الوراثة النبوية ، النبوة المطلقة ، النبوة السارية ، نبوة الوارث ، نبوة الولي ، النبوة القمرية .
ويطلق ابن عربي هذه الأسماء كلها على ( نبوة ) غير الأنبياء من : الأولياء والورثة ، في مقابل : نبوة الأنبياء ( لها شرع مخصوص ) . التي يطلق عليها أيضاً جملة مفردات هي : نبوة التشريع ، نبوة التكليف ، النبوة الخاصة ، النبوة المقيدة ، نبوة مكملة ، نبوة رسالية ، نبوة شمسية ، النبوة الظاهرة . يقول :
1 – النبوة = إنزال رباني – إنباء الهي – تنـزل ملكي أ . « .. فالنبوة الظاهرة ( نبوة الأنبياء ) هي التي انقطع ظهورها ، وأما الباطنة ( نبوة الأولياء والورثة ) فلا تزال في الدنيا والآخرة , لأن الوحي الإلهي ، والإنزال الرباني لا ينقطعان ، إذ كان بهما حفظ العالم »(5) .
ب . « فتلك النبوة منـزلة : الإنباء الإلهي المطلق ، لكل من حصل في تلك المنـزلة »(6) « لئن لم تنته لأمحون اسمك من ديوان النبوة . أي : أرفع عنك طريق الخبر ، وأعطيك الأمور على التجلي ، والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي »(7) .
ج . « ثم استقاموا على طريقهم التي شرع الله لهم المشي عليها ، تتـنَّزل عليهم الملائكة ، وهذا التنـزل ، هو النبوة العامة ، لا نبوة التشريع ، تتنزل عليهم بالبشر … أي لا تخافوا ولا تحزنوا .. »(8) .
2 – النبوة العامة غير منقطعة ، لا تشريع فيها = نبوة التشريع .
يقول : « … وأما النبوة العامة : فأجزاؤها لا تنحصر ، ولا يضبطها عدد ، فإنها غير مؤقتة ، لها الاستمرار دائماً دنيا وآخرة … »(9) .
« … اعلم أن البشرية على قسمين : قسم من الله إلى عبده من غير روح ملكي بين الله وبين عبده ، بل إخبارات إلهية يجدها في نفسه من الغيب ، أو في تجليات لا بذلك الأخبار ، حكم تحليل ولا تحريم . بل تعريف إلهي ومزيد علم بالإله ، أو تصديق بصدق حكم مشروع ثابت .. وله ( العبد ) درجات الاتباع ، وهو تابع لا متبوع ، ومحكوم لا حاكم ، ولابد له في طريقه من مشاهدة قدم رسوله وإمامه ، لا يمكن أن يغيب عنه حتى في الكثيب … والقسم الثاني من النبوة البشرية : هم ( الأنبياء ) الذين يكونون مثل التلامذة بين يدي الملك ، ينـزل عليهم الروح الأمين بشريعة من الله ، في حق نفوسهم يتعبدوه بها ، فيحل بهم ما شاء ويحرم عليهم ما شاء ، ولا يلزمهم اتباع الرسل . وهذا كله كان قبل مبعث محمد ، فأما اليوم فما بقي لهذا المقام أثر … »(10) .
« … والنبوة في نفسها : اختصاص الهي ، يعطيه لمن يشاء من عباده ، وما عنده خبر بشرع ولا غيره … »(11) .
3 – النبوة العامة = الولاية .
« فالولاية : الفلك المحيط الجامع للكل ( الأنبياء والأولياء ) ، فهم وإن اجتمعوا في منصب الولاية ، فالولاة لهم مراتب … »(12) .
« … فقد يكون الولي : بشيراً ونذيراً ، ولكن لا يكون : مشرعاً . فإن الرسالة والنبوة والتشريع قد انقطعت ، فلا رسول بعده ولا نبي أي : لا مشرع ولا شريعة »(13) .
« والولاية لها الأولية ثم تنصحب وتثبت ولا تزول ، ومن درجاتها : النبوة والرسالة . فينالها بعض الناس … وأما اليوم ، فلا يصل إلى درجة النبوة ، نبوة التشريع ، أحد , لأن بابها مغلق ، والولاية لا ترتفع دنيا ولا آخرة … ومن أسمائه ( الولي ) ، وليس من أسمائه : نبي ولا رسول ، فلهذا انقطعت النبوة والرسالة , لأنه لا مستند لها في الأسماء الإلهية ، ولم تنقطع الولايـة ، فإن الاسـم الولـي ، يحفظها .. » (14) .
4 – النبوة العامة = الورثة .
« فاعبد ربك المنعوت في الشرع حتى يأتيك اليقين ، فينكشف الغطاء ، ويحتد البصر ، فترى ما رأى ، وتسمع ما سمع ، فتلحق به في درجته ( النبوة العامة ) من غير نبوة تشريع ، بل وراثة محققة لنفس مصدقة متبعة »( 15) .
« … فالولي لا يأخذ النبوة من النبي ، إلا بعد أن يَرِثَها الحقُ منهم ( الأنبياء ) ، ثم يلقيها ( تعالى ) إلى الولي ، ليكون ذلك أتم في حقه ( الولي ) ، حتى ينتسب إلى الله لا إلى غيره . وبعض الأولياء يأخذونها وراثة عن النبي وهم : الصحابة .. »(16 ) .
« … فنبوة الوارث : قمرية ، ونبوة النبي والرسول : شمسية … »(17) .
يتضح من النص الأخير ، أن النبوة العامة التي هي : مقام يرثه الولي من النبي ، تكون بالأصالة للنبي وبالتبعية للولي كنور القمر ( = مثال نبوة الوارث ) يتبع نور الشمس ( = مثال نبوة النبي ) .
5 – نبوة التشريع = نبوة الأنبياء ، وهي منقطعة : « … لم يكتف رسول الله بانقطاع الرسالة فقط لئلا يتوهم أن النبوة باقية في الأمة ، فقال:إن النبوة والرسالة قد انقطعـت فـلا نبي بعـدي ولا رسـول (18) »(19) .
« الأنبياء ( = نبوة عامة ) على نوعين : أنبياء تشريع وأنبياء لا تشريع لهم .
وأنبياء التشريع على قسمين : أنبياء تشريع في خاصتهم ( غير رسل ) ، كقوله تعالى : إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِه (20) »(21) .
« وأنبياء تشريع في غيرهم وهم : الرسل »(22) .
« فإن تلك النبوة ( = نبوة التشريع ) ليس لنا ( = المؤمنين بعد النبي ) فيه
قدم … »( 23) . • النبوة مقام عند الله يناله الخاصة من البشر ، يُعطي للنبي المشرع ، ويعطي إرثاً للتابع لهذا النبي . والنبوة هنا لم تعطَ معناها الخصوصي الذي انقطع بل حافظت على معنى 🙁 النبوة العامة ) السابق .
أما النبوة التي انقطعت والتي يشملها الحديث الشريف : فلا نبي بعدي فهي : ذوق العبودية الكاملة التامة .
1 – مقام النبوة للنبي والتابع : يقول ابن عربي : « وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم السلام . ولهم ( الرسل ) مقام : النبوة والولاية والإيمان . فهم أركان بيت هذا النوع ، والرسول أفضلهم مقاماً وأعلاهم حالاً … »(24) .
« الأكابر من عباد الله الذين هم في زمانهم بمنـزلة : الأنبياء في زمان النبوة ، وهـي النبـوة العـامة .. » (25) .
« .. ونبوة عيسى ثابتة له محققة ، فهذا نبي ورسول قد ظهر بعده ، وهو الصادق في قوله : إنه لا نبي بعده ، فعلمنا قطعاً أنه يريد التشريع خاصة .. فالنبوة مقام عند الله يناله البشر ، وهو مختص بالأكابر من البشر يعطي للنبي المشرّع ، ويعطي للتابع لهذا النبي المشرع الجاري على سنتـه . قـال تعالـى : وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (26) … فسددنا باب إطلاق لفظ النبوة على هذا المقام ، مع تحققه ، لئلا يتخيل متخيل أن المطلق لهذا اللفظ يريد : نبوة التشريع … »(27) .
2 – انقطاع النبوة وبقاء مقامها :
« … فإن النبوة التي انقطعت بوجود رسول الله إنما هي : نبوة التشريع ، لا مقامها .. »(28) .
3 – النبوة المنقطعة = ذوق العبودية الكاملة التامة : « … وفي محمد قد انقطعت ( نبوة التشريع ) ، فلا نبي بعده . يعني مشرَّعاً أو مشرَّعاً له ، ولا رسول وهو المشرع . وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله , لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة . فلا ينقطع عليه ( العبد ) اسمها الخاص بها ، فإن العبد يريد ألا يشارك سيده – وهو الله – في اسم ، والله لم يتسّم بنبي ولا رسول ، وتسمى بالولي ، واتصف بهذا الاسم ، فقال : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (29) وقال : وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (30) »(31).
______
الهوامش :-
1– النساء : 43 .
2– الشيخ ابن عربي – القربة – ص 9 .
3– يونس : 62 .
4– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 253 .
5– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 3 ص 285 .
6– المصدر نفسه – ج 2 ص 90 .
7– الشيخ ابن عربي – فصوص الحكم – ج 1 ص 134 .
8– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 217 .
9– المصدر نفسه – ج 2 ص 90 .
10– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 254 – 255 .
11– المصدر نفسه – ج 2 ص 595 .
12– المصدر نفسه – ج 3 ص 14 .
13– المصدر نفسه – ج 2 ص 376 .
14– المصدر نفسه – ج 3 ص 101 .
15– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 3 ص 311 .
16– المصدر نفسه – ج 2 ص 253 .
17– المصدر نفسه – ج 4 ص 330 .
18– المستدرك على الصحيحين ج: 4 ص: 433 .
19– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 3 ص 38 .
20– آل عمران : 93 .
21– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 3 ص 93 .
22– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 76 .
23– الشيخ ابن عربي – روح القدس – ص 32 .
24– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 5 .
25– المصدر نفسه – ج 2 ص 3 .
26– مريم : 53 .
27– الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 3 .
28– المصدر نفسه – ج 2 ص 3 .
29– البقرة : 257 .
30– الشورى : 28 .
31– د . سعاد الحكيم – المعجم الصوفي ص 1039 – 1045 .
المصدر :- موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج20 – مادة ( النون – ن و ي )
لتحميل الموسوعة