بقلم : المرابط ولد عبد الرحمن/ باحث في العلوم الشرعية
تطلق الطريقة لغة على السيرة والمذهب، وهي من اللفظ المشترك الذي له في اللغة محامل كثيرة، ووردت في القرآن في أكثر من موضع؛ أما في الاصطلاح فهي عبارة عن مناهج وأساليب تربوية قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص مع اتفاقها في المنطلقات أو المبادئ والأهداف، لذا فالطرق الصوفية رابطات أو مدارس إسلامية إيمانية إحسانية تُعنى بالتربية الروحية والتزكية النفسية، وهي كمناهج عملية قائمة على ركائز روحية وجدانية قديمة بقدم العقائد الإلهية والتشريعات السماوية، ولما بُعث سيد الوجود والسبب في كل موجود صلى الله عليه وسلم وشرّف ومجّد وكرّم وعظّم بختم الرسالات الإلهية اكتمل الدين الحنيف بعناصره الثلاثة: الإسلام، الإيمان، الإحسان؛ كما في قول الله تعالى:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 4] .
وكما في حديث جبريل المشهور بحديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الذي استطردنا أغلبيته في المقال الأول فإنه قد حدد النبي صلى الله عليه وسلم أقسام الدين وقسمها إلى ثلاثة أقسام كما تقدم، ومن هنا فإنه لا تناقض ولا تعارض بين هذه الأقسام والمجالات التشريعية العقدية التي تدل على سعة ورحمة وشمولية وعظمة هذا الدين الحنيف الذي يسع كل طائفة وكل صنف من مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحويين ولغويين …وغيرهم من التخصصات والمشارب الإسلامية الكثيرة، فقد تخصص في كل مجال منها فرقة أو طائفة من علماء وكبراء الأمة حيث تخصص الفقهاء في القسم الأول المتعلق بفروع الأعمال، وتخصص علماء التوحيد في القسم الثاني المتعلق بجانب المعتقد، وتخصص الصوفية في القسم الثالث أو الجزء الأخير الذي يمثل روح الإسلام ألا وهو التصوف، لذا فكلها في النهاية تصب في قالب أو بوتقة واحدة؛ .
وقد ظهرت الطرق الصوفية في ساحة العمل الإسلامي كمدارس تربوية سلوكية وكمشارب روحية تهتم بالتزكية والتربية والترقية إبان عصر التدوين والتوثيق والترجمة والنقل حيث تنوعت المشارب وتعددت المدارس من فقهية وعقدية وصوفية وما إلى ذلك، فكانت هذه الأخيرة مستمدة من جوهر الدين ولب لبابه المكين ألا وهو مقام الإحسان كما في قول الله عز وجل: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان: 22] وقوله:فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [التوبة: 122] وقوله: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة: 119] وقوله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه… [الكهف: 28.].
وقوله:واتبع سبيل من أناب إلي [لقمان: 15] وقوله: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [المائدة: 35] وقوله: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا [الكهف: 66] وقول النبي كما روى أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وحسنه الترمذي: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المرء مع من أحب ” وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف [متفق عليه] وكما في حديث مسلم:من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها …. الحديث، إلى غير ذلك من النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة التي تأصل عمل الطرق الصوفية بشكل عام.
وانطلاقا من هذه الثوابت والمسلمات وتجسيدا لهذا المنهج النبوي الكريم وعملا بهدي الكتاب والسنة أنشأ العلماء العاملون -وهم الأولياء المتقون- هذه المدارس التربوية التي اصطلحوا عليها ب”الطرق الصوفية” وأسسوا معانيها ومبانيها على الأسس الشرعية من قرآن وسنة؛ وقد أجمل التُّسْتري أصولها في سبعة هي:
1/ التمسك بكتاب الله،
2/ والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم،
3/ وأكل الحلال،
4/ وكف الأذى،
5/ واجتناب الآثام،
6/ والتوبة،
7/ وأداء الحقوق؛
ويقول الإمام النووي- كما في المقاصد- أصول طريق التصوف خمسة:
1/ تقوى الله في السر والعلانية،
2/ اتباع السنة في الأقوال والأفعال،
3/ الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار،
4/ الرضا عن الله تعالى في القليل والكثير،
5/ الرجوع إلى الله في السراء والضراء.
والجدير بالذكر أن منهج الطرق الصوفية في الدعوة إلى الله تعالى منهج وسطي معتدل قائم على توجيهات ومقتضيات الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة كقول الله جل ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة: 142.]. وقوله جل شأنه: وهذا صراط ربك مستقيما [الأنعام: 127]..الخ، إذ التصوف الصحيح السليم على صفائه ونقائه بعيد كل البعد عن الغلو والشذوذ والتطرف والانحراف، وأهله هم الذين رفعوا لواء العلم والمعرفة في كل زمان ومكان منذ بداية الإسلام وإلى الآن، فكان منهم عبر تعاقب القرون والأزمان العلماء والقراء والمحدثون والعارفون بالله تعالى، لأن شأنهم العلم والعمل والأدب والتقوى…إلخ.
ومن مشاهير أعلام الصوفية الذين كان لهم دور كبير وعظيم في بث ونشر علوم الإسلام الإمام الحسن البصري والحافظ الأصبهاني، والمحدث والمؤرخ الروذباري وحجة الإسلام ومحي علوم الدين الإمام الغزالي، والقاضي بكار بن قتيبة، والقاضي رويم البغدادي، وأبو القاسم القشيري، والفقيه ابن خفيف الشيرازي، والحافظ أبو الفضل المقدسي، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، والحافظ ابن الصلاح، والإمام الحافظ النووي، والإمام تقي الدين السبكي، والفقيه تاج الدين السبكي، والمفسر النحوي أبو حيان الأندلسي، والحافظ قطب الدين القسطلاني، والحافظ السيوطي، والجنيد السالك، وأبو العباس أحمد ابن عطاء البغدادي، وأبو بكر محمد بن موسى الواسطي، والحافظ أبو نعيم والحافظ الطبراني والمحدث الهيتمي والحكيم الترمذي والعلامة القاضي يوسف النبهاني وإمام الحرمين الشيخ أحمد دحلان والعلامة الشيخ زروق والإمام المفسر الصاوي والعلامة الشيخ خليل والعلامة عبد الواحد بن عاشر… إلى آخر القائمة الطويلة.
ولا يغرّنك أيها القارئ الكريم ما تعرض له ساداتنا الأولياء أرباب الطرق الصوفية السنية من انتقادات واعتراضات المنكرين إذ الحق يُعرف بأهله وهم أهل استقامة ومثابرة على اتباع السنة المحمدية الغراء يعلم ذلك كل ملمّ بواقع وعمل رجالات هذه المدرسة. فالمتتبع المنصف لكلام أئمة ومشايخ الطرق الصوفية طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل يعلم أنهم على منهج النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفوا ولم ينحرفوا عنه لا في العقيدة ولا في الأحكام ولا في الأعمال ولا في الآداب النبوية الشريفة وكتبهم طافحة بذلك. ولعلو منزلتهم وقربهم من الله لا يسقط عنهم شيء من الفرائض والتكاليف الشرعية ومن زعم ذلك من الجهلاء الأغبياء فقد كفر والعياذ بالله لأنه لم يسقط ذلك عن الأنبياء فكيف يسقط عن الأولياء.
ونحن هنا من هذا المنبر نحذر من الأقوال والأفعال والاعتقادات الفاسدة الشائعة بين مدعي التصوف ونحث على التمسك بالتصوف الحقيقي الذي عناه شيخنا الشيخ التجاني بقوله: التصوف هو امتثال الأمر واجتناب النهي في الظاهر والباطن من حيث يرضي لا من حيث ترضي.
وأما ما ذهب إليه من يدعون الانتساب إلى التصوف من الحض على ترك العلوم الشرعية الضرورية ظنا منهم أنها تحجب عن الله أو أن الوصول يمكن أن يحصل بدونها فكل ذلك محض هراء لقول الله تبارك وتعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم [البقرة: 282] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: “العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” [رواه البيهقي] ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: ما اتخذ الله وليا جاهليا. فالحياة الإسلامية الروحية قائمة على العلم والعمل، والعلم لا يكون إلا بالتعلم والذي يعلمك هو شيخك بطبيعة الحال، وإذا فالعمل الروحي مرتبط بالعلم الشرعي، والعلم الشرعي لا بد له من شيخ يعلمه فمن هنا كان العلم إمام العمل. بيد أن علم المعرفة أوله علم ووسطه عمل وآخره موهبة كما ذكر الصوفية. ولهذا قالوا: الأحوال مواهب والمقامات مكاسب.
وعليه فإنه لا وزن لأفعال وأقوال أدعياء التصوف الذين لا ناقة لهم فيه ولا جمل حيث إن كثيرا منهم أخذه صورة لا حقيقة، وشكلا لا مضمونا ومظهرا لا جوهرا فمثل هؤلاء هم مشكلة الصوفية دائما وأبدا لأنهم يعكرون صفو المشرب ويسبّبون لأهله الأزمات والمشاكل الكثيرة، لذلك كان تقصير الأتباع في الإتباع هو سبب الإنكار على أولياء الأمة المحمدية، وأما ما ينقل عن أكابر الأولياء الأجلاء والمشايخ الصلحاء قديما وحديثا من مخالفة السنة المطهرة الشريفة فهو محض افتراء لأن من تتبع أقوالهم وأفعالهم يجد أنهم يتمسكون بالسنة أشد التمسك ولم يخرجوا عنها قيد أنملة وكيف يخرجون عنها وهي الوسيلة الوحيدة لغايتهم ومرادهم وعلى ذلك ينشد لسان حالهم:
أيا بن الكرام ألا تدنو فتبصر ما *قد حدثوك فما راء كمن سمعا
ولله در القائل:
وليس يعدم في الإعراج غصّ بها
فيح الفلا عرج في البعض أو حرد
إن يأت منـتسب إليـه بما
يخالف الشرع عق الوالد الولد
أما عن أسلوب دعوة هذه المدارس الروحية الإسلامية فإن أسلوب دعوتها ينبني على المحبة والرحمة والأريحية والتسامح واللطف والرفق والتآخي والإنصاف والأمل والرجاء ..وما إلى ذلك من الأساليب الجمالية المحمدية قال الله تعالى: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب [الزمر: 16-17.] وقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [الزمر: 50] وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري: “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا” وقال – كما في حديث الطبراني- : “إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر وكره لها العسر” إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والحديثية الكثيرة في هذا السياق، حتى أنه بفضل تخلق واتصاف وتحقق رواد ومشايخ التصوف بالمواصفات الإيجابية الواردة في النصوص الشرعية الكثيرة انتشرت دعوة الإسلام الصحيحة في جميع القارات وبخاصة في القارة الإفريقية فضربت أروع مثال في التربية والتعليم والتوعية وكانت أهم عوامل وركائز الألفة والتراحم بين الأمم والشعوب التي انتشرت فيها واعتنقها أهلها بصدق وإخلاص، فكانت لتلك الروح التربوية الجمالية الرائعة والسلوك الخلقي العظيم الذي تمتع ويتمتع به الصوفيون عموما والتجانيون خصوصا الدور الأكبر والأعظم والأبرز في ترسيخ قيم الإسلام ومبادئ الدين ومثله وتعاليمه السمحة، فقدموا الإسلام للناس على وجهه المشرق والوضاء بتلك الروح الدينية السامقة التي ترقى بالسالك إلى تطهير نفسه والبلوغ بها أعلى المقامات والمراتب، وكانت لمدارسهم ومعاهدهم وزواياهم ومساجدهم في الديار القاصية والدانية الرسالة الروحية والعلمية الكبرى لإصلاح القلوب وتزكية النفوس، وتمتين أواصر التضامن الإسلامي بين مختلف الشعوب الإسلامية التي انتشرت فيها الطرق الصوفية.
ولم يركنوا في يوم من الأيام إلى الخمول والجمود ولا إلى الاتكالية وترك الأسباب، كما أنهم لم يعتمدوا على الإغراء المادي في إيصال دعوتهم الروحية الإسلامية؛ فمنذ قرون من الزمن قامت الطرق الصوفية شاذلية وقادرية وتجانية وغيرها بجهود جبارة وعظيمة جدا على جميع المستويات وكافة الأصعدة والمجالات حيث استطاعت بفضل أعلامها ومشائخها ومقدميها أن تزيل غيوم الوثنية وضباب الشرك والكفر من مناطق عديدة من القارة السمراء فأثرت تأثيرا واسعا في تلك الأدغال الإفريقية وأسست نهضة أخلاقية وفكرية لا نظير لها وأقامت فيضة روحية وعلمية كبرى اتسمت بكثرة الفتح والإقبال على الله تعالى والتنافس في تحصيل العلوم الوهبية والكسبية منطلقة من السنة المحمدية الشريفة. ولسر تمسكها بالسنة وعملها الجاد في تبليغ الدعوة الإسلامية بلغت أوج عزها وازدهارها في جميع أنحاء العالم .
علما أن الجدل العقيم الذي عرفته الساحة الفكرية خلال الألفية الثانية الماضية حول التصوف والصوفية إنما كان جدلا يمثل في حقيقة الأمر ابتعاد بعض أدعياء العلم من الإيديولوجيين على وجه التحديد عن الممارسات الأخلاقية التي هي لب الدين والبعد الحقيقي لمشرب التصوف في الإسلام، إذ التصوف كله أخلاق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف كما يقال. وكيف لا والمصطفى صلى الله عليه وسلم أسوتنا العظمى وقدوتنا الأسمى كان خلقه القرآن وكان النموذج الأعلى في الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحامد الصفات.
ومن ثم لم تعش مدرسة التصوف الأخلاقية السلوكية ما عاشته تلك المدارس الأخرى من الصراعات والمراوغات السياسية المتعلقة بهرم السلطة أو سدة الحكم هنا أو هناك لأن همها الأوحد الديانة لا الرئاسة، بل ظل أكابرها سلفا وخلفا يؤثرون غيرهم بهذه المهمة الشاقة الصعبة والمسؤولية الكبيرة الخطرة التي يترتب عليها ما يترتب من حقوق حقيّة وخلقية هم في غنى عنها أصلا نظرا لتوجههم الروحي وسلوكهم الزهدي، فكانت رسالتهم قديما وحديثا ترتكز على التربية الروحية والتزكية النفسية هذه المهمة التي لا يمكن لغيرهم أن يقوم بها ولن يقوم بها مهما تطاول إليها ولو تناول الثريا، مع العلم أن أقطاب ورجالات المدرسة الصوفية لا يفرقون بين الدين والدولة بل لهم رؤاهم السياسية الواعية ولهم اهتماماتهم الإيجابية فيما يتعلق بأمر الإسلام والمسلمين، لكنهم يحترمون جميع الاجتهادات والرؤى والتوجهات، ويحرصون بشكل دائم على أن يكونوا قوة إيجابية كمية وكيفية في كل زمان ومكان، لذلك يعملون دوما من أجل تقريب وجهات النظر والحد من الخلافات بين جميع فئات واتجاهات ومدارس وجماعات المسلمين؛.
وقد لعبت المدارس الصوفية في القديم والحديث أدوارا إيجابية في خلق الوئام العام ونبذ التفرقة والاختلاف بين الأمة بشكل عام عملا بقول الله تعالى:واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا…. [النساء: 145.] وقول الرسول – كما روى مسلم- : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضهفربطوا شرائح ومكونات المجتمع المسلم بروابط روحية دينية خالدة مما جعل علماء هذا البلد ومشايخه كرواد للعالمين العربي والإسلامي في المجالات الروحية والعلمية يتشبثون ويتمسكون عبر التاريخ بالفكر الصوفي السني المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط؛ أما على مستوى التحديات الخارجية فقد كان للجماعات الصوفية وأرباب الطرق والزوايا والرباطات أوفر نصيب وأكبر حظ من الذب عن حوزة الوطن الإسلامي وحرماته ومقدساته، فمن المعروف والمسلم به أنهم حملوا علم المقاومة الوطنية والقومية والدينية ضد المستعمر الغاشم، وكان المجاهدون في مختلف المناطق الإفريقية والعالم بأسره يرجعون إلى توجيهات وإرشادات المشايخ الكرام بل كان لأكثرهم خلفيات صوفية يعتمدون عليها ويعولون عليها بعد الله تعالى مستحضرين هممها وتوجهاتها الربانية في الخلوات والجلوات عملا بقاعدة: “من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه”؛ وكانت ساحات النزال تتشرف برجالات صوفية لا يخافون الموت في سبيل الله دفاعا عن الدين والوطن والشرف والكرامة.
وفضلا عن الأدوار الطلائعية التي قام بها الصوفية في نشر دعوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها فقد كانت لهم أيضا مساهمات ومشاركات على مستويات أخرى في جميع مجالات الحياة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفكريا …وما إلى ذلك؛ وبهذه الريادة والقيادة التي تبوأتها المدرسة الصوفية السنية المعتدلة على مستوى العالم الإسلامي أصبح التصوف عاملا أساسيا وجزءا مهما في تكوين بنية الشخصية المسلمة المحافظة في جميع أنحاء العالم، أما على المستوى الوطني فإننا نعتز بكون البلد لم يعش في يوم من الأيام قطيعة مع تراثه الفكري عموما والروحي خصوصا وهذه محمدة يغبط ويحسد عليها، تنضاف لمكاسبه المتنوعة في شتى المجالات والميادين وهي نعمة تذكر فتشكر.
وكان من جملة العوامل والأسباب التي ساعدت على تجذّر وترسّخ النموذج الصوفي المحافظ في هذا البلد بعده من الرهبنة والشعوذة والبدع والخرافات.. وتعمق أهله في العلوم الشرعية واللغوية وما إلى ذلك.
ومهما يكن فإن الطرق الصوفية إكسير عظيم وترياق عجيب لمحارم اللسان وآفات القلوب، ولهذا كان من أهم مميزات وميادين دعوتها ذكر الله تبارك وتعالى في كل الأوقات وفي جميع الحالات لأن الذكر هو صلة الوصل بين الذاكر والمذكور، حتى كان الذكر عندهم هو الوسيلة والغاية معا، إذ لا سبيل عند القوم للتحقق والوصول إلى العلم بالله تعالى -العلم اليقيني الحقيقي- إلا بالذكر والمذاكرة في الله تعالى. على أن العلم بالله ينقسم إلى علم يقين وعين يقين وحق يقين، وهذه الدرجات الثلاثة ظلت ميدان التنافس بين أهل الإسلام والإيمان والإحسان.
ومن أهم مميزات الصوفية أيضا ما امتازوا به قديما وحديثا من محبة الوسيلة الأعظم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، هذه المحبة المتضمنة بالضرورة كمال المتابعة والاقتداء في كل ما دق أو جل مصداقا لقول الله جل شأنه:قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله….[ آل عمران: 31].
وصفوة القول أن أهداف الدعوة الصوفية تنحصر في التخلي عن السمات السلبية المسماة بالمهلكات التي هي: النفاق، والفسق، والكبر، والحسد، والحقد، والبخل، والرياء، والسمعة، وحب المال، والجاه، وما يتفرع عنها من فروع وخصال غير حميدة؛ إذ بالتخلي عنها يحصل التحلي بأضدادها مثل: التوبة، والإخلاص، والصبر، والزهد، والتوكل، والتفويض، والرضا، والتقوى، والخوف، والرجاء، وما يتبع ذلك من توابع إيجابية وطيبة لا غنى للمؤمن عنها، وبحصولها والتحقق بها تكون المراقبة بنوعيها الكبرى والصغرى، هذه المراقبة التي تتحصّل على قدر اتصاف النفس الإنسانية بمقامات اليقين ومنازل المتقين سلوكا وعملا وذوقا وحالا، حيث تتدرج من أمارة بالسوء إلى لوامة عليه ومن ملهمة مستيقظة إلى مطمئنة متزكية ثم إلى راضية مرضية حيث تكون كاملة وتلك هي نهاية سيرها وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.[المطففين: 26].
____________
المصدر : موقع المنار والرباط .
http://manarebat.com/modules.php?name=News&file=article&sid=41