الطريقة والمجتمع
ان منهج الطريقة هو شفاء للانسان من كل داء يلازمه وغاية هذا المنهج بلوغ مرتبة من الطهارة والكمال كونه أخصب جانب للحياة الروحية الإسلامية فهو تأمل لأحوال الإنسان في الدنيا وتزكية له قال : قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (1) ، فلا فلاح ولا صلاح من دون زم الجوارح وكبح الغرائز لذلك فان الطريقة هي عامل نهضة وانبعاث يهذب الشخصية الإنسانية ، فيستقيم السلوك بتعاليمها وتزكو الأخلاق بقيمها ، فيرتقي المجتمع بها ، وتشكل حلا للعديد من المشاكل والأزمات الاجتماعية ، وما سالكو هذه الطريقة حق سلوكها إلا أطباء نفسانيون يعملون على شفاء بلايا الآخرين لأنهم كما يقول المحاسبي في كتابه (المحبة) (قد رنوا بأبصارهم بفضل ضياء الحكمة الإلهية الى المناطق التي تنمو فيها الأدوية وقد علَّمَهم كيف يفعل الدواء ، فبدأوا بشفاء قلوبهم ، وأمرهم حين ذاك بان يواسوا قلوب المحزونين والذين يتألمون) (2) .
فالطريقة اذن هي علاج بدأ الطبيب المعالج فجربه على نفسه ابتغاء ان يفيد به الآخرين والطريقة كما يقول أبو الحسين النوري – ليست نصوصا وعلوما نظرية ، بل أخلاق أي قاعدة للحياة والمجتمع ، وكما يقول الجنيد (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات) (3) .
ومن هنا برزت قيمة الطريقة ووجوبها للمجتمع وقد استطاع مشايخها الكرام ان يستقوا من حياتهم الباطنة الوسائل لعلاج آلام القلوب ، وتضميد جراح الجماعة ، ووضع الإيثار شعارا لهم ، قال : َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ(4) .
لذلك فانها تجعل سالكها متسلحا بقيم روحية جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية ، فيتحقق له التوازن النفسي ويصبح قادرا على تجاوز مصاعبها ومشكلاتها وبهذا المعنى فان الطريقة تجعل من هذه الحياة وسيلة لا غاية يأخذ الإنسان كفايته ولا يخضع لعبودية حب المال والجاه ولا يستعلي بهما على الآخرين وبهذا يتحرر تماما من شهواته وأهوائه وبإرادة حرة .
ان من الأمور التي يجب ان نعرج عليها هو اقتران الجهاد بالطريقة ، ذلك ان المتفيهقين قد اتهموا باطلا أهل الطريقة بالتخاذل والتقاعس والتخلي عن الدنيا لكن الحقيقة خلاف ذلك حيث دون أهل الطريقة صفحات مشرقة في تاريخ الإسلام وحضارته فنرى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قد عمر الصدور بالأيمان ورسخ العقائد الجهادية للمسلمين ضد الصليبيين وما كانت مدرسته الصوفية في بغداد إلا مصنعا أيمانيا في غاية الأهمية ، جنى ثماره فيما بعد القائد صلاح الدين الأيوبي الذي انتصر على الجيوش الصليـبية (5) .
وقد تزعم أهل الطريقة جماهير الناس في محاربة الأسبان والبرتغال واستشهد منهم نفر كثير .
ان أهل الطريقة هم ملاذ الناس في الملمات الى جانب ما لهم من خدمات اجتماعية وألوان من البر والإحسان والمواساة والمؤاخاة ، ومما تجدر به الإشارة ان الطريقة تمتاز بالنـزعة الإنسانية العالمية المنفتحة على سائر الأديان والأجناس قال : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (6) ، وقال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (7) ، وقال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (8) ، وإذا كان الإسلام في جوهره دينا منفتحا على كل الأجناس لا فرق بين مسلم ومسلم يختلفان جنسا او لغة او لونا او مكانا او زمانا إلا بالتقـوى : ان أكرمكـم عنـد الله اتقاكم (9) ، فان الطريقة قد وسعت من الآفاق التي يستشرق إليها الإسلام وامتدت بها الى الأديان الأخرى وبالتالي تحقق ذلك المجتمع المفتوح المنشود والمطمئن لان الطريقة منفتحة وشاملة لكل التجارب الدينية الإنسانية متعاطفة مع سائر التيارات والمناهج الروحية جامعة للأخوة الإنسانية بين الناس على اختلاف الأزمنة والأمكنة قال : وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (10) ، وذلك ان أول نص قرآني نزل به الروح الأمين على سيدنا محمد لتبليغه للناس كافة هو
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والكل يعلم ما لهذا النص القرآني من دلالات وعظات وعبر تعجز عن التعبير عنها الألسن وتؤكد ان الدين الإسلامي هو دين الإسلام والتآخي والمحبة .
الهوامش
[1] – الشمس : 9.
[2] – كتاب المحبة للمحاسبي .
[3] – الرسالة القشيرية ، ص20 .
[4] – الحشر : 9.
[5] – للإطلاع راجع كتاب هكذا ظهر جيل صلاح الدين الأيوبي ، ماجد عرسان .
[6] – الأنبياء :107 .
[7] – الأنبياء : 92.
[8] – المؤمنون :52.
[9] – الحجرات : 13.
[10] – الأنفال : 61.
المصدر ـ الشيخ محمد الكسنزان ـ كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص99.