سلام حازم
يراد بالمعرفة اصطلاحاً هي العلوم اللدنية التي يهبها الحق عز وجل منة وفضلاً منه لعبده المؤمن من خلال نور يضيء قلبه فيدرك بهذا النور العظيم أسرار ملكه سبحانه ويشاهد به غيب ملكوته وعندها يكون عارفاً بالله يرى الأشياء بأرواحها لا كما يعرف العلماء الماديين الأشياء من خلال بعضها البعض :{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }( فصلت53 ) ، أنواع المعرفة : تتنوع المعرفة بتنوع علوم العارف لأنه لكل عارف حظوظ معرفية أساسها الكسب والوهب قال الإمام علي كرم الله وجهه : {من عرف الله بالجسم فهو كافر ومن عرف الله بالطبيعة فهو ملحد ومن عرف الله بالنفس فهو زنديق ومن عرف الله بالعقل فهو حكيم ومن عرف الله بالقلب فهو صديق ومن عرف الله بالسر فهو موقن ومن عرف الله بالروح فهو عارف ومن عرف الله بالأخفى فهو مفرد ومن عرف الله بالله فهو موحد } (1) ، لقد أشار الإمام علي كرم الله وجهه إلى نقطة جوهرية وهي أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف لأنه سبحانه لا متناهي ومن حدده فقد كفر : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }( الأنعام103 ) ، قال ابن القيم في بيان ما قامت به الرسل لتعريف الناس بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته ( فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته وعلى عرشه يكلم ملائكته ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خلقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم يأمر وينهي ويرضى ويغضب ويضحك من قنوطهم وقرب غيره ويجيب دعوة مضطرهم ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم ويجبر كسيرهم ويغني فقيرهم ويميت ويحيي ويمنع ويعطي ) (2) ، إن معرفة أسماء الله سبحانه وصفاته وإثباتها وتعلق القلب بها وتجليات الحق عز وجل على قلب المؤمن هو غاية طالبي طريق الحق سبحانه قال الشيخ ذي النون المصري في المعرفة ( هي على ثلاث أولها معرفة التوحيد وهي لعامة المؤمنين وثانيها معرفة الحجة والبيان وهي للعلماء والبلغاء والحكماء وثالثها معرفة الصفات الفردانية وهي لأهل ولايته سبحانه وأصفيائه ) (3) ، : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } ( آل عمران42 ) ، ودلالة هذه الآية الكريمة أن الملائكة كلمت الصديقة مريم عليها السلام وهذا هو التمكين الذي يهبه الحق عز وجل للصديقين الذين هم في المقام الثاني بعد مقام النبوة .
قال السيد الشيخ أحمد الرفاعي قدس الله سره : ( المعرفة شجره لها ثلاثة أغصان الأول هو التوحيد وهو بمعنى الإقرار أي قطع الأنداد وثانيها هو التجريد وهو بمعنى الإخلاص أي قطع الأسباب والثالث هو التفريد وهو بمعنى الانقطاع إلى الله سبحانه بالكلية في كل حال ويعني الاتصال بلا سير ولا عين ولا دون ) (4) ، قال السيد الشيخ الغوث عبد القادر الكيلاني قدس سره : ( إن علم العرفان هو التوحيد وبه يصل العارف إلى معروفه ومحبوبه ونتيجته الطيران بالروحانية إلى عالم القربة ) (5) ، قال السيد الشيخ الغوث محمد الكسنزان الحسيني قدس سره في معرفة النفس : ( النفس هي مضمار الصراع الذي خاضه أهل الطريقة انتصاراً أو انكساراً أو كراً أو فراً وهي الرفيق المخادع فيها التقوى والفجور وهي مفتاح النجاة والهلاك : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . . . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( الشمس7 ) ، وبما أن النفس تميل إلى حب الشهوات فإن مخالفتها إطاعة لله وقهرها عدل ورحمة بها ومطاوعتها والرأفة بها ظلم لها ) (6) ، علامات العارف : للعارف علامات تميزه عن غيره أولها التمكين وهي سلطة ربانية يهبها الحق عز وجل لأوليائه وتسمى ( التصريف ) وثانيها أنه يريد الإصلاح ولا يسأل عن أي أجر لقاء دعوته إلى الله سبحانه ولا يطمح لما عند الناس من الأشياء ولا في الدنيا وبهرجها والثالثة أنه يدعوا الناس إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة وهذا ما فيه الخير والصلاح لأنه صاحب إذن إلاهي بالدعوة إلى الله سبحانه وعلامة هذا الإذن أن الله سبحانه وهبه التمكين وقد أشار الحق سبحانه إلى تمكين الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام والأولياء تقدست أسرارهم في القرآن الكريم .
قال الشيخ أبو بكر الشبلي قدس سره : ( العارف صدره مشروح وقلبه مجروح وجسمه مطروح ) . إن المقصود بصدره مشروح هو إشارة إلى الآية الكريمة : { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ . . . } ( الأنعام125 ) ، أما قلبه مجروح لأنه أطلعه الحق عز وجل على تصاريفه بالخلق فأخفاها ورد بالحديث الشريف : {حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } (7) ، أما جسمه مطروح لأنه تبرأ من حوله وقوته ولجأ إلى حول الله وقوته فلم يلهث خلف الدنيا ولم يغويه بهرجها . وسمعت من شيخي قدس سره العزيز يقول : ( إن الدنيا طالب لها ربها وهارب لطالبها ) ، قال حضرة السيد الشيخ الغوث السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان قدس الله سره : { العارف هو من طهر قلبه وزكت نفسه وأفيضت عليه الأنوار من قبل الواحد الأحد وهباً وفضلاً } (8) .
سبيل الوصول إلى المعرفة : إن الوصول إلى المعرفة يشترط على طالب طريق الحق عز وجل اتباع الوارث المحمدي ( الشيخ الكامل ) بصدق ومحبة وإخلاص حتى يربيه ويعلمه في حاله وقاله .
من خلال الأنوار التي تشرق بها روحانيته على قلب المريد السالك ولها ثلاث بواعث :
أولها الخبر اليقين وهو الخبر الصادق ومصدره الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام . وثانيها عين اليقين وهي واردات الكشف والمشاهدة من خلال جلاء السمع أو جلاء البصر أو جلاء القلب . وثالثها هي حق اليقين وهو البرهان ويعني سلطة التمكين فللأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام تسمى ( المعجزات ) وللأولياء تقدست أسرارهم تسمى ( الكرامات ) .
نستنتج مما تقدم أن المعرفة عند الصوفية هي منة الله وفضله على قلب العبد المؤمن الذي هاجر إلى الله سبحانه أي أنه طلب الخالق وهجر المخلوق أما ما يلاقيه السادة الصوفية من إيذاء وطعن لأنهم عاهدوا الله وصدقوا في العهد : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } ( الأحزاب23 ) ، ولا غرابة في ذلك لأن هذا الإيذاء والطعن هو ديدن الناس مع الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام والأولياء تقدست أسرارهم لأن الطعون هي نفس الطعون ( ساحر – كاذب – مجنون ) نسأل الله الكريم الهداية لنا ولكل الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
_________________________
الهوامش :
(1) – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان – ج15 ص 274 .
(2) – مدارج السالكين – ج3 ص 364 .
(3) – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان – ج15 ص 238 .
(4) – المصدر نفسه – ج15 ص239 .
(5) – المصدر نفسه – ج15 ص 213 .
(6) – كتاب الطريقة الكسنزانية – ص 102 .
(7) – صحيح البخاري ج 1 ص 217 .
(8) – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان – ج15 ص312 .
المصدر:- مشاركة من الكاتب .