من دنان المحبة الالية أرتوى صفوة الاولياء العارفين الذين تجردت نفوسهم لله وتحررت ارواحهم من رق ما سوى الله , فادبرت عليهم كاسات رحيق المشاهدة , ووصلوا الى حق اليقين , واستغرقوا في عين الجمع متحققين باسمى مراتب الاصطفاء والخصوصية , انهم شموس الحق الباهرة التي تغذي هذا العالم بالضياء وتجذب الخلق الى محيط النور والصفاء . رضي الله عنهم وعنا بهم اجمعين .
ومن ائمة اولئك الاقطاب العارفين والاولياء المقربين : الغوث الاعظم تاج المحققين , وكعبة الواصلين وامام الاولياء وقدوة العارفين الاصفياء القطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني وامدنا منه بالمدد الاعلى في الدارين .
امام تناهت اليه رئاسة التصوف في عصره وشرب العارفين من رحيق سره وقطب حاز مقام الاستطالة على اولياء زمانه طرا , فاذعن له اقطاب الولاية جمعا وقدموه ليحمل لواء الحقيقة ويقود ركب السائرين الى جناب رب العالمين والامام عبد القادر متفرع في النسب من الدوحة النبوية الشريفة , اذا انه حسني الاب حسيني الام .
فهو الامام محيي الدين ابو صالح سيدي عبد القادر موسى بن ابي عبد الله بن يحيى الزاهد بن الحسن المثنى ابن مولانا مولانا الامام الحسن سبط الرسول . واما والدته فهي السيدة فاطمة بنت السيد عبد الله الصومعي الحسيني الزاهد الذي يتنتهي نسبه الى مولانا الامام الحسين وعنا به في الدارين .
ولقد ولد سيدي عبد القادر سنة سبعين واربعمائة بجيل التي اليها نسبته وهي بلاد متفرقة من وراء طبرستان , ويقال لها ايضا جيلان وكيلان كما ذكر صاحب شذرات الذهب .
ورورى صاحب جامع الاصول مثل ذلك عن ابي الفضل احمد بن صالح الحنبلي واضاف اليه ان سيدي عبد القادر دخل بغداد ستة ثمانين واربعمائة وله ثمان عشرة سنة وقد عاش القطب الجيلاني احدى وتسعين سنة حيث توفي ودفن ببغداد سنة حدى وستين وخمسمائة هـ .
ولقد بدأت حياة القطب الجيلاني تشع بالنور منذ فجر ميلاده وتعلن للدنيا قدوم ولي وامام ستذعن له رقاب الاولياء وسيغمر نوره الارجاء , فيروى الامام الشعراني في طبقاته فاتحة الكرامات قائلا ( وحكى عن امه – وكان لها قدم في الطريق – انها قالت : لما وضعت ولدي عبد القادر (كان لا يرضع ثديها في نهار رمضان) ولقد غم على الناس هلال رمضان فاتوني وسالوني عنه فقلت لهم : انه لم يلتقم اليوم له ثديا , ثم اتضح ان ذلك اليوم كان من رمضان واشتهر ببلدنا في ذلك الوقت انه ولد للاشراف ولد لا يرضع في نهار رمضان ).
لقد احتضنت العناية سيدي عبد القادر فنزل من بطن امه صائما عن الدنيا .
وبدأ موكب النور وهللت البشائر بمقدم قطب الزمان ومنذ الوهلة الاولى اخذت حياة سيدي عبد القادر مسارها النوراني الاصطفائي , فقد كانت العناية تعده لاداء اسمى رسالة وهي حمل لواء الولاية مشعل الهداية ليقود ركب السالكين وليؤم صفوف الواصلين وكانت البادية بالتفقه في الدين والنهل من محيط المعرفة , فاقبل سيدي عبد القادر على شتى العلوم والمعارف وقد يقتات منها ويسبر اغوارها بذكائه الخارق ودأبه المتواصل . وسرعان ما اكتملت له موسوعية المعرفة والتبحر في علوم الشريعة خاصة بصورة اذهلت عقول اقرانه , فطارت شهرته في مختلف الارجاء وشدت اليه الرحال في بغداد تستقى من فيوضاته العلمية النادرة .
وعن تلك الصورة العلمية عند الامام عبد القادر يحدثنا الامام الشعراني في طبقاته فيقول : ( وكان يتكلم في ثلاثة عشر علما وكانوا يقرءون عليه في مدرسته درسا من التفسير ودرسا من الحديث ودرسا من المذهب ودرسا من الخلاف وكانوا يقرءون عليه طرفي النهار التفسير وعلوم الحديث والمذهب والخلاف والاصول والنحو , وكان يقرأ القرآن بالقراءات بعد الظهر . وكان يفتي على مذهبي الامام الشافعي والامام احمد . وكانت فتواه تعرض على العلماء بالعراق فتعجبهم اشد الاعجاب فيقولون سبحان من انعم عليه … ) وهكذا اخذ الامام عبد القادر طريقه في العلوم نحو القمة حتى تربع وصار نسيج وحده .
ولقد روى صاحب نور الابصار عن ابن الحاج انه قال في شرح رسالة ابن باديس . ان الشيخ ابا الفرج بن الجوزي حضر يوما مجلس سيدي عبد القادر , ففسر الشيخ عبد القادر آية وذكر فيها وجوها , والى جانب الشيخ ابي الفرج بن الجوزي من يساله اتعرف هذا القول ؟
فيقول : نعم الى ان بلغ احد عشر يعرفها ابو الفرج . ثم زاد الشيخ حتى انتهى الى اربعين وجها وعزا كل وجه الى قائله . فاشتد تعجب ابي الفرج من كثرة علم الشيخ ثم قال نترك المقال ونرجع للاحوال , لا اله الا الله محمد رسول الله فاضطرب الناس اضطرابا شديدا ومزق ابو الفرج ثوبه . .انه علم اهل الله ومفتاحه وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ .
ومن هنا تتحدد معالم الجانب السلوكي عند سيدي عبد القادر الذي حرص بكل وجدانه على اقتحام عقبات الطريق والمضي غاية وهب لها حياته . انها الوصول الى الله فكان الجانب السلوكي عند العارف الجيلاني في بدايته حافلا بالمجاهدات واي مجاهدات !!
يروي الامام الشعراني ان سيدي عبد القادر كان يقول ( قاسيت الاهوال في بدايتي فما تركت هولا الى ركبته , وكان لبسي جبة صوف وعلى راسي خريقة وكنت امشي حافيا في الشوك وغيره وكنت اقتات بخرنوب الشوك وقمامة البقل وورق الخس من شاطئ النهر , ولم ازل اخذ نفسي بالمجاهدات حتى طرقني من الله تعالى الحال . فاذا طرقني صرخت وهمت على وجهي سواء كنت في صحراء او بين الناس , وكنت اتظاهر بالتخارس والجنون حملت الى البيمارستان وطرقتني مرة الاحوال حتى مت وجاءوا بالكفن والغاسل وجعلوني على المغتسل ليغسلوني ثم سرى عني وقمت )
انها فترة الجهاد النفسي للتحرر من ربقة الانية والتخلص من اسر الترابية التي تحجب القلب عن اشراقات عالم القدس .
انها فترة حافلة بالانصهار في بوتقة الجهاد لتصفية الجوهر من التراب والاوشاب .
لقد سلك سيدي عبد القادر طريقا شاقا مليئا بالعقبات وتحمل فيه مالا يحتمل لانه اقرب الطرق الى الوصول يقول : ( اقمت في صحراء العراق وخرائبه خمسا وعشرين سنة مجردا سائحا لا اعرف الخلق ولا يعرفونني يأتيني طوائف من رجال الغيب والجان اعلمهم الطريق الى الله ورافقني الخضر في اول دخولي العراق وما كنت عرفته وشرط لي الا اخالفه وقال لي : اقعد هنا فجلست في الموضع الذي اقعدني فيه ثلاث سنين ياتيني كل سنة ويقول لي مكانك حتى آتيك … )
واصل الامام عبد القادر طريقه الى الله بقلب ملأء الحب والشوق والخشية والاجلال ومع كل خطوة تزداد الاشراقات سطوعا واتساعا ويزداد القلب عكوفا بباب المولى في محراب العبودية الخالصة وتمتزج نبضات القلب بتسبيحات صاعدة الى السماء والروح سابحة في خضم من الانوار تحث الخطى سيرا الى مولاها . انها حياة الساجدين لربهم على بساط القرب يعبدونه عبادة الاحرار لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار .
ولقد كانت عبادات العارف الجيلاني لها نهجها السامي وطبعها المتفرد الذي لا ترقى اليه الهمم ولا تتطاول اليه العزائم , يقول الشيخ ابو الفتح الهروي: ( خدمت الشيخ عبد القادر اربعين سنة فكان في مدتها يصلي الصبح بوضوء العشاء وكان كلما احدث جدد في وقته ثم يصلي ركعتين وكان يصلي العشاء ويدخل خلوته ولا يمكن احدا ان يدخلها معه فلا يخرج منه الا عند طلوع الفجر – قال الهروي – وبت عنده ليلة فرايته يصلي اول الليل يسيرا ثم يذكر الله تعالى الى ان يمضي الثلث الاول يقول :(المحيط الرب الشهيد الحسيب الفعال الخلاق الخالق البارئ المصور) , فتتضاءل جثته مرة وتعظم اخرى ويرتفع الى الهواء الى ان يغيب عن بصري مرة ثم يصلي قائما على قدمميه يتلو القران الى ان يذهب الثلث الثاني وكان يطيل سجوده جدا ثم يجلس متوجها مشاهدا مراقبا الى قريب طلوع الفجر ثم يأخذ في الدعاء والابتهال والتذلل ويغشاه نور يكاد يخطف الابصار الى ان يغيب فيه عن النظر – قال – وكنت اسمع عنده سلام عليكم سلام عليكم وهو يرد السلام الى ان يخرج لصلاة الفجر ) .
هذا هو ليل العارفين وتلك هي حياة التوابين القانتين وهذا هو فتح الابرار المتقين لقد كان سيدي عبد القادر يهب نفسه وروحه لله في كل نفس ويتضرع فيقول ( يا رب : كيف اهدي اليك روحي وقد صح بالبرهان ان الكل لك ) .
ولقد كانت فلسفة الامام الجيلاني في عباداته ومجاهداته متمثلة في هذه الحكمة المضيئة التي ارسلها من ذات نفسه ومن وحي تجربته ليعمل بها اتباعه ومريدوه : ( كلما جاهدت النفس في الطاعة حييت ,كلما اكرمتها ولم تهنها في رضاه ماتت ) وهذا معنى خبر رجعتم من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر .
ولقد وصل العارف سيدي عبد القادر الى قمة المنازل التي يرنو اليها العارفون المتحققون والاقطاب الواصلون فحاز الامامة الكبرى على الاولياء وانفرد بمقام لا يكون في العصر الا لواحد هو جوهرة ذلك العصر ودرته الفريدة , فلقد اجمعت الامة على قطبيته وغوثيته وعلى احلال المحل الارفع في الولاية كما انه متفرد عن جميع اولياء عصره بمقام يسمى مقام الاستطالة او مقام الاستطاعة ولقد وصف القطب العارف سيدي احمد ضياء الدين الكمشخانوي في كتابه ( جامع الاصول ) هذا المقام وهو بصدد ذكر انواع الاولياء والمتصوفين فقال : ( ومنها واحد يسمى رجل الاستطاعة ويعطيه الله قدرة كاملة على كل شيء فهو ذكي الفؤاد وشجاع ومقدام وكبير الدعوى بالحق لا بالنفس , ولذا يحكم العدل وله كرامات وليس خاصا بالرجال وعلى هذا المقام عبد القادر الجيلاني ) .
ولقد روت كتب الصوفية من طرق كثيرة عن كبار اثمة التصوف ان سيدي عبد القادر قال في مجلسه وهو على الكرسي يتكلم على الناس ( قدمي هذه على رقبة كل ولي لله ) وكان في مجلسه انذاك عامة مشايخ العراق وروى انهم كانوا نيفا وخمسين شيخا منهم الشيخ ابو النجيب السهروردي والشيخ قضيب البان الموصلي والشيخ ابو السعود العطار وغيرهم فاجمع اقطاب الصوفية على انه لم يبق احد من الاولياء في ذلك الوقت من الحاضرين و الغائبين في جميع افاق اللارض الا حنا له رقبته الا رجل باصبهان فانه لم يفعل فسلب حاله , ولقد روى ذلك الامام اليافعي في ( نشر المحاسن الغالية ) ثم اضاف اليه قائلا ( وكان من جملة من حنا له رقبته من الغائبين الكبار المشهورين الشيخ أبو مدين , والشيخ عبد الرحيم القناوي و الشيخ احمد بن ابي الحسين الرفاعي اجمعين , فأما سيدي احمد فرووا عنه انه كان جالسا يوما برواقه بام عبيد فمد عنقه وقال على رقبتي وفي رواية انه قال : وحميد منهم , فسئل عن ذلك فقال : قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد , قدمي هذه على رقبة كل ولي لله , واما الشيخ ابو مدين فرووا انه حنا برأسه يوما وهو بين اصحابه وقال وانا منهم , اللهم ان اشهدك واشهد ملائكتك اني سمعت وأطعت , فسأله أصحابه عن ذلك فقال , قال الشيخ عبد القادر الان ببغداد , قدمي هذه على رقبة كل ولي لله , فأرخوا ذلك وهم بالمغرب ثم جاء المسافرون من العراق فأخبروا ان الشيخ عبد القادر قال ذلك في الوقت الذي أرخوه , واما الشيخ عبد الرحيم فروا ان الشيخ عبد القادر قال ذلك في ذلك الوقت الذي أرخوه , وأما الشيخ عبد الرحيم فرروا أنه مد عنقه يوما بقناء وقال : صدق الصادق والمصدوق.
فقيل له : ومن هو ?
فقال : الشيخ عبد القادر قد قال قدمي هذه على رقبة كل ولي لله , وتواضع له رجال المشرق والمغرب فأرخوا ذلك الوقت ثم جاء الخبر بذلك في ذلك الوقت .
ولقد روى الامام اليافعي ايضا ان احد العارفين المعاصرين لسيدي عبد القادر وهو الشيخ مكارم قال : ( اشهدني الله انه لم يبق احدا من عقد له لواء الولاية في اقطار الارض ادناها وأقصاها الا شاهد علم القطبية محمولا بين يدي الشيخ عبد القادر وتاج الغوثية على رأسه ورأى عليه خلعة التصريف العام النافذ في الوجود وأهله ولاية وعزلا معلمة بطرازي الشريعة والحقيقة وسمعه يقول : قدمي هذه على رقبة كل ولي لله ووضع راسه وكذلك قلبه في وقت واحد ) . ثم لقد سجل صاحب ( نشر المحاسن الغالية ) هذه الرؤيا العظيمة لاحد العارفين المعاصرين لسيدي عبد القادر وهو الشيخ خليفة حيث قال : ( رأيت رسول الله فقلت له : يا رسول الله قد قال الشيخ عبد القادر قدمي هذه على رقبة كل ولي لله .
فقال : صدق الشيخ عبد القادر , وكيف لا وهو القطب وأنا أرعاه ).
وليت شعري ماذا يسجل القلم في مضمون قول مولانا المصطفى عن سيدي عبد القادر ( وأنا أرعاه ) انها التربية المحمدية والوراثة النبوية التي لا يحظى بها الا صفوة هذه الامة وويؤكد ذلك ما روى في الفيوضات الربانية من ان العارف شهاب الدين السهرورودي قال سمعت الشيخ محي الدين عبد القادر يقول على الكرسي بمدرسته ( كل ولي على قدم نبي , وأنا على قدم جدي وما رفع المصطفى قدما الا وضعت قدمي في الموضع الذي رفع قدمه منه الا ان يكون قدما من اقدام النبوة فانه لا سبيل ان يناله غير نبي ) . والى جانب اخذ سيدي عبد القادر عن رسول الله مباشرة فقد تلقى الخرقة ايضا عن شيخه العارف ابي سعيد المخزومي وهو عن شيخه ابي الحسن الهكاري عن ابي الفرج الطرسوسي عن ابي الفضل التميمي عن سيدي ابي بكر الشبلي عن سيد الطائفة الامام الجنيد عن شيخه السري عن سيدي ممعروف الكرخي عن سيدي داود الطائي عن سيدي حبيب العجمي عن الامام الحسن البصري عن باب مدينة العلم سيدنا ومولانا الامام علي عن سيد الخلق ورحمة للعالمين .
ولقد أسس الامام طريقته القادرية العلية على منهاج الكتاب والسنة تربى فيها ائمة واقطاب قادوا الخلق الى الله تعالى وسرت أنوارهم تضيء ساحات القلوب وتهدي قوافل السافرين .
ولطريقة سيدي عبد القادر معراجها في التحقق ومشربها في العرفان والتذوق ولقد أوضح ذلك معاصروه من كبار العارفين فيقول الشيخ على بن الهيتي ( كان قدمه – اي سيدي عبد القادر – على التفويض والموافقة من التبري من الحول والقوة وكانت طريقته تجريد التوحيد وتوحيد التفريد مع الحضور في موثق العبودية لا بشيء ولا لشيء ).
اما الشيخ عدي بن مسافر فيقول : ( كان الشيخ عبد القادر قدس سره طريقته الذبول تحت مجاري الاقدار بموافقة القلب والروح واتحاد الباطن والظاهر وانسلاخه من صفات النفس مع الغيبة عن رؤية النفع والضرر والقرب والبعد ) . وهذا هو الشيخ بقاء ين بطو احد اكابر الصديقين المعاصرين للقطب الجيلي يقول : كان طريق الشيخ عبد القادر اتحاد القول والفعل والنفس والوقت ومعانقة الاخلاص والتسليم وموافقة الكتاب والسنة في كل نفس وخطرة ووارد وحال الثبوت مع الله )
ثم يقول في رواية اخرى : ( كانت قوة الشيخ عبد القادر قدس سره في طريقه الى ربه كقوى جميع اهل الطريق شدة ولزوما وكانت طريقته التوحيد وصفا وحكما وحالا وتحقيق الشرع ظاهرا وباطنا ووصفه قلب فارغ وكون غائب ومشاهدة رب حاضر بسريرة لا تتجاذبها الشكوك وسر لا تنازعه الاغيار وقلب لا تفارقه البقايا ) .
انه جوانب الطريق القادري يصفها ذائقون وائمة محققون تكشفت لهم معالم الطرق الموصلة الى الله تعالى .
ولقد كان هدي الكتاب والسنة ونور الشريعة واضحا امام القطب الجيلاني لا يغيب عن ناظره طرفة عين فكان في تمسكه بالشريعة مثلا اعلى يدحض افتراءات اعداء التصوف الحانقين على اهله بدعاواهم المتهافتة يقول سيدي عبد القادر : ( تراءى لي نور عظيم ملأ الافق ثم تدلى فيه صورة تناديني : يا عبد القادر أنا ربك , وقد حللت لك المحرمات .
فقلت : أخسأ يالعين . فأما ذلك النور ظلام , وتلك الصورة دخان.
ثم خاطبني : يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بامر ربك وفقهك في احوال منازلاتك ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من اهل الطريق.
فقلت : لله الفضل – فقيل لسيدي عبد القادر : كيف علمت انه شيطان ؟
قال بقوله : قد حللت لك المحرمات ) .
ان سيدي عبد القادر ممن قال تعالى لابليس في حقهم إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ .
ولقد كان سيدي عبد القادر يوصي ابناءه ومريديه قائلا : ( اتبعوا ولا تبتدعوا واطيعوا ولا تخالفوا واصبروا ولا تجزعوا واثبتوا ولا تتمزقوا , وانتظروا ولا تيأسوا , واجتمعوا على الذكر ولا تفرقوا , وتطهروا عن الذنوب ولا تتلطخوا وعن بابا مولاكم لا تبرحوا ) . ولقد كان يقول : ( انما كلامي على رجال من وراء جبل قاف , اقدامهم في الهواء وقلوبهم في حضرة القدس تكاد قلوبهم تحترق من شدة شوقهم الى ربهم ) .
ولقد سار على درب سيدي القادر الجيلاني في كل عصر نخبة من اهل العناية وارثون لمدده , متحققون بمناقبه , ومن اولئك الاقطاب العارفين الذين شرف بهم في هذا العصر جدي وشيخي مولانا الشيخ جودة ابراهيم قدس الله سره فلقد قال له احد العارفين – وهو الشيخ الترمذي – ( ان احد الاكابر رآك يا سيدي وعبد القارد في مقلم واحد لا فرق في ذلك بينكما وهذه امانة اسلمها اليك ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
واما عن كرامات القطب الجيلاني فانها لا تسعها مجلدات بذكر طرف يسير منها يقول الامام المناوي في طبقاته عن سيدي عبد القادر ( واجتمع له ببغداد مائة من اكابر الفقهاء واتوه لامتحانه فظهرت منه بارقة من نور مرت على صدورهم فصاحوا صيحة واحدة ومزقوا ثيابهم وكشفوا رؤوسهم فصعد الكرسي واجاب عن جميع ما عندهم )
وذكر ايضا ان الذباب كان لا يصيبه وراثة من جده المصطفى .
وذكر الامام الشعراني من كراماته انه توضأ يوما فبال عليه عصفور فرفع راسه اليه وهو طائر فوقع ميتا فغسل الثوب ثم باعه وتصدق بثمنه وقال : هذا بهذا .
ومنها انه اتاه بعض الرافضة بقفتين مخيطتين وقالوا : قل لنا ما فيها , فوضع يده على احداهما وقال : في هذه صبي مقعد ففتحت فاذا فيها ذلك , فامسك يده وقال قم فقام يعدو , ثم وضع يده على الاخرى وقال فبها صبي لا عاهة به ففتحت فاذا فيها ذلك فامسك بناصيته وقال له اقعد فاقعد . فتابوا عن الرفض ومات في مجلسه يومئذ من الحاضرين ثلاثة .
انه امام الاولياء , نديم الحضرة القدسية الذي شرب من دنان المحبة حتى ارتوى فهتف بلسان الاستطالة قائلا :
على الاولياء القيت سري وبرهاني
فهاموا في سر سري واعلاني
فاسكرهم كاسي فهاموا بخمرتي
سكارى حيارى من وجودي وعرفاني
اما كنت قبل القبل قطبا مبجلا
تطوف بي الاكوان والرب اسماني
خرقت جميع الحجب حتى وصلته
مقاما به قد كان جدي له داني
وقد كشف الاستار عن نور وجهه
ومن خمرة التوحيد بالكأس اسقاني
وبعد فقد أغترف من البحر قطرات تدفقت في وجداننا لتثبت أزهار الحكمة وتحيي فينا روعة التأسي بعظماء هذه الامة الذين حملوا لواء الولاية واناروا لنا السبيل . فبحق من منحكم هذا العطاء يا مولانا الامام عبد القادر ان تلحقونا بركابكم لنسير في رحابكم على الدرب المضيء . رضي الله عنكم وأمدنا بمددكم وغمرنا بفضلكم وجزاكم عن امة سيدنا محمد خير الجزاء انه نعم المجيب .
____________________________
المصدر : من كتاب بحار الولاية المحمدية في مناقب اعلام الصوفية للاستاذ الدكتور جودة محمد ابو اليزيد المهدي , ص 399-ص 410 .