يقول الأستاذ حسن عباس زكي : ( إن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفته النفسية ، والصفة تدل دلالة واضحة على الموصوف ، وكما أن الموصوف وهو الحق سبحانه لا تدرك حقيقته فكذلك صفته .. ولهذا وقفنا أمام كلام الله حائرين لا نجزم بتحديد مراميه ، ولا نقطع بأن ذلك التفسير عين مراد الحق منه ، لأن كلام الله القديم إنما يفسره المفسرون بلغتنا العربية المحدثة بناءاً على مدركات عقولهم البشرية . واللغة العربية من صنع المخلوق ، وكلام المخلوق محدود ، لأنه يعبر عن محدود ، ومحال أن يحيط بالتعبير صنع المخلوق المحدود عن كلام الله وصفته التي لا تحدها الحدود .
ومن هنا كان القرآن حمالاً لوجوه عدة من المعاني ، وكان أمراً طبيعياً ما يتجدد فيه كل يوم من فهوم ، وستظل تلك المعاني تتجدد إلى ما شاء الله ، وسيبقى القرآن معها كما هو لا تبلى جدته ولا يكشف عن حقيقة مراده .
وليس غريباً بعد ذلك أن يذهب المسلمون مذاهب شتى في تأويله ، فالمفسرون من علماء الشريعة يقفون عند ظاهر اللفظ ، وما دل عليه الكلام من الأمر والنهي والقصص والأخبار والتوحيد وغير ذلك .
وأهل التحقيق أو الصوفية يقرون تفسيرهم هذا ويرونه الأصل الذي نزل فيه القرآن . ولكن لهم في كلام الله مع الأخذ بهذا التفسير الظاهري مذاقات لا يمكنهم إغفالها لأنها بمثابة واردات أو هواتف من الحق لهم .
فلا ينبغي أن نقف القرآن على تفسير معين على أنه المراد ، فلا نقول كما يقول البعض : إن التفسير الظاهري وحده هو المقصود ، كما لا يرى أهل التحقيق أن تفسيرهم وحده هو المراد ، لأن القول بالتفسير الظاهري وحسب تحديد ( لكلام الله ) غير المحدود ، وإخضاع القرآن للغة التي مقياسها العقل المحدود ، والوقوف في تفسير كلام الله عند العقل المحدود عقال عن الانطلاق فيما وراه الغيوب ، وإغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها لأنها لا تخضع لمقاييسه وإنما تخضع لشيء آخر فوقه وتدرك بلطيفة أخرى سواه .
إذن فهناك ما فوق العقل ألا وهو القلب ، وليس المقصود بالقلب قطعة اللحم الصنوبري ، وإنما المراد به تلك اللطيفة النورانية الربانية .
إنه القلب الذي لا تحده الحدود ، لأنه عرش استواء تجليات الرب على مملكة الجسم ، قال رب العزة في حديثه القدسي : ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن وهو القلب الذي اختصه الله بالإسرار والذي يجب أن يستفتيه الإنسان إذا حار ، سأل وابصة ابن معبد رسول الله عن البر و الإثم فقال : يا وابصة استفت قلبك . البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ذلك هو القلب المراد وله لغته ، كما أن للعقل لغته . وإذا كانت لغة العقل تدرك بالألفاظ ، ويعبر عنها بالكلمات فلغة القلب تدرك بالذوق ، لأنه لا يحيط بالتعبير عنها اللفظ .
ولنقرب إلى الفهم ، فلغة القلب مثل التفاحة .. فلن يستطيع من أكلها وأحس حلاوتها أن يترجم باللفظ أو يعبر بالوصف لمن لم يأكلها قبل – عن طعمها ومذاقها . وهكذا لا تدرك لغة القلب بوصف أو بلفظ ، وإنما يدركها ذو قلب متذوق . ولذلك لا تحيط بالتعبير عن لغة القلب العبارة ، وإنما يعبر عنها بالإشارة .
فالإشارة : ترجمان لما يقع في القلب من تجليات ومشاهد ، وتلويح لما يفيض به الله على صفوته وأحبابه من أسرار في كلام الله وكلام رسوله . ومن هنا كانت مذاقات الصوفية وأهل التحقيق في قرآن الله الكريم وكلامه القديم …
وهم لا يرون أن تلك المذاقات وحدها هي المرادة ، وإنما يأخذونها إشارات من الله لهم بعد إقرار ما قاله أهل الظاهر من تفسير باعتباره أصل التشريع . وجلي بعد ذلك أنه لا مجال لمعترض ممن ينكر عليهم مذاقاتهم ، ويراها ميلاً بكلام الله عن مجراه ما داموا لا يأخذون بمذاقاتهم وحدها ، وإنما يأخذون بها مع إقرارهم لتفسير أهل الشرع . فلا يعنينا من ذي جدل أن يقول عن هذه الإشارات أنها إحالة لكلام الله – عز وجل – وتغيير لسياقه ومجراه ، لأن ذلك يصدق لو قالوا : إنه لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لا يقولون ذلك بل يقرون الظواهر على ظواهرها ويفهمون عن الله ما أفهمهم .
وذلك مصداق الحديث الشريف : لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع فالباطن لا يعارض الظاهر ، والظاهر لا يعارض الباطن . وذلك النهج بعيد كل البعد عما نادى به ( الباطنية ) من الأخذ بباطن القرآن لا ظاهره ، وقصرهم معاني القرآن على ما ادعوه من تفسيراتهم دون غيره ، لأنهم بذلك لا يقرون الشريعة ويبطلون العمل بها . وهم لا يخضعون دعواهم للنص القرآني بل يخضعون النص القرآني لدعواهم .
وهنا يزول ما التبس على البعض من أن مذاقات الصوفية في القرآن الكريم نزعة باطنية فبينهم وبينها آماد وأبعاد ، بل إنهم لبريئون منها ، ولينكرونها كل الإنكار ، وواضح ذلك من أنهم يأخذون بالباطن بعد الأخذ بالظاهر ، ويقرون الحقيقة بعد الأخذ بالشريعة . ويرون أن الحقيقة نفسها أساسها الشريعة ، فالفرق ثمة كبير ، والبون شاسع وعظيم .
ولا مجال بعد هذا الإيضاح لإنكار من ينكر على الصوفية مذهبهم في الإشارات وما يختصهم الله به في كلامه وكلام رسوله من الأسرار والفيوضات . على أن تلك الإشارات أمر مشروع أقره الحديث المذكور آنفاً : لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع ، فأربابها متبعون لا مبتدعون اختصهم الله بأسراره في آياته ليكونوا مصابيح الهدى في غسق الدجى كما أقره عمد الدين ، وذوو العلم من المؤلفين :
قال سعد الدين [ التفتازاني ] في شرح العقائد النسفية : « وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فهي إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان » وقال الشيخ زروق رضي الله تعالى عنه : « نَظَرُ الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث » ، لأن كلاً منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتناه .
فإذا دار المفسرون في حدود اللفظ القرآني ، واستنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام فلأولي الألباب وذوي البصائر فيه بعد ذلك من الأسرار والحقائق ما لا ينكشف لسواهم ولا يدركه غيرهم . وذلك لتجدد واردات الحق عليهم ، ودوام تنزل الفيوضات على قلوبهم لأنهم أهله ومحبوه .
ثم إن فيض الله المتجدد في كلامه لهم لمما يزيد في كمال إعجاز القرآن ويؤكد أن إعجازه أسمى من أن يكون في فصاحة لفظه وقوة أسره وبلاغة أسلوبه ، وإنما إعجازه فوق ذلك في أسراره ومعانيه ومراده ومراميه . وأهل الله أولى الناس بتفهم مراده ومعرفة مرامي كلامه ومن ثم كان ما ينكشف لهم في كلام الله من أسرار بمثابة إشارات لهم-وحدهم ، لأن الإشارة لغة المحب مع المحبوب ، والإشارة بعد ذلك تلويح للمراد لا إفصاح عنه لعدم قدرة الألفاظ على تحمل المراد ، لأن العبارة تحدد ما يشيرون إليه ، وما يشيرون إليه إنما يكون عن مشاهدة ، وما يشاهدونه ليس بمحدود إذ هو من عالم الغيوب ، فلا اللفظ قادر على تحديد المراد ، ولا قابليات العقول تطيق ذلك . ومن ثم سميت مذاقاتهم في القرآن إشارات ولم تسم تفسيراً .
وقد تحلى القرآن الكريم بمثل تلك الإشارات من رموز الحواميم وألم وطسم الخ ، وهي إشارات بين الحق ورسوله أو ( شفرات ) – بالتعبير الحديث – بين المحبوب وحبيبه ولا يعرف حلها إلا من لديه مفتاحها . ومفتاح تلك ( الشفرات ) وفهم تلك الإشارات في حوزة من لديه الفهم لمراد المشير ، وهم بعد الرسول ورثته من العلماء بالله وأوليائه .
نقل عن الصالحين أن الله تعالى لما أنزل على سيد العالمين قوله تعالى : {كهيعص } مريم (1) ، قال جبريل – عليه السلام – : (ك) قال النبي : عرفت . قال جبريل – عليه السلام – : (هـ) قال : – اللهم صل عليه وآله – عرفت ، قال جبريل (ي) قال : عرفت ، قال جبريل : – عليه السلام – قال عرفت ، قال جبريل – عليه السلام – قال النبي : عرفت ، قال جبريل : عرفت وأنا لم أعرف سبحان من أعطاك .
ولا عجب فيما ينكشف لأرباب الإشارات من فيوض في قرآن الله أو حديث رسوله ، فما زال المفسرون يتجدد لهم في كلام الله كل يوم معان لم تسبق ، لا ينكرها الناس بل إليها يستريحون ، ففيم الإنكار على أرباب الإشارات وهم عن الله مشاهدون ، ولهم منازلات ومقامات فيتكلمون بما يشاهدون في منازلاتهم وينطقون عما يرون في مقاماتهم ؟
أجل معذور من ينكر عليهم ، لأنه لم يذق ما ذاقوا ، فلو ذاق لعرف وينبغي ألا يغيب عنه أن تلك الإشارات بمثابة اصطلاح يفهمه أهل التحقيق ولا يجدر أن يعارضهم في اصطلاحهم اصطلاح جماعة أخرى مادام لكلٍ اصطلاحه .
فالحق أن كلام الله : نور يرسل إلى القلوب وهي أوعية يتلون ذلك النور بلونها … وكلٌ يرسل بتفسيره شعاعاً حسب استعداده وقابليته وما استودع فيه .
ومنهم الإمام علي بن أبي طالب الذي أشار إلى صدره بعد أن تأوه مرتين ثم قال : ( إن ها هنا علوماً جمة لو وجدت لها حملة !!! ) ويروى عنه أنه قال : ( لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيراً ) أولئك هم علماء الله بحق ، الذين عناهم رسول الله بقوله : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله – عز وجل – .
ذلك نزر يسير مما عليه أهل الإشارات من مكانة ، وقدر ضئيل مما شرفهم الله به من منزلة ، ونستطيع بعد ذلك أن نعرض من مميزات وخصائص علم الإشارة ما يأتي :
أولاً : علم الإشارة لا ينظر إلى قصص الأنبياء في القرآن الكريم على أنها قصص قد انتهت بانتهاء أممهم ، وأن تلاوتها الآن للعظة والاعتبار فحسب ، وإنما يرون مع ذلك أن الخطاب بها ما زال قائماً يوجه الإنسان في كل عصر وأوان باعتبار مملكة الله الصغرى التي انطوى فيها العالم كله ، فمثلاً يرمزون لموسى بالقلب أو الروح وإلى فرعون بالنفس .
وبذلك يكون القرآن في حالة تجدد نزول لم ينته الخطاب بانتهاء زمانه باعتبار كلام الله وصفته القائمة بذاته ، وتظل بذلك صفة الكلام الإلهي قائمة غير معطلة لم تنته بنزول الكتب السماوية فما زال الحق – سبحانه وتعالى – متكلماً أبداً .
ثانياً : علم الإشارة يكشف عن صدق أهله مع ربهم وأمانتهم عند الحديث عن كلامه ، فكل ما قاله القرآن وما تناولته ألفاظه من أداء هو في مذهبهم حقيقة لا يعرفون مجازاً ولا يلجئون إلى كناية ، لأنهم بما شاهدوا وذاقوا يدركون هذه الحقائق . ولما كانت تلك مواجيد وأذواق لا يمكن نقلها إلى الغير بعبارة رمزوا لها و أشاروا ، ومن هنا أنكر عليهم من أنكر ، أما من شاهد مثلهم فقد عرف ما عرفوا ، بل ربما تجدد له من ذلك مشهد أو حقيقة أو مذاق ، وهكذا نرى أن أهل الله أمناء على كلامه ، دفعتهم غيرتهم على محبوبهم ، وعظيم احترامهم لجنابه ، وإكبارهم لكلامه ألا يميلوا عن منطوق ألفاظه إلى مجاز أو كناية خشية البعد عن مراده ،ولِمَ اللجوء إلى المجاز ما دام للحقيقة عندهم مخلص ؟ فهم لا يرون في قوله – سبحانه وتعالى – : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } يوسف (82) ، إن السؤال لأهلها فحسب بتقدير مضاف كما قيل أي واسأل أهل القرية ، وإنما السؤال للقرية بكل ما فيها ومن فيها ما داموا يشاهدون تسبيح الجماد ونطق الحيوان .
واقرأ إن شئت قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } الإسراء (44) ، وقوله : {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } سبأ (10) ، وقوله في حق السماء والأرض :{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فصلت }(11) … إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث . وعلى ذلك فلا يكون سؤال القرية قاصراً على أهلها ، لأنه سؤال لما فيها ومن فيها .
والمخاطب ذلك لو كانت لديه الخصوصية لخاطب القرية بكل ما تحتويه من كائنات .
وثمة مثال ثان : فهم لا يعترفون بأن كلمة في القرآن وضعت مكان كلمة أخرى أو بمعناها ، ففي قوله – جل جلاله – : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ الشورى (25) لا يرون أن ( عن ) بمعنى ( من ) تمشياً مع إنابة حروف الجر بعضها عن بعض ، وإنما ينظرون إلى منطوق اللفظ نفسه وهو ( عن ) ففي اللغة تفيد معنى المجاوزة ويكون المراد – والله أعلم – أن الحق يقبل التوبة متجاوزاً عن عباده في توبتهم لعدم خلوصها رحمة منه بهم ، وذلك المعنى لا شك أبلغ وأفصح .
على أن مذهب أهل الإشارات : حلاً لكل العقد ، وحسماً للخلافات ، وزوالاً للشبه والريب من مسائل الكسب والاكتساب والجبر والاختيار والنعيم والعذاب للجسم أو للروح الخ …
كل هذا وغيره من خلافات أهل علم الكلام والعقائد لا ظل له عندهم ، لأنهم اطلعوا على سر الله في أقضيته ومقداراته وتحققوا بذلك فاستراحوا وملأت قلوبهم السكينة وأفئدتهم الطمأنينة فاستشعروا في حياتهم من السعادة مالم يذقه غيرهم . ذلك لأنهم فتحوا عيون قلوبهم ولم يقيسوا بعقولهم ، لأن العقل مجاله محدود لا يكشف مهما كانت قدرته عما وراء الغيوب وإلا فيم يعلل العقل رؤية نبينا لموسى – عليه السلام – مرتين في قصة الإسراء والمعراج ، مرة في بيت المقدس وهو يصلي وراءه وأخرى في السماء وهو يراجعه في أمر الصلاة مع أن موسى لم يترك قبره ولم يفارق مثواه . والعقل يحار أيضاً أمام حديث سجود الشمس تحت العرش كل يوم وأنها لا تطلع حتى يؤذن لها بالطلوع مع أنها لا تغيب عن الكون لحظة . وشبه ذلك كثير من الأمثلة .
هذا وفي سوق الواقعة الآتية ما يجعلك تلمس أن أهل التحقيق هم الذين يفهمون عن الله ورسوله ما لا يفهمه غيرهم ، وأن من رحمة الله بعباده أن يكونوا بينهم ، وإليك الواقعة : اشتكى رجل مرضاً حار فيه نطس الأطباء فرأى رسول الله يرشده إلى أن يأخذ من ثمرة شجرة ( لا و لا ) ويستعملها ففيها شفاؤه ، وحار الرجل في تفسير رؤياه ، وحار معه في حل رمزها علماء العصر ، حتى شاء الله له الخير فالتقى برجل من أهل التحقيق فأجابه على الفور : أمرك يسير . علاجك في شجرة الزيتون فهي التي يقول الله فيها : {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ النور }(35) (1) .
ومن تأويلاتهم وأذواقهم في علم التوحيد والتي تفردوا بها ، أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه ، فمن ذلك : أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات ، والاتصاف بصفات المحدثات ، وكذلك لا يوصف بالتحول ، والانتقال ، ولا القيام ، والقعود ؛ لقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) الشورى (11) .
قال أبو عثمان المغربي يوماً لخادمه محمد المحبوب : لو قال لك قائل : أين معبودك ؟ ماذا كنت تقول له ؟ فقال : أقول حيث لم يزل ولا يزول ، قال : فإن قال : فأين كان في الأزل ؟ ماذا تقول ؟ فقال : أقول حيث هو الآن ، يعني : إنه كما كان ولا مكان ، قال أبو عثمان : كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة ، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا : إني قد أسلمت جديداً . وقال بعض أهل التحقيق : ألزم الكل الحدث ، لأن القدم له ، فهو سبحانه لا يظله فوق ، ولا يقيه تحت ، ولا يقابله حد ، ولا يزاحمه عد ولا يأخذه خلف ، ولا يحده أمام ، ولا يظهره قبل ، ولا يفنيه بعد ، ولا يجمعه كل ، ولا يوجده كان ، ولا يفقده ليس ، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم ، إن قلت متى ؟ فقد سبق الوقت كونه ، وإن قلت أين ؟ فقد تقدم المكان وجوده ، فوجوده إثباته ، ومعرفته توحيده أن تميزه من خلقه ما تصور في الأوهام ، فهو بخلاف ذلك كيف ، يحل به ما منه بدؤه ، أو يتصف بما هو إنشاؤه ، لا تمقله العيون ، ولا تقابله الظنون ، قربه كرامته ، وبعده إهانته ، علوه من غير ترق ، ومجيئه من غير تنقل ، هو الأول ، والآخر والظاهر ، والباطن ، والقريب البعيد ، الذي ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) الشورى (11) .
روي عن الإمام علي عليه السلام : أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود ، فقال : إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بلا جوارح ، ولا أدوات ، ولا حروف ، ولا شفة ، ولا لهوات ، سبحانه عن تكيف الصفات .
وأيضاً ما روي عن الإمام علي عليه السلام أنه سئل هل رأيت ربك ؟ وكان السائل له دعبل ، فقال في جوابه : لم أعبد رباً لم أره ، فقال له كيف رأيته ؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويحك يا دعبل ! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو قريب ولا بالحركة ، ولا بقيام ، ولا انتصاب ، ولا مجئ ، ولا ذهاب ، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر ، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ ، رؤوف رحيم لا يوصف بالرقة ، آمر لا بحروف ، قائل لا بألفاظ ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته ، وخلف كل شيء ، ولا يقال شيء قدامه ، وأمام كل شيء ، ولا يقال له أمام ، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج ( تبارك اللّه رب العالمين ) الأعراف (54) لو كان على شيء لكان محمولاً ، ولو كان في شيء لكان محصوراً ، ولو كان من شيء لكان محدثاً (2) . وفي مفهوم أن القديم والحادث لا يلتقيان ، فإذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم .
قال رجل بين يدي الجنيد قدس الله سره : الحمد لله ، ولم يقل رب العالمين ، فقال له الجنيد : كمله يا أخي ، فقال له الرجل : وأي قدر للعالمين حتى يذكروا معه ، فقال الجنيد : قله يا أخي ، فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم . وقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم إذ لا يثبت الحادث مع من له وصف القدم ، فانتفى القول بالإتحاد إذ معنى الإتحاد هو اقتران القديم مع الحادث فيتحدان حتى يكونا شيئاً واحداً وهو محال إذ هو مبني أيضاً على وجود السوى ولا سوى وقد يطلقون الإتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض :
وهامت بها روحي بحيث تمازجا
إتحاداً ولا جرم تخلله جرم
فأطلق الإتحاد على اتصال الروح بأصلها بعد صفائها ؛ ولذلك قال بعده ولا جرم تخلله إلخ فتحصل أن الحق سبحانه واحد في ملكه قديم أزلي باق أبدي منزه عن الحلول والإتحاد مقدس عن الشركاء والأضداد ( كان ولا أين ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ) .
وسئل أبو الحسن النوري رضي الله عنه : أين الله من مخلوقاته ؟ فقال : كان الله ولا أين ، والمخلوقات في عدم ، فكان حيث هو وهو الآن حيث كان ، إذ لا أين ولا مكان ، فقال له السائل : وهو علي بن ثور القاضي في قصة محنة الصوفية : فما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة ؟ فقال : عز ظاهر وملك قاهر ومخلوقات ظاهرة به وصادرة عنه لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها ، قال له : صدقت ، فأخبرني : ماذا أراد الله بخلقها ؟ قال : ظهور عزته وملكه وسلطانه ، قال : صدقت ، فأخبرني : ما مراده من خلقه ؟ قال : ما هم عليه ، قال أو يريد من الكفرة الكفر ؟ قال : أفيكفرون به وهو كاره ؟ ثم قال : أخبرني ماذا أراد الله باختلاف الشيع وتفريق الملل ؟ قال : أراد إبلاغ قدرته وبيان حكمته وإيجاب لطفه وظهور عدله وإحسانه .
والمراد منه وفيه : إشارة إلى أن تجليات الحق على ثلاثة أقسام ، قسم أظهرهم ليظهر فيهم كرمه وإحسانه وهم أهل الطاعة والإحسان ، وقسم أظهرهم ليظهر فيهم عفوه وحلمه وهم أهل العصيان من أهل الإيمان ، وقسم أظهرهم ليظهر فيهم نقمته وغضبه وهم أهل الكفر والطغيان ، فهذا سر تجليه تعالى في الجملة (3) .
وسئل ذو النون المصري عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) طه (5) ، فقال : أثبت ذاته ونفى مكانه ، فهو موجود بذاته ، والأشياء موجودة بحكمه ، كما شاء سبحانه .
وسئل الشبلي قدس الله سره عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) فقال : الرحمن لم يزل ، والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى .
وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) فقال : استوى علمه بكل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء .
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : من زعم أن الله في شيء ، أو من شيء ، أو على شيء ، فقد أشرك ؛ إذ لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصوراً ، ولو كان من شيء لكان محدثاً .
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام أيضاً في قوله : ثم دنا فتدلّى : من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثمَّ مسافة ، إنما التدني أنه كلما قرب منه بَعَّده عن أنواع المعارف إذ لا دنوَّ ولا بُعد (4) .
اعداد مكتب الارشاد والمتابعة
_____________
الهوامش:-
1- موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان للسيد الشيخ محمد الكسنزان
2- الإنصاف للباقلاني
3- إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة
4- الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري