عظيم العظماء ، نسخة مفردة لم ير الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لها لا قديما ولا حديثا .. هكذا وَصَفَ ( شبلي الشميل ) [1] الإمام علي بن ابي طالب ( كرم الله وجهه ) ، وما هو من الآدميين إلا بمقدار ما يسمون بمقياس الضمير والوجدان ، بل هو الضمير العملاق كما يصفه ( جورج جرداق )[2] ..
بمثل هذه الأوصاف تتكاثر العبارات والصيغ والإشارات لتعبر عن هالة العظمة التي كانت تحيط بهذا الإمام الأعظم كرم الله وجهه ، ولم لا وهو الأستاذ الثاني لمدرسة العلوم الروحية بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
الولادة والنشأة :
في بقعة أمّها الأنبياء والأولياء والصالحين على مدار العصور السنين ، في البيت الحرام ، ولد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب الحرام سنة ( 23 ) قبل الهجرة ، فدعي ( حيدرة ) أي الأسد الشجاع[3] .
الأب هو احد أشياخ البطحاء ، أبو طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب ، والأم شريفة الحسب فاطمة بنت أسد بن هاشم . وهي التي كانت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنزلة الأم من الولد ، إذ أحاطته برعايتها ، ولما توفيت ، كفنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقميصه ، وحفر قبرها بيديه الشريفتين ، وانزلها فيه ، وهو يقول : اللهم أغفر لأمي فاطمة بنت أسد [4] .
ما إن بلغ الرابعة من العمر حتى امتدت إليه يد الحبيب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليضمه إلى رحب حنانه ، وليتعهده بالتغذية الحسية والمعنوية ، وخير من يصف لنا هذه الفترة المهمة في حياة أي إنسان ، هو الإمام نفسه ، إذ يقول في أحد خطبه : « وقد تعلمون موضعي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصه . وضعني في حجره وأنا وليد ، يضمني إلى صدره ، ويكنفني فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه … ويرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به »[5].
هذه بداية الإمام مع الأب الروحي والمربي الكامل سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن هذه النسمات العطرة التي كان يتنشقها الإمام علي ملئ عقله وروحه اهتزت وربت كل معاني الحق والعدل والخير والفضيلة في نفسه ، وتجسدت في أقواله وأفعاله ، حتى قال ( كرم الله وجهه ) مخاطباً القوم الجاهلين : « فما وجد لي ( رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ) كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، وكنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه »[6].
بداية الإمام ( كرم الله وجهه ) مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اقتداء وإتباع ، ومكارم أخلاق ، وصدق في القول وإخلاص في العمل وما إلى ذلك .. إنها إرهاصات للمنهج التربوي الروحي ، وتمهيد لأصول التصوف الإسلامي ، وجدت طريقها بين يدي حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم والإمام علي ( كرم الله وجهه ) حتى قبل نزول الرسالة الخاتمة .
ولطالما جاور الإمام علي ( كرم الله وجهه ) بعد ذلك مع سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في خلواته ، وأوقات تبتله ، فكان ذلك الجو الروحاني الزكي مما اختصته العناية الإلهية به قبل غيره ، ودون غيره من جميع الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم .
وعلى هذه الخطى سار الإمام علي ( كرم الله وجهه ) مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مريدا له ، يخفق قلبه بحبه ، وينطق لسانه بما لقنه إياه من جوامع الكلم وبدائع الحكم ، حتى تنورت هذه الصحبة بنور الإسلام ، وتكاملت بالتشرب في حقائق الإيمان .
ملامح التخصص الروحي
إن تلمس الجوانب الروحية في حياة الإمام علي ( كرم الله وجهه ) لا يحتاج الباحث أو المتابع كبير عناء ، فمن خلال الطريقة التي كان يتعامل بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع الإمام علي ( كرم الله وجهه ) ، ومن خلال الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يبدو واضحاً وجلياً أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يمهد لخلافته الروحية وولايته الصوفية ، وذلك ليكون الأستاذ الروحي الثاني في مدرسة الوحي المحمدي بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيقوم بتزكية نفوس المسلمين وتربية قلوبهم على الزهد في الدنيا ، وتوجيه المحسنين إلى عبادة الأحرار ، لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار ، بل خالصة لله الواحد القهار .
كان الإمام عليٌّ ( كرم الله وجهه ) تارةً يبادر هو بالحصول على المعارف والعلوم والأحكام من الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتارةً يبادر حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه بذلك ؛ وفي ذلك قال الإمام عليٌّ كرم الله وجهه : « كنت إذا سألتُ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعطاني ، وإذا سكتُّ ابتدأني..»[7] .
وفي إشارة من الإمام كرم الله وجهه عن علامات السائر في طريق المعرفة الربانية ، قال حضرته : « إنَّ الله وهبَ لي لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً »[8] ، ونجد فيها تنبيهاً من الإمام إلى ثلاثة أمور :
الأول : علم الوهب ، وهو مطلب الأنبياء والأولياء في كل زمان .
الثاني : السؤال وهو منهج طلاب العلوم الوهبية والكسبية على السواء ، وهذا قريب من دعوة نبي الله موسى كرم الله وجهه حين قال : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي) ([9]) .
الثالث : أشار في قوله كرم الله وجهه : ( قلباً عقولا ) إلى مركز المعرفة الصوفية ، وهي القلب ، كما أشار إلى خاصية العقل في هذا القلب ، وهي الخاصية التي تستطيع أن تبسط ( تنظر ) ما يشهده القلب من الحقائق والعلوم الغيبية .
وقول الإمام : إن الله تعالى قد وهبه هذا اللسان وهذا القلب هو نص منه كرم الله وجهه على كمال معرفته بنفسه وبربه ، فمن لم يكن عارفا حق العرفان بنفسه وربه لا يستطيع أن يدرك المواهب الربانية في باطنه .
ولكي يمهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لولاية حضرة الإمام في قلوب الصحابة الكرام ، ومن بعدهم التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وجه الأنظار إليه في القضايا التعبدية والنواحي الإيمانية ، فقال حضرته صلى الله تعالى عليه وسلم : النظر إلى وجه علي عبادة [10] ، ولا شك أن في هذا النص النبوي الشريف حث للمسلمين على إدامة النظر لحضرة الإمام أو الإكثار منه ، وهو ما تعارف عليه فيما بعد بين الصوفية بمصطلح ( الرابطة الروحية ) وهي أن يحفظ المريد صورة شيخه في باله ، فهذا يساعده على التأدب في الطاعات والقربات من جهة ، ويحثه على الاقتداء والمتابعة من جهة ثانية ، وكذلك يجعله عرضه للاستفادة الروحية من النفحات الربانية والتجليات النورانية بسبب تلك الرابطة ، ولله در من أبان ذلك في قوله :
صورة شيخك إن انتقشت في البال
يكون لك ما يكون له من الأحوال
ومن توجيه الأنظار إلى منزلة الإمام علي ( كرم الله وجهه ) الروحية ما تواتر نقله عن ابن سعد أنه قال : قال النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ : (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) .
فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا ، فَقَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم : ( أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ) .
فَقِيلَ : هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ .
قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم : (فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ ) .
فَأُتِيَ بِهِ ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم فِي عَيْنَيْهِ ، وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟ ).
فَقَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم : (انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَو اللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ )[11] .
هذا الحديث الشريف كغيره من الأحاديث النبوية التي تجمع بين طياتها الكثير من التوجيهات والإشارات والعبر والمعاني ، وكأنها على بساطتها من حكم جوامع الكلم ، فمن ناحية، وجهت أنظار الناس وقلوبهم إلى مكانة الإمام علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) وأنه يحب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومحبوب منهما ، وأعظم بها من منزلة ، ومن ناحية ثانية وجهه على النزول بساحة أهل خيبر – وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم – على رسله ، أي عدم أخذهم بالقوة ودعوتهم إلى الإسلام ، وقال له : لئن يهدي الله بك رجلا ، ومعنى هذا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوجهه على واجبه الأساسي في هذه الحملة أو غيرها ، إنها الدعوة وهداية الناس إلى الصراط المستقيم ، وليس مجرد الانتصار العسكري ، فعلى الرغم من المزايا القتالية التي كان يتمتع بها حضرة الإمام كرم الله وجهه ، وبأسه الذي لا يشق له غبار في المعارك ، إلا أن واجبه الأساس ودوره الذي اختاره الله تعالى له ، هو ولاية الإرشاد وتربية المؤمنين الروحية ، بواسطة المحبة .
وهنا نود أن نشير إلى مسألة مهمة يؤكد عليها شيخنا الحاضر محمد المحمد الكسنزان ( قدس الله سره ) في هذا الحديث الشريف وهي مسألة اقتران راية الإسلام بصفة المحبة المتبادلة بين العبد والرب ، إذ يذهب شيخنا ( قدس الله سره ) إلى القول بأن الطريقة في أحد أوجهها هي التربية الروحية على المحبة ، ومعنى هذا أن هذه الراية تشير إلى استلام الإمام علي كرم الله وجهه ، لمنهج المحبة والدعوة والإرشاد في الإسلام . ولهذا يحملها أهل الطريقة في حلهم وترحالهم وكأنهم يقولون : نحن نسير تحت راية المحبة وفي ظلها ، أي راية الطريقة المحمدية الداعية إلى النزول بساحة المخالفين بالرفق والتسامح . وما يؤكد المعنى الذي ذهب إليه شيخنا الحديث الذي ذكره المناوي في فيض القدير عن عبد الله بن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : علي راية الهدى [12] ، والتأكيد ليس المراد هنا شخص الإمام علي ( كرم الله وجهه ) وإنما المنهج الروحي الداعي إلى هداية الخلق أجمعين .
___________________________
الهوامش :-
[1] – جورج جرداق – علي وحقوق الإنسان – ج1 ص 37 .
[2] – جورج جرداق – علي وحقوق الإنسان – ج1 ص 37 .
[3] – المحيط في اللغة – ج1ص210 .
[4] – أنظر : الامام علي اسد اله وقديسه – روكس بن زائد – دار الكتاب العربي – بيروت ط2 – 1979 – ص 25 .
[5] – الخطبة 192 ص 300 ، نهج البلاغة طبعة صبحي الصّالح .
[6] – نفس المصدر .
[7] – التاج الجامع للأصول – ج 3 ص 335، تاريخ الخلفاء السيوطي ص 170، الصواعق المحرقة ابن حجر ص 126 و 127.
[8] – الاتقان للسيوطي ج 4 ص 234.
[9] – طه : 25 – 27 .
[10] – المستدرك على الصحيحين للحاكم – (ج 10 / ص 486) .
[11] – صحيح البخاري – (ج 13 / ص 110) .
[12] – حلية الأولياء – ج1 ص34 .