الشيخ الحكيم الترمذي
الخشية من العلم بالله والخوف من المشاهدة , فالخشية ممزوجة والمشاهدة منصوصة , وذلك أن المشاهدة لقا العظمة .
فالخوف كل الخوف من العظمة والعلم بالله يؤديك إلى السلطان , وكما يؤديك إلى السلطان يؤديك إلى الرحمة , ويؤديك إلى الجلال , وكما يؤديك إلى الجلال يؤديك إلى الجمال , ويؤديك إلى العز والكبرياء .
وكما يؤديك إلى الكبرياء يؤديك إلى الكرم ويؤديك إلى الخطر العظيم من مكره والى هول المشيئة وكما يؤديك إلى ذلك يؤديك إلى الجود ويؤديك إلى الهيبة وكما يؤديك اليها يؤديك إلى المحبة والأنس فلذلك قلنا إن الخشية ممزوجة لأن الخشية من العلم بالله . وكذلك قال في تنزيله إنما يخشى الله من عباده العلماء ثم قال على أثره : إن الله عزيز غفور يعلمك أن العلماء بالله يخشون الله لعلمهم بالله أنه جليل فيخشون جلاله ثم يمازج الخشية علمهم بالله أنه عزيز غفور وذلك أن العزيز يأنف أن يخيب من يأمله أو يرد سائله أو يؤيس راجيه , والعزيز يعطي ولا يبالي من العطية ويعطي من يستحق ومن لا يستحق , وكذلك تجد في عبيده أوفرهم حظا من العز أجودهم يدا بالعطية وأقلهم مبالاة بما يعطي لعزه وعلوه وارتفاع قدره ويأنف من الشيء التافه أن يعطي ولذلك قال (يا موسى أن ثوابي على قدر عظمتي ) فقال في تنزيله في تلك الآية أن الخشية للعلماء ثم قال : إن الله عزيز غفور , أي إن العلماء بي إذا لا حظوا جلالي خشوني , فإذا لا حظوا عزي وفخزي ومجدي ورأفتي ورحمتي وسعة مغفرتي , وفسيح رجائي وعفوي دخلت الخشية ممازجة علمهم بهذه الأشياء فخفت الخشية .
وأما الخوف فمن المشاهدة , فإذا شاهدوا العظمة ذهبت هذه العلوم ووقعوا في بحرالعظمة فمثلهم كمثل رجل كان في أنهار فقطع تلك الأنهار إلى البحر , فهو في تلك الأنهار على اختلاف الأحوال من الأنس والوحشة فإذا وقع في مشقة البحر ذهب علم الأنهار وأخذه هول البحر فالأنهار شعب البحر , فراكب الأنهار كلما تجللته وحشة من شعبة من هذه الأنهار آنسته آخرى , فإذا صار إلى البحر طم هول البحر على الجميع وذهب الأنس والوحشة وصارت كلها أهوالا , لأن الأنهار نهر منا لين ساكن , ونهر خرار ينصب من الصخور والأحجار , ( فتراه يستن ) ويجري ( وثبانا واستنانا ) فصاحبه في وحشة منه وخوف , فإذا وقع في نهر لين ساكن اطمأن وسكن وأنس به , فإذا صار إلى البحر هاله , وأخذ بمجامع قلبه , وصار معلق القلب , فكذلك صاحب الخوف معلق القلب بمشيئته لأنه في بحر العظمة وهول المشيئة ماذا يخرج من عظمته وماذا يبرز من مشيئته فصاحب الخشية منبسط متجمل وصاحب الخوف منقبض وسط الخوف , فالخشية تحول بينه وبين المعاصي وحركاتها في الباطن قائمة وتطلع برؤوسها أعني تلك الشهوات والخوف ييبس ورطوبة الشهوات , وحياة النفس في الباطن , فبيبس الشهوات تصير النفس خاشعة كأنها لبدة خلقة ملقاة لا تكاد تفيق .
فالخوف للرسل والأنبياء , والخشية للصديقين , ومثل العامة المستورين في الخشية كمثل رجل دخل مرجا له طول وعرض على شاطئ واد , فقد علم يقينا أن فيه أسدا , فهو يسير في ذلك المرج عرضا وطولا مع الأمن وربما اعتراه خوف قليل إذا ذكر أنه منه بعيد , وإذا وجد خبر البعد اطمأنت النفس , فتخطى في المرج يمينا وشمالا في حوائجه على طمأنينة النفس وأنسه بتلك الحوائج فإذا وقع على أثر طري من آثار مخالبه في ذلك المرج , هاجت منه خشية تحول بينه وبين التخطي يمينا وشمالا , ولكنه يعود إلى طريق العام المسلوك , فإذا عاود الطريق أمن وخفت تلك الخشية لعلمه بأنه لا يخرج إلى الطريق العام إلا القليل وأنه أكثر ما يكون في مواطنه المعلومة , وقلما يخرج إلى الطريق وإذا خرج إلى الطريق قلما يؤذي إلا أن يتعرض له , فهذا لما رأى أثره الطري هاجت منه الخشية فترك الجولان هنالك وعاود الطريق فلزمه سلوكا واطمأنت نفسه , فإذا سلك السبيل فاستقبله الأسد ووقف له فقد جاءت المشاهدة , فهذا الخوف كائن ها هنا لأنه وقف على طريقه , فمثل صاحب الخشية كمن رأى مخالب الأسد على الطريق , ومثل الخائف كمن شاهد الأسد ولقيه واقفا له على الطريق وهو قوله : إن ربك لبالمرصاد .