حسين علاوي
ان الفكر والسلوك التصوفي كان يعاني الكثير من الانكار، بل والاضطهاد في عصور شتى.. بحكم ان الصوفيين لهم طريقتهم الخاصة في الطرح والسلوك والتقييم.. وان لهم مبدأ، او عقيدة، او ما يشبه ان يكون عقيدة، يملك المرء ان يميزها من بقية المعتقدات، حتى الدينية منها.. وللصوفية غريزة الولع بالمجهول، او غريزة الحنين الى النائيات والاعالي.. وهذه الغريزة هي التي اكتشفت القارات البعيدة.. واكتشفت الكواكب..
وليس من قبيل المبالغة أن يقال بأن التصوف ثورة بالفعل.. انه ثورة الاعماق على السطوح، او ثورة ما هو اصلي في الانسان على الابتدال والتلون وسخف الواقع المادي البشع.. وافتقاره الى ما ينعش ويؤصل..
فالصوفية هي رد الفعل الذاتي، او الوجداني، على مدن اصابتها التخمة فما عادت تصلح لاستضافة الروح، لانها منخورة بالفساد الاجتماعي، فليس من الصدفة ان يتشرد رجال التصوف في البراري.. وان يعتكفوا في بيوتهم او في زواياهم، متوارين عن الناس، محجمين عن الالتقاء بهم.. ففي المدن الكبرى يتكالب الناس على الثروات تكالبا ينتقص من انسانيتهم، فضلا عن انه يحيلهم جميعا الى عبيد.. وان هناك شبها كبيرا بين الصوفية والرومانسية، اذ كلتاهما تمجد الوجدان على حساب العقل، وتمجد الطبيعة على حساب المجتمع.. وللصوفية لغتهم التي هي عصارة روح.. فالنسق في اللغة الصوفية قد يشابه نسق اللغة الفقهية او اللغة الكلامية.. الا انه يفترق عن اللغة الادبية.. كما تفترق هذه اللغات جميعا عن اللغة الفلسفية.
فلا يكاد المتصوف يقطع مسافة في منازل السائرين حتى تتعشق روحه العزلة، وتتجافى عن المخالطة، ويعيش رحلته الوجدانية الحاصلة في عمق وحدته، وهذه الوحدة او العزلة لها مردودان الاول انها تمكن الصوفي من اكتشاف طريقه الخاص، ومن عيش تجربته الفردية.. والمردود الثاني للعزلة هو تفرد الصوفي في لغته الخاصة الناتجة عن تجربته المخصوصة..لذلك قلما نجد صوفيا يرث تجربة او لغة صوفي اخر، بل الكل يعبر عن حاله الخاص وعن تجربته الخاصة، ولم يطالعنا في التاريخ الطويل للتصوف، الاوريثان فقط للغة ولتجربة، هما: الغزالي وابن عربي.. والاول ورث لغة المعاملة، اي اعمال القلوب.. والثاني وريث لغة المكاشفة.. وقد اختلف الناس حول محيي الدين بن عربي.. وما احرى ان يختلف الناس حول مثل هذا الصوفي البارز الذي كان يطرق تخوما غير مسبوقة.. ويجتهد في ان يعبر فيافي ومفازات شبه مجهولة.. على طريق الوصول الى المعرفة كما ينشدها وكما تهيأت له عقليته.. وتهيأ له وجدانه.. ولا شك ان الصوفية ومنهم ابن عربي يستطيعون ان يهيمون في مسالك الوجود واذ يشغفون حبا بالله تعالى اذ يغوصون في بحار معرفة الوجود..
فليس من قبيل الصدفة ان يكون اول كتاب صوفي كتابا اخلاقيا وروحيا وذات لغة خاصة.. وهو كتاب (الرعايا لحقوق الله) الذي الفه الحارث بن اسد المحاسبي، استاذ الجنيد.. وقد سمي بالمحاسبي لانه اعتاد على محاسبة نفسه.. ودعا الناس الى هذه المحاسبة.. اما لغة التعري وخطابه فانه يختلف كثيرا عن الموروث الصوفي العام وهو حوار بين طرفين، اولهما مطلق وثانيهما محدود.. فهو يكتب ما يشبه ان يكون ملحمة، او مسرحية، تجري في داخل الوجدان وحده، فالنفري يأنف من العالم الخارجي، بل هو يمقت كل ما ينزع الى التجسيد… وبفضل هذه المهمة الجليلة جاء الاسلوب مهيبا وقورا بأهله روح ارستقراطي رفيع..
والنفري فريد من نوعه، لا يشبه احدا، ولا يشبهه احد من الكتاب الصوفيين الذين سبقوه او عاصروه.. فلغته خاصة به وحده.. وحتى ثقافته لا تشبه ثقافة اخرى.. الا ان تكون من ثقافات منتهية او مكتومة.. وان اسلوبه النادر هو نتائج لخبرة حدسية وعملية باللغة العربية.. رغم تشكي النفري من قصور اللغة.. ومن عجزها عن ان تقول.. (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة).. (وقال لي: لاتقف في رؤيتي حتى تخرج من الحرف والمحروف).. وقال: (لن تعرف من تسمع منه حتى يتعرف اليك بلا نطق).. ان الرؤيا خروج من اللغة وما تؤشر اليه.. والى ما لا يقال.. واذا ما قيل لم يعد هو هو.. هل يستطيع الاديب ان يخرج عن مفردات قاموسه الخاص به…؟ واذا استطاع ان يكتب بلغة الصوفية، هل يستطيع ان يهجر عالمه الخاص؟..
ويقطع العلائق عن متع الحياة..؟ وكيف يصرف الهواجس التي تدعوه الى المسرة على ترك اللذات..؟ وهل يعيش بعد حياته الصاخبة في فراغ وعزلة..؟ وكيف يستأصل هموم الدنيا وشواغلها..؟ لا شك ان اتخاذ مبدأ والكتابة عنه غير توظيف لغته.. وهذا ما جعل الكثير من الادباء وخاصة الشعراء من توظيف اللغة الصوفية، وتقمص شخصياتها.. ومن هؤلاء ادونيس وصلاح عبدالصبور والبياتي ويوسف القعيد وعادل عبدالله وحميد المختار.. وادونيس تأثر بالتوحيدي صاحب الاشارات الالهية.. وخاصة رسالة (يا) التي تتحدث عن الغربة والغريب.. وعبدالصبور كتب مسرحية وظف الكثير فيها عن الحلاج.. ويوسف القعيد اخذ الكثير من تراث الصوفية فلا تجد قصة من قصصه القصيرة تخلو من لغتهم.. وعبدالوهاب البياتي وظف الصوفية للثورية في دواوينه الاولى.. اما الاخير فالنفس الصوفي طاغ في اكثر قصائده.. بل هناك عبارات كاملة نقلها عن الجنيد ومنها: (وجهك في المرآة وجهان.. لا تكذب فان الله يراك في المرآة)، وقد سألته عندما زارنا في المكتبة الادبية.. عن نقل هذه العبارة كاملة من الجنيد.. قال كنت معجبا جدا بها.. اما الشاعر عادل عبدالله، فله اكثر من قصيدة وخاصة في ديوانه (بمناسبة وجودي حياً)، مكتوبة بالنفس الصوفي الفلسفي.. الا انه اسقط عليها الكثير من الاحداث المعاصرة.. ومن هذه القصائد: النفري، محي الدين بن عربي، مقام، رؤيا.. نتأمل هذا المقطع من قصيدة النفري: (لا تكن في مرية مما رأيت.. ولا تطع اسما دعاك.. فأن اطعت تكسرت مرآة نفسك في يديك)، فهو يتمسك بمبدأ اخلاقي لا يتنازل عنه.. ونقرأ في قصيدة محيي الدين هذه الابيات التي تشبه الدعاء.. (لبيك ربي ما ظننت به عليها كرة معصية كما ظنت بظني.. بل خوف ان تردى النفوس فلا يغاث مقرب ان صاح بالافى اغثني..)، ورغم ان حميد المختار عرف قاصا مبدعا منذ السبعينيات.. الا ان قصيدته، (ايها الملاك هذه ترانيم ارواحنا) المنشورة في صحيفة”الصباح “العدد (433) كشفت عن شعرية باذخة وذات نفس ولغة صوفية خالصة.. وقد كتبها في جمل قصيرة ومجزأة، تكاد تكون متساوية في الطول.. الا ان كل واحدة منها تحمل معنى خاصا بها.. يقول في الترنيمة الاولى: (واسفاه الظلمة طردتني عنك.. وفي جوارك ضيائي.. )، وفي السادسة يقول: (ما فقدت الرؤية اذا امتنعت.. ولكنني اصبحت على حافة لا يجدي معها الاحتراق..) وفي الرابع عشرة يقول: (اللهم امدد لي حبال التدلي.. فقلبي محاصر باقواس لا حدود لها.. لا شك ان الكثير من الادباء الذين تأثروا بالصوفية ولغتها لم يعيشوا اجواء الصوفية وخلواتها.. الا انهم عاشوا مع روح اللغة.. فلا مراء في ان اللغة هي الحقيقة الروحية المطلقة اذ لا روح بغير لغة.. ولا لغة بغير روح..
_____
المصدر : موقع جريدة الصباح
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=2996