من أخلاقهم رضي الله عنهم : مواظبتهم على قيام الليل صيفا وشتاءورؤيتهم تأكده عليهم , كأنه فرض حتى قالوا :كل فقير نام في الليل من غير غلبة فلا يجيء منه شيء في الطريق .
وقد أغفل هذا الخُلُق كثير من الفقراء ,فينامون في الليل على طراريح كما ينام العامة وأبناء الدنيا, وبعضهم يدخل كل يوم الحمام فلا يخرج منه حتى تطلع الشمس من غير ضرورة بل ترفُّهاً .
وكان آخر من أدركت من فرسان الليل الشيخ محمد بن عِنان , كان ورده كل ليلة خمس مئة ركعة وهي ورد المهدي على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام .
وكان الشيخ الصالح ذو الأحوال والكرامات الشيخ فرج بالشرقية يجيء لسيدي محمد هذا ويقول له أهلا براعي الصهيب لأجل كونه كان مواظبا على قيام الليل ، وكان لا يتهجد ليالي الشتاء إلا فوق السطح رضي الله عنه وفي الحديث (( عَليكُم بقيام الليلِ , فإنه دأبُ الصَّالحين قبلكم ومقرُبة إلى ربكم وتكفير لخطاياكم ء ومنهاةٌ عن الإثم ومطردةٌ لِلدَّاء عن الجسد)) وقالت أم سليمان بن داود : يا بنيّ ؛ لا تنم الليل ، فإن من نام الليل جاء يوم القيامة وهو مفلس من الحسنات .
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود ؛كذب من ادّعى محبتي فإذا جنَّه الليل نام عني .
وفي الحديث : (( إنَّ الله تعالى يباهي ملائكتَهَ بالعبدِ إذا قام يتهجَّدُ مِنَ اللَّيلةِ البارِدَةِ ويقول اُنظروا إلى عبدي خرج من تحتِ لِحاَفِهِ ,وترك الدنيا وامرأَتهُ الحسناء يناجيني بكلامِي أُشهدكم أنِّي قد غفرت لهُ )).
قال نافع : كان عبد الله بن عمر يقوم من الليل ثم يقول :يا نافع أسحرنا ؟ فيقول له : لا ، فيقوم لصلاته ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فيقول.نعم , فيقعد فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر .
وكان الإمام زين العابدين رضي الله عنه يقول :نام يحيي بن زكريا عليهما السلام ليلة عن ورده ، وكان قد شبع من خبز الشعير ، فأوحى الله تعالى إليه :يا يحيى لو اطلعت على جنة الفردوس اطلاعة لذاب جسمكولبكيت الصديد بعد الدموع ,وللبست الحديد بعد المسوح وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما تمر عليه الآية في ورده من الليل فيسقط مغشيا عليه ، حتى يصير يعاد أياماً كما يعاد المريضوكان رضي الله عنه أيام خلافته لا ينام ليلا ولا نهارا وإنما هي خَفَقات برأسه وهو جالس .وكان يقول إذا نمت في الليل ضيعت نفسي ، وإن نمت في النهارضيعت رعيتي وأنا مسؤول عنهم .
وكان عبد الله بن مسعود يقوم للتهجد إذا هدأت العيون فيُسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح .
وكان سفيان الثوري إذا غفل عن نفسه فأكل كثيرا ؟ يقوم الليلة كلها ويقول : إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في تعبه في بقية الأحمال الشاقة وكان طاووس رحمه الله يفرش فراشه من العشاء ويصير يتقلب عليه ويئن إلى الصباح لا ينام وكثيراً ما كان يقوم من العشاء إلى الفجر شاخصاً, وكثيراً ما يمكث جالساً مُطرقاً إلى الفجر لا يتكلم وكان يقول إن خوف جهنم أطار نوم العابدين وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يعرفون وجه من نام عن قيام الليل ويقولون : ما رأيناك في الحضرة الإلهية ، وقد حضر فلان وفلان وفرقوا عليهم التحف .
وكان يعيب بعضهم على بعض النوم على فراش وطيء له .
وكان بعضهم قعد على فراش حين قدم من سفر فنام عن ورده تلك الليلة فحلف أنه لا ينام على فراش حتى يموت .
وكان عبد العزيز بن أبي رواد يُفرش له الفراش فيضع يده عليه ويقول : ما ألينك ولكن فراش الجنة ألين منك ، ثم يقوم إلى صلاته فلا يزال يصلي إلى الفجر .
وكان الفضيل بن عياض يقول : إني لأقوم الليلة فيطلع الفجر فيرجف قلبي وأقول : جاء النهار بما فيه من الآفات .
وكان بشر الحافي ، وأبو حنيفة ، ويزيد الرقاشي ، ومالك بن دينار ، وسفيان الثوري ، وإبراهيم بن أدهم يقومون الليل كله على الدوام إلى أن ماتوا وقالوا مرة لبشر الحافي : ألا تستريح لك في الليل ساعة ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام حتى تورمت قدماه وقطر منهما الدم ؟ مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخرفكيف أنام أنا ولم أعلم أن الله غفر لي ذنبا واحدا ! .
وكان الحسن البصري يقول : ما ترك أحد قيام ليلة إلا بذنب أذنبه ,تفقدوا نفوسكم كل ليلة عند الغروب وتوبوا إلى ربكم لتقوموا الليل .وكان كثيرا ما يقول : إنما يثقل قيام الليل على من أثقلته الخطايا .
وكان أبو الأحوص يقول : أدركنا العلماء والعباد وهم لا ينامون الليل وكنت إذا طفت بدار أو بمسجد في الليل سمعت فيه.
دويا كدوي النحل ,فما بال هؤلاء أهل زماننا يأمنون مما كان أولئك يخافون منه ! ! .
وكان صلة بن أشيم رضي الله عنه يَصِفُّ قدميه للصلاة من العشاء إلى الفجر , ثم يقول – إذا فرغ من صلاته – : يا رب ؛أجرني من النار فإن مثلي لاينبغي له سؤال الجنة وقال رجل لإبراهيم بن أدهم : إني لا أقدرعلى قيام الليل فصف لي دواء ؟فقال له : لا تعصيه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل , فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف ,والعاصي لا يستحق هذا الشرف .
وكان عتبة الغلام يقول : إذا توضأ من الليل قبل أن ينتصف للصلاة : اللهم ؛إني قد حمّلت نفسي ما لا أطيق من المعاصي والقبائح حتى استحقيت الخسف والمسخ ودخول النار , وها أنا أريد أن أقف بين يديك خلف كل عارض على وجه الأرض رجاء أن تغفر لأحد منهم فيصيبني شيء من المغفرة .
وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته فباعها لقومفلما صلت العشاء افتتحت الصلاة , فما زالت تصلي إلى الفجر ,وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل : يا أهل الدار قوموا ,يا أهل الدار صلوا فقالوا لها : نحن لا نقوم إلى الفجر ,فجاءت إلى الحسن بن صالح وقالت : بعتني لقوم ينامون الليل كله ،وأخاف أن أكسل من شهود نومهم !فردها الحسن إليه رحمة بها ووفاء بحقها .
وكانت رابعة العدوية تتوضأ كل ليلة وتتطيب وتقول لزوجها : ألك حاجة ؟فإن قال : لا ، قامت إلى الصباح .
و كانت تقول – أول الليل – : إلهي نامت العيون وغارت النجوم وأغلقت ملوك الدنيا أبوابها وبابك لايغلق ؛ فاغفر لي ثم تصفقدميها للصلاة وتقول:وعزتك وجلالتك هذا موقفي بين يديك حتى الصباح ما عشت وكان سفيان الثوري يقول : عليكم بالتخفيف من الأكل تملكوا قيام الليل .
وكان ثابت البناني يصلي الليل كله , ويقول لأهله : قوموا فصلوا ، فإن قيام الليل أهون من مكابدة أهوال يوم القيامة
وكان أبو الجويرية يقول : صحبت الإمام أبا حنيفة لا أفارقه ستة أشهر فما رأيته وضع جنبه إلى الأرض في ليلة منها ، قالوا : ولم يكن لأبي حنيفة فراش في الليل وكان سفيان الثوري يقول : ما رأيت أعبد من أبي حنيفة ، ولا أزهد ، ولا أورع منه .
وكان الفضيل بن عياض يقول : بلغنا أن الله تعالى يقول حين يتجلى من الليل أين المدّعون لمحبتي فى النهار؟ أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه ؟ فها أنا الآن مطلع على أحبابي , يكلموني على الحضور ، ويخاطبوني على المشاهدة ، وغداً أُّقِرّ أعينهم في جنتيوكان المغيرة بن حبيب يقول : رأيت بعيناي ليلة مالكَ بندينار وقد انتصب بين يدي الله تعالى من العشاء قابضأ على لحيته فما زال يبكي ويقول : يا رب ، ارحم شيبة مالك إلى أن طلع الفجر قال : وصحبتُ عبد الواحد بن زيد شهراً فرأيته لا ينام من الليل شيئاً .
وكان يقول لأهل الدار كل ساعة مضت من الليل : يا أهل الدار انتبهوافما هذه دار نوم , عن قريب يأكلكم الدود وكان صهيب العابد رقيقاً لامرأة بالبصرة وكان يقوم الليل كله .فقالت له سيدته يومأ :
إنّ طول القيام بالليل يضرك بخدمتك بالنهار ..فقال لها : ماذا أصنع وإذا ذكرت جهنم طار نومي .
وكان أزهر بن مغيث رضي الله عنه يقول : رأيت ليلة حوراء من أجمل النساء ، فقلت لها : لمن أنتِ ؟ فقالت : لمن يقوم الليل في ليالي الشتاء .
وكان العلاء بن زياد يقوم الليل كله ، فقالت له امرأته : ألا تستريح لك لحظة ! فأطاعها , فأتاه آت في منامه وأخذ بمقدم شعر رأسه وقال : قم فصلِ ولا تضيع حظك من عبادة ربك .
فقام فوجد تلك الشعرات فلم تزل واقفة حتى مات .
ونام إبراهيم بن أدهم ليلة في بيت المقدس فسمع صوتاًمن جانب الصخرة يقول : قيام الليل يطفىْ لهب النار ،ويثبت الأقدام على الصراط فلا تتساهل في قيام الليل ,فما تركه بعد ذلك حتى مات فاعلم يا أخي ؟ واعمل به ,والحمد لله رب العالمين .
_______________
المصدر :- كتاب تنبيه المغترين للإمام الشعراني .
http://alhyawe.yoo7.com/t1929-topic