حسن مظفر الرزو/ مدير المكتب الاستشاري العلمي كلية الحدباء الجامعة
الموصل / العراق
منحتنا اللغة العربية معان خصبة استوطنت في الجذر الثلاثي لكلمة “خيّل” لتدل على الحركة في تلوّن وتبدل. ولم يرد في القرآن الكريم اصطلاح الخيال، وإنما ورد بصيغة فعل التخيّل لبيان الحالة التي مرّ بها نبي الله موسى عندما اختبره الله تعالى عند معاينته لأفعال اللبس والإيهام التي مارسها أمامه سحرة فرعون، فقال تعالى في كتابه العزيز فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى (20: 66). فأزالت آثار النبوة اللبس الذي أثاره الخيال بعصي السحرة، وأشرق النور الإلهي فأحال الخيالات المتوهمة الى سراب ابتلعته عصاه .
ولقد ذهب الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الى أن للخيال درجة وجودية، وسلطاناً معرفياً يكاد أن يمتد ليشمل جميع العوالم، وعدّه عالماً وسيطاً تمتد مادته بين عالمي الغيب والشهادة. ولم يعد الخيال ضمن نسقه الصوفي ـ المعرفي تخيّلاً عابراً ينأى بصاحبه عن عالم الشهادة وحقائقها بل هو عبارة عن حالة وجودية تتشكل في حدودها كيانات يسري فيها سمات الوجود وحقائقه.
قال الشيخ الأكبر في فتوحاته :
لولا الخيال لكنا اليوم في عدم
ولا انقضى غرض فينا ولا وطر
لذا ليس بمستغرب أن يقول الشيخ الأكبر في الخيال أنه عين الكمال، لولاه ما فضّل الإنسان على سائر الحيوان، به جال وصال، وافتخر وطال، وبه قال ما قال. فله الشتات والجمع بين أضداد الصفات،حكم على المحال والواجب ، يخرق فيهما العادة ويلحقهما بعالم الشهادة فيجسدهما في عين الناظر، ويلحق الأّول في الحكم بالآخر، لا يثبت على حال، وله الثبوت على تقلب الأحوال .
ماهية الخيال
يعد الخيال من الأمور التي تثير جدالاً كبيراً عندما نحاول أن نتحدث عن ماهيته. وقد أدلى الشيخ الأكبر دلوه لبيان ما أشكل من مادة الخيال، فقسم الوجود الى أربعة مراتب:
المرتبة الأولى : مرتبة الوجود الذهني.
المرتبة الثانية : مرتبة الوجود العيني.
المرتبة الثالثة : مرتبة الوجود اللفظي
المرتبة الرابعة : مرتبة الوجود الخطي.
ووضع الخيال في مرتبة الوجود الذهني وجعلها بعيداً عن دائرة العلم ، بيد أن هذه المرتبة من الوجود تقتضي وجود معلوم يقبل التخيل عبر تركيب صوري لموجود تدركه الحواس، ولا تجد لها موطناً مع ما لا يقبل هذه الصفة، أو ينأى بنفسه عن دائرة الإدراك الحسي.
والعالم يتألف لدى الشيخ الأكبر من عالمين، ولكل عالم حضرة تناظره. فحضرة الغيب لها عالم الغيب والملكوت، وحضرة الحس والشهادة لها عالم الشهادة الذي يستوطن فيه ابن آدم. ويعد النظر مورد الإدراك في عالم الشهادة، بينما تنهض البصيرة بملكة الإدراك في عالم الغيب.
ويتولد عن هاتين الحضرتين، حضرة ثالثة ، برزخية، هي حضرة الخيال، وعالمها هو عالم الخيال الذي تسود الكثير من الأمور البرزخية، حيث تظهر المعاني في قوالب محسوسة. ففي هذه الحضرة تسري الرؤى التي نراها في مناماتنا، ويستحيل معنى العلم الى صورة اللبن، والثبات في الدين في صورة القيد، والموت في صورة كبش أملح . وقد عدّت هذه الحضرة من أوسع الحضرات، لأنها تجمع بين العالمين اللذين استوعبا الوجود في محيط دائرتهما (عالم الغيب، وعالم الشهادة).
وقد انعكست هذه الحقائق الفريدة على ماهية الخيال فأضحى يتميز بميزة وجودية معقدة، فهو لا موجود، ولا معدوم، ولا معلوم ، ولا مجهول، ولا منفيّ، ولا مثبت . يضاف الى ذلك فإن الخيال يجمع بين الأضداد، في نسق لا نكاد نجد لهما اجتماعاً في غير نسقه الفريد.
ففي المقام الأول يقبل الخيال بجمع الأضداد في مادته، بينما لا يقبل العقل والحس بالجمع بينهما في مشهده الوجودي. لذا يحفل الخيال بالأضداد، ويمنحها فرصة الوجود مع بعضها دون أن يثير وجودها خللاً في مضامينه المعرفية.
وفي المقام الثاني فإن للخيال سلطة وقوة تميزه عن غيره ، لأن له قوة تمنحه سلطاناً على جميع المعلومات، فيحكم عليها، ويجسّدها كما يشاء في إنشاءاته المتخيلة دون أن يقف أمامه مانع يمنعه عن ذلك. وفي نفس الوقت فإن الخيال ضعيف لأنه لا يستطيع أن ينقل سوى المحسوس الى دائرة المعاني، كذلك فإنه لا يستقل بنفسه، لأن حكمه لا يمكن أن يقوم إلا بين اثنين، بين متخيّل (اسم مفعول)، ومتخيّل (اسم فاعل) في آنية واحدة .
فلهذا كان الخيال واسعاً لقدرته على تصوير ما يستحيل على الدليل العقلي تصويره، وهو في نفس الوقت ضيّق لأنه ليس في وسعه أن يقبل من الأمور الحسية والمعنوية إلا بالصورة .
مورد الخيال
يستمد الخيال مادته من موارد الحس، فيشكل مادته إما على نمط صورة وردته عن مسالك الحواس، أو على صورة ما أعطاه الفكر بعد أن قام بتركيب المحسوسات بعضها على بعض ، فينشئ عنها صورة لم يكن لها وجود في عالم الحس .
وهنا تبرز أمامنا حقيقة أن الخيال لا ينشئ مادته إلا من الصور، التي قد يفلح العقل في إدراك صور الخيال، بينما لا يفلح الخيال في تصوير بعض ما يركبه العقل من صور عقلية مجردة ما لم تقارنها صورة حسية يمكن أن يستمد منها مادته المخيّلة .
والخيال خلق من خلق الله، وهو حق ، أما التخيّل فمنه حق ومنه باطل . فما أراك الله تعالى من المعاني التي جسّدها لك، وأراها إياك أشخاصاً قائمة، فكذلك يأتي الله تعالى بأعمال بني آدم مع كونها أعراضاً لصور قائمة، توضع في الموازين لإقامة القسط .
ورغم القدرات الخصبة التي يمتلكها الخيال فإن يبقى على الدوام فقيراً الى الحواس الموجودة في أجسادنا، فلا ينشئ مادته إلا مما يرد إليه من مسالكها المفتوحة الى الوجود الخارجي الذي صبّ بمؤثراته في جعبتها. كما أن القوة الحافظة إن لم تمسك على الخيال ما حصل عنده من إنشاءات متخيلة، لا يبقى في الخيال منها شيء. كما أن أي آفة قد تصيب القوة الحافظة تنعكس بجلاء على ملكة الخيال فيفوت عنها أمور كثيرة، لأن الخيال لا تسري عليه سلطة القوة المذكّرة .
مراتب الخيال
إن الخصوبة الفريدة التي عثر عليها الشيخ الأكبر في مادة الخيال، وعمق معالجته لمسائلها المتشعبة قد جعلت له مراتبية وجودية تتألف من أربعة مراتب:
المرتبة الأولى : الخيال المطلق : وهو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة ، ويقبل الخيال في هذه المرتبة الوجودية التشكّل في صور الكائنات كلها، على اختلاف مراتبها. وتسري أحكام هذه المرتبة الخيالية في العماء لما يتمتع من قدرات على التشكل في صور الكائنات.
المرتبة الثانية : الخيال المحقق : وهو خيال مطلق تقبّل صوراً للكائنات في العماء فتحقق بهذه الصور.
المرتبة الثالثة : الخيال المنفصل : وهو خيال يتمتع بحضرة ذاتية داخل حدود الحس. ويدرك بصورة منفصلة عن شخص المتخيل مثل تصوّر جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي.
المرتبة الرابعة : الخيال المتصل : وهو نتيجة للقوة المتخيلة التي يمتلكها ابن آدم، وله القدرة على صناعة صور تبقى ببقاء المتخيّل.
سلطان الخيال
يتضح مدى سلطان الخيال عند الشيخ الأكبر إذا علمنا أن الوجود لديه ينقسم الى شقين. وجود حقيقي هو الله، وجود خيالي يشمل جميع المخلوقات. قال الشيخ الأكبر في فصوص الحكم: فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية، وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة.
لذا أضحى الخيال لدى الشيخ الأكبر علم عالم الأجساد، وهو علم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسدة، وهو علم ما يراه النائم في منامه، وهو علم الصور المتخيلة.
ويتسع سلطان الخيال لدى الشيخ الأكبر وتمتد دائرته فإليه تعرج الحواس، وإليه تنزل المعاني، وهو لا يبرح موطنه، تجبى إليه ثمرات كل شيء.
ويسري حكم الخيال وسلطانه في الموجودات والمعدومات، من محال وغيره….
مقام الخيال
ذهب الشيخ الأكبر الى أن كل كشف يرد على قلب العبد، يطلعه الحق فيه على أمر من الخيال، فإن الكشف يأتي موافقاً لحال العبد في وقت ورود الكشف. فإن لم يتحقق للعبد علم راجح يستطيع أن يميز بواسطته بين الحق على ما هو عليه وبين ما يخيل إليه، فإن في هذا دليلاً على أن العبد موسويّ المقام .