باب العلوم الروحية ومفتاح السلاسل الصوفية
إن من أفضل ما يمكن أن يوضح دور الإمام علي ( كرم الله وجهه ) في افتتاح السلسلة الصوفية ، والمنهج الروحي الذي اختصه الله تعالى به ورسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم هو الحديث النبوي الشريف المروي عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما والذي قال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :{ أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب } [1] .
وهو حديث صريح وواضح في معناه الذي ينص على « تخصيص الإمام علي ( كرم الله وجهه ) بعلوم الحقائق والعرفان ، وأنه لا يصل واصل إليها إلا من بابه ، وإلا كان مدلول الحديث غير مطابق للواقع ، إذا حُمِلَ على مُطلق العِلم ، لأن علياً كرم الله وجهه لم ينفرد به وحده ، حتى يكون هو بابه ، بل شاركه جماعة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في رواية العلم (علم الظاهر ) ونقله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهم في ذلك كلهم أبواب للوصول إليه ، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خصَّ علياً كرم الله وجهه وحده بكونه الباب الموصل إلى مدينة العلم ، فكان صريحاً في تخصيصه رضي الله عنه بعلم الباطن ، الذي هو نتيجة العمل بالعلم الظاهر ، وهو العلم الحقيقي المقصود بالذات » [2] .
ولكي يؤكد حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم القصد الروحي في هذا الحديث الشريف ، قال في حديث آخر : { أنا مدينة الحكمة وعلي بابها } ، وفي رواية : { أنا دار الحكمة وعلي بابها } [3] .
والحكمة هنا كما يرى شيخنا واستاذنا حضرة السيد الشيخ الخليفة محمد المحمد الكسنزان ( قدس الله سره ) هي العلم اللدني الذي يصل إلى قلب العبد بصورة مباشرة من الحق سبحانه وتعالى ، وهذه الحكمة لها ينابيع من المعرفة والعلوم تجري من قلب العبد الملهم بها على لسانه ، فيعطيها في الوقت المناسب للشخص المناسب ، { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [4].
ومعنى الحديث كما ذكر صاحب فيض القدير شرح الجامع الصغير هو : إن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة فناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها .
وأيد هذا المعنى بذكره لجملة أحاديث شريفه تعضده في المعنى فقال : « عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسؤل عن علي كرم الله وجهه فقال : { قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً} .
وعنه أيضا :{ أنزل القرآن على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله بطن وظهر وأما علي فعنده منه علم الظاهر والباطن } [5] .
ولهذا ذهب أهل الطريقة أجمعهم إلى الإقرار بهذا المرتبة الاختصاصية لحضرة الإمام علي ( كرم الله وجهه ) ، وأجمعوا على أن جميع سلاسل الطرق الصوفية لا بد وأن يتصل سندها الروحي بحضرة الإمام ( كرم الله وجهه ) ومنه إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا أمر مُسلَّم به عند القوم ، وقد قالوا به ودعوا إليه إما تصريحاً وأما تلويحاً ، وربما يشيرون إليه ضمنا حين يتحدثون عن مكاشفاتهم أو ما يلهمهم الله تعالى من العلوم والمعارف الاختصاصية ، ومن ذلك :• قال سيد الطائفة الجنيد قدس الله سره ( صاحبنا في هذا الأمر بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه , ذلك امرؤ أعطى علماً لدنياً ) رواه أبو عبد الرحمن السلمي [6] .
وقد نقل أبو نصر السراج الطوسي في كتاب اللمع فقال : سمعت أحمد بن علي الوجيهي يقول : سمعت أبا علي الروزباري يقول : سمعت الجنيد قدس الله سره يقول : رضوان الله على أمير المؤمنين علي , لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة , ذلك امرؤ أعطي العلم اللدني , والعلم اللدني هو العلم الذي خص به الخضر عليه السلام قال الله تعالى : {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [7] .. [8] .
وكذلك نقل الشيخ الأكبر ابن عربي في الباب الثلاثين من فتوحاته عن الشيخ الجنيد البغدادي قدس سره أنه قال : لا يبلغ أحد درجة الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق , وذلك لأنهم يعلمون من الله ما لا يعلمه غيرهم , وهم أصحاب العلم الذي كان يقول فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يضرب بيده على صدره ويتنهد : { إن هاهنا علوماً جمة لو وجدت لها حملة ؟ } [9] .
يقول الشيخ محمد بن يحيى التادفي : « قال أستاذنا الشيخ عبد القادر قدس الله سره رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الظهر فقال لي : يا بني لم لا تتكلم , فقلت : يا أبتاه أنا رجل أعجمي كيف أتكلم على فصحاء بغداء فقال لي : افتح فاك , ففتحته فتفل فيه سبعاً , وقال تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فارتج عليّ , فرأيت علياً كرم الله وجهه; فقال : افتح فاك , ففتحته فتفل فيه ستاً , فقلت لم لا تكملها سبعاً , قال : أدباً مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم توارى عني فقلت : غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشترى بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع , وأنشد :
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ويحلو له مر المنايا ويعذبُ » [10] .
قال الحرالي : سلسلة أهل الطريق تنتهي من كل وجه من جهة المشايخ والمريدين إلى أهل البيت , فجهات طرق المشايخ ترجع عامتها إلى تاج العارفين أبي القاسم الجنيد قدس الله سره , وبداية أبي القاسم أخذها من خاله السري , والسري ائتم بمعروف ومعروف مولى سيدنا علي بن موسى الرضا وهو عن آبائه رضي الله تعالى عنهم فرجع الكل إلى علي كرم الله وجهه:{ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [11] [12] .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه , في الباب السادس من الفتوحات المكية في ذكر تجلي الهباء : فلم يكن أقرب إليه قبولاً من ذلك الهباء إلا حقيقة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم المسماة بالعقل , فكان مبتدأ العالم بأسره , وأول ظهوره في الوجود . فكان ظهوره من ذلك النور الإلهي , ومن الهباء , ومن الحقيقة الكلية , وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه , واقرب الناس إليه علي بن أبي طالب إمام العالم بأسره وسر الأنبياء أجمعين [13] .
قال الإمام ابن الفارض في تائيته مشيراً إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :
بعترته استغنت عن الرسل الورى وأصحابه والتابعين الأئمة
قال شارحها الفرغني بعد كلام : (..وإنما قدم ذكر العترة على ذكر الصحابة لأن علوم الحقيقة والطريقة ما ظهرت أولاً إلا بواسطتهم ونسبة الولاية والخرقة لا تتصل إلا بهم رضوان الله عليهم أجمعين ) [14].
قال القونوي في شرح التعرف لمذهب أهل التصوف : أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه , فكان رأس العارفين , وبجميع الأمة اتفاق على انه كانت لعلي رضي الله عنه أنفاس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وله أقاويل لم يقلها قبله أحد , ولا أتى بمثلها بعده أحد , إلى أن قال يوماً وهو قائم على المنبر : سلوني عما دون العرش , فإن فيما بين الجوانح علماً جماً . هذا لعاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في فمي , هذا ما زقني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زقاً زقاً , فوالذي نفسي بيده لو أذن للتوراة والإنجيل أن يتكلما لوضعت وسادة فأخبرت بما فيهما فتصدقاني على ذلك ( نقله صاحب فصل الخطاب وشواهد النبوة ) [15] .
الشيخ أحمد زروق : قال الشيوخ رضي الله عنهم في حق علي كرم الله وجهه : أنه أعطي العلم اللدني ولا تصح النسبة إلى الولاية التي هي منبه الولاية الحقيقية والمعارف الإلهية إلا من جهته وحقيقته فهو إمام الأولياء المحمديين كلهم , وأصلهم ومنشأ انتسابهم إلى الحضرة المحمدية , ومظهر نور الولاية الاحمدية حين انشق قمر النبوة والولاية المندرج أحدهما في الآخر , حيث غلب نور النبوة وختم ظهوره به صلى الله تعالى عليه وسلم الذي كان انشقاق القمر صورة لذلك الانشقاق , وهو باطنه وسره الظاهر بسبب ظهوره , فإن كان معنى لابد وان تظهر له صورة محسوسة , وهو أيضاً يعني علي بن أبي طالب ارفع عارف في الدنيا , من حيث ما خصه به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : { أنا مدينة العلم وعلي بابها } وهو علم الحقيقة , فكان كرم الله وجهه , بمنزلة الباب من المدينة , لا يخرج من المدينة شيء حتى يمر بالباب , فلهذا كان رضي الله عنه , له العلم التام , والكشف الحقيقي , وكشف معضلات الكلام العظيم , والكتاب القديم , الذي هو من اخص معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم بأوضح بيان , مع فضائل أخرى لا تحصى [16] .
الحافظ السيوطي في كتابه ( تأييد الحقيقة العلمية ) : حاكياً عن غيره كون علي عليه السلام هو أول من تكلم في هذا العلم وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه , ثم أخذه عنه أول الأقطاب سيدنا الحسن ولده [17] .
العارف أبو العباس احمد بن عجيبة في ( إيقاظ الهمم بشرح الحكم ) : أما واضع هذا العلم فهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم علمه الله إياه بالوحي والإلهام , فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة , فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة , فخص بها بعضاً دون بعض , وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه , وأخذ عنه الحسن البصري قدس الله سره الخ [18].
قال مولانا العربي الدرقاوي رضي الله عنه في رسائله ونصه : مولانا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو إمام الصوفية رضي الله عنه وعنهم وهو أكبرهم وهو قطبهم وقد نص على هذا من لا يحصى من أئمة الصوفية المتقدمين والمتأخرين [19].
الصديق الغماري فإنه كان من الأفراد , بل أوحد الأفراد , بل مدينة العلم ودار الحكمة , ولم يسمع هذا من غيره في زمانه إلا أبو هريرة رضي الله عنه , ذكر مثل هذا البخاري في صحيحه عنه : أنه قال : حملت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعائين , أما واحد فبثثته فيكم ، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم , فأبو هريرة ذكر انه حمله عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم , فكان فيه ناقلاً من غير ذوق , ولكنه علم لكونه سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . أي بخلاف علي عليه السلام , فانه كان حاملاً له عن ذوق , فلذلك كان إمام العارفين ومرجعهم دون غيره [20] .
____________________
الهوامش :
[1] – حديث صحيح الإسناد- المستدرك على الصحيحين للحاكم – (ج 10 / ص 442)
[2] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص75 .
[3] – سنن الترمذي – ج12 ص186 .
[4] – البقرة : 269 .
[5] – فيض القدير – (ج 3 / ص 60)
[6] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص62.
[7] – الكهف : 65 .
[8] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص62.
[9] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 59 , 64 .
[10] – الشيخ محمد بن يحيى التادفي – قلائد الجواهر ص 13 .
[11] – المجادلة : 22 .
[12] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 65 .
[13] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 59 , 64 .
[14] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 64 , 65 .
[15] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص62.
[16] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص62-63 .
[17] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 64
[18] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 64
[19] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 59 , 64 .
[20] – الشيخ أحمد الصديق الغماري – علي بن أبي طالب إمام العارفين أو البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي ص 59 , 64 .