شمخي جبر
هل يمكن ان نعزل الجسد عن محتواه او فحواه؟ حين نفعل هذا فكأننا أفرغناه من ثيمته، هذا الذي يحملنا ونحمله أنى سرنا، فنحمله تبعات هذه العلاقة، ونحتمل كل حماقاته. يسميه أبو العلاء المعري (محبس الروح)،اذ يصحح لمن يلقبه (ذو المحبسين) قائلا: بل ذو الثلاثة محابس (لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون الروح في الجسد الخبيث) وهنا اصبح لزاما ان لانغفل الروح حين نتناول موضوعة العلاقة بين الروح والجسد، فلانستطيع أن نفرق بين هذا الثنائي ؛نحن المهوسوون بالثنائيات ؛ بل عالمنا الرحب هو الذي فرض علينا هذا الهوس.
والتطرق لموضوع كهذا ليس بالضرورة أن يكون دينيا، لأن هذا السياق يلغي كل الحدود والرسوم، ولأن أهله لايبحثون عن هوية، اذ أن الهوية تخص المتجسد (الشيء) وقد تجردت منه القلوب حين تمت تخليتها فتحليتها فلامكان لاي تعلق فيها (او هكذا يدعون) وها قد تحررت من جميع الحجب (ظلمانيها ونوريها)او كادت واهم هذه الحجب هو العقل.
أهل الرياضات والمجاهدات الروحية وصلو الى نتيجة، الى ان من اهم الاشياء التي على السائرين في الطريق ان يتجاوزوها نحو السمو الروحي هو(الجسد) الذي يشكل كما يرون عبئا على الروح فيشدها الى التسافل نحو تلبية حاجاته واشباعها، وهي التي (نزلت اليك من المحل الارفع) كما يقول ابن سينا، ويجيب احد العارفين حين سئل عن اسباب ثقل الجسد حين مغادرة الروح له، اجاب: ان الجسد منشد ومنجذب الى اصله………. الى الأرض(هذا طينك يا الله)، وقصد هنا ان الميت تزداد جاذبية الارض له،اما الجسد وهو متضمن للروح فهو خفيف لأن الروح تسمو به.
وهنا يوصي السائرون في طريق المجاهدات والرياضات الروحية بالتجرد من التعلقات وخصوصا تعلقات الجسد وحاجاته، وفي طريق الغيب لابد من الغياب، غياب الجسد (جل مانحن فيه يا أهل ودي أنكم غيب ونحن حضور)؛ اخلع نعليك انك في الوادي المقدس…) (اخرج يدك من جيبك تخرج بيضاء من كل سوء).
ومدار التكامل الانساني يتجه صوب(خلق الله آدم على صورته وكما يقولون ان الانسان أكمل مجال الحق، لانه الكون الجامع لجميع حقائق الوجود، وهو العالم الاصغر الذي انعكست في مرآة وجوده كل كمالات العالم الاكبر (أتزعم أنك جرم صغير وفيك إنطوى العالم الأكبر)، ولا نجد أنفسنا الآن إلا ونحن في صدد نظرية تقدس الانسان وتعلي من شانه؛ هذا الكائن الذي اجتمعت فيه كمالات الوجود العقلي والروحي والمادي لاتفرق في ذلك بين أي من هذه المظاهر.
لكن بحث هذا الكائن وقلقه وتساؤلاته قادته الى ان يرى ان النفس لاتقوى الا بالفضائل الروحية وهذا لا يتم الا بالتجرد من سلطان القوى البدنية فكانت المجاهدات التي قادت الانسان الى رياضات الصيام وتقليل الطعام والنوم، وأحيانا الصيام عن الكلام(الصمت) وبذلك تخلص النفس الى عالم القدس، بل قيل(لايكون الانسان حكيما حتى يتخلص من العلائق البدنية الجسمانية ويتغلب على العوائق الردية الظلمانية)، ويصل الحال به (السائر في هذا الطريق) أن يقطع كل صلته بالناس ويخلع من نفسه سلطان البدن لذلك تخرج النفس من مبدئها الروحي(كما يقول السهروردي في هياكل النور) فتشرق عليها سوانح الانوار الالهية وتفيض عليها بوارق الآثار الربانية.
ويقول ابن سينا في هذا المجال لقد هبطت النفس الى هذا العالم وسكنت الجسد فلابد ان تحن وتضطرب وتخلع عنها سلطان البدن وتنسلخ عن الدنيا لتصعد الى العالم الأعلى وتعــرج الى المحل الارفع. حيث يعتبر البدن شـر، لانه (مـادي كثيـف) وتحررالانسان من شهوات البدن ليس عنده الا سعيا للنفس الى الفكاك من إسارها بعد أن غشيها البدن بكثافته. وهكذا يقول(ييتس 1865) (والآن لعلني أذوي وأصبح الحقيقة) حيث يعتبر المتصوفة فناء الجسد، حقيقة الحقائق.
وما يمارس على الجسد من مجاهدات ورياضات تفضي الى رقة القلب ورهافة الحواس، وكم قرأنا عن الرقص الصوفي،اذ من المتصوفة من يتراقص وجدا لسماع، او أية عذوبة وجمال، او يهتز وجدا عند سماعة آية من القران وقد يسقط مغشيا عليه بل قد يموت لساعته احيانا. وحسب كروتوفسكي (حين يكون المرء في حالة نفسية رفيعة يستعمل إشارات إيقاعية ويبدأ بالرقص)، هل وعاء الروح فاض لعدم اتساعه لما سكب فيه ؛ أم أن الجسد هو الذي أصبح أضيق من ان يحتضن الروح ؛ فماج واهتز (سكيني بكرم وتكول لاتسكر؟) ؛ أم يصل الى مرحلة لاأدري كيف قال عنها كروتوفسكي(يتلاشى الجسم، يحترق) هل يطفيء هذا الحريق الرقص او الشطح(تمنت سليمى ان نموت بحبها واسهل شيء عندنا ما تمنت)؛(سقوني وقالوا لاتغني ولو سقوا جبال حنين ما سقيت لغنت)؛ هكذا كان يتواجد الحلاج بل قل يرقص او قل يكاد يلفظ النفس الاخير؛ وكأني بيتس يخاطب الحلاج قائلا(هزه الفناء وأعاد إليه قلقه، وعند ذاك الفناء فقد عقله كله).وحين يتعامل كروتوفسكي مع الجسد فإنه يصل به الى مرحلة الفناء هذه، ابتداء من ترويضه وتطويعه الى مرحلة (يجب ان يكون الجسم خلوا من أية مقاومة) الى ان يصل الى القول(يجب ان يزول الجسم من الوجود)حيث يرى انه (يجب على المرء ان يفدي نفسه كليا وبطيب خاطر وثقة قصوى كما يفدي المرء نفسه عندما يحب، يفدي نفسه تماما وبتواضع وبغير احتراس) ويتساءل كروتوفسكي هنا، وقد يتساءل البعض معه (هل هذه شعوذة).لايتم الوصول الى هذه المرحلة من الفناء بسهولة بل (يجب ان ينمو عن التمارين نظام اشارات وهذه الاشارات بدورها تقود الى عملية تبرع بالنفس مذهلة يعجز عنها الوصف ((وهذ مااراد ان يصله الفريد جاري ؛ ولكن هذه المرة بالخمرة، إذ عمل على التخلص من تحكم الجسد من خلال الخمرة، نعم لقد ساعدته الخمرة ان يتخلص من نفسه لبعض الوقت، ولكنه لم يستطع ان يتخلص من عقله وشخصيته الواعية التي تكبح تمرده فمات في (1907) عن عمر يناهز ال(34عام).
ونرجع لنقول ان المجاهدات والرياضات التي سلطت على الجسد من اجل تحرير الروح من ربقته، هي حررت الجسد ايضا بعد ان تحولت السلطة منه الى الروح فاصبح طوع بنانها وتحت سلطتها، والروح التي رقت فاهتزت هزت معها الجسد فطرب لطربها ورقص بايعاز منها.
لقد تعامل المتصوفة مع السماع والرقص كوسيلة لترقيق القلوب والنفوس وترويض الأجساد، فكانت حلقات الذكر والسماع، وكان الرقص الصوفي، وبراءة الروح والجسد معا، ولم يكن المتصوفة يعتبرون الرقص الصوفي طقسا دينيا لانهم رفضوا الرسوم واهلها وغادروا التكليف بلا رجعة.
________
المصدر : موقع جريدة الصباح .
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=33361