(من القرن الثالث إلى القرن السابع الهجريّين)
آمنة بلّعلى
معارضة النموذج وأداءاتها
لا شكّ أن مبدأ المحاكاة في دراسة العلائقية النّصية هو اعتراف بالنموذج الذي يؤسّس للكتابة. والحديث عن النموذج يقودنا إلى الحديث عن قدرة الصياغة على غرار ذلك النموذج، ليس على مستوى المعاني والموضوعات التي مناطها المدلولات، وإنما على مستوى الدّوال الذي اهتم به العرب، وأطلقوا عليه مصطلح المعارضات، وهي نوع من المحاكاة في الأسلوب، حيث يقف المعارض “من صاحبه موقف المقلّد المعجب أو المعترف ببراعته، ومناط المعارضة هو الجانب الفني وحسن الأداء وليس التسابّ، ولا يلزم أن يكون المتعارضان متعاصرين، بخلاف المناقضة في ذلك”(1)، فهي كما نرى أوسع من ذلك المفهوم الذي ارتبط بالمعارضة الشعرية، واشتراط التشابه في الوزن والقافية وحرف الرّوي، بل تتجاوزها إلى سلوك محاكاة أسلوبية لنص ذي طبيعة معينة مثل الحب الدنيوي لتطبيقه على موضوع الحب الإلهي، ونلتقي في هذا المنحى مع مفهوم جيرار جنيت Pastishe التي تعد من بين أهمّ أنواع التعلق النّصي hypertextualité ، وعرّفها على أنها محاكاة باعتبارها ممارسة أجناسية générique أو نسيجاً من المحاكاة المختلفة”(2)، فتتجسد على مستوى الأسلوب خاصّة.
وكما كان النّص القرآني فضاء للتحويل والمحاكاة الذي أنتج أفكاراً ورؤى كوّنت جوهر الفلسفة الصّوفية، فقد كانت بعض النّصوص الأخرى الإطار الذي مورست فيه تلك الأفكار والرؤى، وتعدّى ذلك إلى محاولة خلق علاقة جمالية مع بعض الأشكال التعبيرية كالشعر والحديث القدسي بمعارضتها، فأكدوا أن التّصوف التجربة والفلسفة يمكن أن تستوعبه كلّ أشكال التعبير الممكنة، وأنه كذلك تجربة في الكتابة وتواصل إبداعي يمتلك تفاعلاً كامناً، ويعكس تجربة تأثرية موجهة وفق العوامل النّصية التي ازدهر بفضلها هذا الشكل أو ذاك. فوقفنا عند رصيد هائل من أشكال التعبير استغل فيه المتصوفة أساليب الخطب والرّسائل والشعر وغيرها، مما لا يسمح المجال بالتعرض إليها جميعها، لذلك سنكتفي بالنصوص الصوفية التي تحقق فيها استيعاب تلك الأشكال بشكل لافت، وسنقف عند مخاطبات النفري في تفاعلها بالحديث القدسي، وعند نماذج من الشعر الصوفي الذي تحققت معارضته أهم أغراض الشعر العربي كالغزل والطلل والخمرة.
لقد حقّق الخطاب الصّوفي تفاعلات وتعلّقات عدّة وبمستويات مختلفة بالقرآن الكريم، وأسهم هذا التحقق في إنتاج أشكال تعبيرية أسهمت بدورها في تشكيل الظاهرة السّردية الصّوفية مثل الكرامة وقصة المعراج، وحاول المتصوفة التعامل مع أكثر النّصوص القرآنية تحفيزاً تبعاً لخلفيات التفاعل الفكرية. ولقد أقام النفري في مواقفه ومخاطباته علاقة خاصة مع القرآن تسعى من خلالها إلى إعادة قراءة معظم المفاهيم التي تحدّد العلاقة بين العبد والله، فنتج عن ذلك نظرية معرفية متميزة في تاريخ التصوف.
وإذا كان النّص المتعلّق يسعى في بعض علاقاته بالنص السّابق إلى تقليده، فإن بنية نصوص النّفري تشتغل ضمن فضاء نص الحديث القدسي واستيعاب بنيته وجعله نموذجاً قابلاً للاحتذاء، ويتجسّد على عدّة مستويات أهمها:
فاعل البيان
من منطلق الإرث الذي يحوزه الصّوفي بعد الوصول إلى مرحلة المعرفة، الذي يعطيه الحق في مخاطبة الله إياه، ينطلق النّفري من أهم وحدة في الحديث القدسي، وهي عبدي، وإن كان استعمالها قليلاً في الحديث القدسي مقارنة بـ “ابن آدم” مثلاً، فإن فيها ما يعلن عن إقرار من فاعل البيان الذي هو الله بتوفر أهم شرط في العلاقة به، ألا وهي العبودية. وحين يتم التمثل بهذه الصّفة يكون فعل التخاطب نتيجة طبيعية لفعل الإذعان المرتبط بمفهوم العبودية، وعوض أن يكون اتجاه الحركة نحو الأعلى كأن يتجلى في طلب أو دعاء تجسيداً لعبودية العبد، نجد الحركة تتّجه من الله إلى العبد، ويبدو الأمر كما في الحديث القدسي سلسلة من الأوامر والنواهي التي تلخّص قوانين العبودية ذاتها فيتّسم الخطاب بالسّلطة الآمرة، وبالدرجة نفسها التي نجدها في الحديث القدسي، ويعيد السّند فيه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن ربّه مباشرة، أو بالواسطة الإسنادية المتمثلة في جبريل، ممّا يفترض اختلافاً بين الحديث القدسي ومواقف ومخاطبات النّفري التي تنتفي فيها الواسطة الإسنادية، حيث تبدأ كلّها بـ “يا عبد” في المخاطبات، ويحيل السّارد (النفري) في المواقف إلى نفسه بقوله أوقفني وقال لي.
وإذا كانت فاعلية نص الحديث القدسي الخطابية تكتسي أهميتها من هذه الواسطة الإسنادية التي يذكر فيها الله مباشرة، بصيغة “قال الله تعالى”، أو من خلال قول الرّسول عن الله، وبالتالي يجسّد صحة الإسناد صدق الرّواية وقوة الخطاب الكلامية، فقد كان على النفري في مواقفه ومخاطباته التي لا تؤسس قوّتها على صحة السند، أن تجسّد العناصر الأساسية اللاّزمة التي تقوم عليها القوة الكلامية في خطابه، وهو افتراض غير مغالى فيه إذا ما تذكرنا حمولة تلك النّصوص الإنجازية التي تجلّت من خلال نظرية كاملة في المعرفة، أشرنا إليها في الفصل الثاني وجسّدها من خلال استراتيجية سردية حملتها تلك الحركية الخطابية التي لاحظناها في الفصل الثالث.
يستعير النفري فاعل البيان، ويحاول تثمين هذه الإحالة من خلال الكون الخيالي الذي أحاط به خطابه، من حيث تلك الفضاءات التي وضع فيها نفسه كفاعل للتلقي، وكأنه يجسّد فيها سيرورة”كن” الإلهية، وهو الأمر الذي لا نجد له أثراً في الأحاديث القدسية، ممّا يعني أن المعارضة قد تتجاوز النّص المقتدى به بإضافة أو تغيير في عناصره الأساسية، وكذلك من حيث الاسترسال الخطابي الذي يعبّر على أن النّفري جعل من الحديث القدسي الوحدة النواة التي تُبنى عليها خطاباته، وإنّ صدق الرّوايات التي وردت عن الله في الحديث القدسي، والتي وسمته بالقصر والتركيز، عوضته مجازية المكان والزمان وطبيعة التوازن الخطابي القائم في اللّفظ والتركيب وفي الدلالة، كدليل واضح على شعرية الرّسالة وتلاشي الوظيفة الإخبارية القائمة على التبليغ في الحديث القدسي لحساب شعرية الفكر في نصوص النّفري.
من هذه النّقطة بالذّات تحمل المواقف والمخاطبات تعارضاً جمالياً ومعرفياً قائماً في صميم خطاب فاعل البيان –الله المتخيَّل- وهو ليس بالأمر المستغرب ما دام الدّين برُمّته أصبح يدرك ويعاش على نحو مختلف عند النّفري الذي لا شك أنه يعرض فهمه القائم على تأويل كثير من الآيات والمفاهيم القرآنية، لعلّ أهمّها تلك المكانة التي يمنحها للمتصوف الذي يرقى في المعرفة، وكان جديراً لكي يورّث المخاطبة وتلقي العلم من الله دون واسطة، وهي الفكرة المحور والهدف التي تقوم عليها المواقف والمخاطبات.
لذا بدا المخاطب (النفري) صامتاً يستمع ولا يتكلّم، لأنّ الله قال له: “وقال لي أنت من أهل ما لا تتكلّم فيه، وإن تكلمت فيه خرجت من المقام، وإذا خرجت من المقام فلست من أهله”(3).
ومن هنا ندرك الفرق بين وجود الرسول في الحديث القدسي، باعتباره واسطة سردية خارجاً عن الحدث الكلامي ما دام موجّهاً من خلاله إلى ابن آدم، وبين وجود المتلقّي في المواقف والمخاطبات، الذي يعيش التجربة في الوقت الذي تتزامن فيه مع روايتها، فهو في قلب الحدث يتلقّى وينقل في آن واحد، يتلقّى معرفة أسرار خلق الله، وأسرار ملكوته في السماء والأرض من قلبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
وسواء كانت المواقف والمخاطبات مواقف وجودية حقّة، أو خواطر أوجدها التصوّر، أو وارد حلّ بالنفري، فإنّه يجسّد بها ما قصد إليه الحديث القدسي الذي كان هدفه التقريب بين العبد والله، بل تجاوز ذلك إلى الحديث عن لحظات القرب تلك، حين يفنى العبد عن السِّوى، ويتلاشى كلّ شيء من ساحته فيصير لله حبيباً، وتصير المخاطبة هي موضوع الخطاب.
لذلك يمكن الحديث عن تمطيط موضوعي للحديث القدسي، فجاء يجسّد ما وعد به الله عبده حين قال: ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيـنّه، وإن استعــاذنـي لأعيذنـّــه (4).
بين التلقي السابق لزمن السرد قليلاً في المواقف والمزامن له في المخاطبات، وبين التلقي الذي يجعل من الرسول في الحديث القدسي مرسلاً لمتلق آخر هو جمهور المسلمين. يبرز المنحى التداولي في كلا النّصين، حيث تتسع دائرته في الحديث القدسي، فبرز الجانب التعليمي التربوي، وبدت بعض الأحاديث تؤدّي دوراً تذكيرياً بكيفية الخلق وفضائل الله على عبده، وذكر بعض المواعظ من خلال قصص الأنبياء والرسل، وكلّها استعملها الرسول كحجج إخبارية تهدف إلى جعل ما يروى عن الله يصدّق ويحفظ ويعمل به، في حين يبدو صاحب المواقف والمخاطبات مستوعباً أسرار الخلق عمل بما أمر به الله، لذلك بدا في وضع يتجاوز فيه وضع المؤمن العادي الذي وجّهت إليه مضامين الأحاديث القدسية تلك.
إنّ اختلاف صورة أداء الخطاب في كلّ من الحديث القدسي، ونصوص النّفري يبيّن طبيعة فاعل البيان في كلّ منهما، ففي حين تكفّل الرسول بالرواية عن ربّه، سواء بطريقة مباشرة توحي بنقله، كما ورد إليه وتعيّنها صيغة إسناد الخطاب إلى الله مباشرة، أو رواية المعنى بإيراده بلفظه هو، أو التصرّف فيه بالتقديم والتأخير، أو التدخّل بالشرح.
فنقف عند نصّ يتطابق فيه حجمه بحدث القول فيه، نجد النفري يحيل إلى الله المفترض مباشرة، ويعكس التواتر والمعاودة التي اعتمدها في الإسناد بقوله: وقال لي: أو يا عبد، تحولات في المعنى، وتحولات معرفية، هي مقصدية المعارضة ذاتها، وهي علاقة إضافة لا يتوقّف بها النفري عند مفهوم العبودية الذي يختزل في إقامة فرائض والعمل بأوامر الله ونواهيه، بل يراها معرفة تتجلّى في حوار بين الله والإنسان، “وإنّ قرب الله من الإنسان هو شاهد معرفة الإنسان لله”(5).
ولذلك نلاحظ تحوّل السّارد الذي كان في الحديث القدسي واسطة لنقل خطاب الله لابن آدم، إلى متلقٍ يختزل ابن آدم، ويصبح كلّ الخطاب موجهاً له، وكان لا بدّ لهذا التحويل التداولي أن يحدث تحويلاً في الصيغة الداخلية للخطاب، اعتمد فيها النفري على الإمساك بالجمل المفاتيح في الحديث القدسي، وتفريعها وجعلها تتناسل إلى الحدّ الذي تشكّل فيه بذلك التوالد والتفريع كوناً رمزياً تخيلياً يوازي تجربة العارف في وقفته أمام الله، ومن آليات ذلك التشكيل صيغ النداء والتقابل بالتضاد، والإثبات والنفي، وجملة الشرط. وهي إن لم تكن خاصّة بالحديث القدسي، فإنّ تواترها في النّصين يكشف عن صيغ للتفاعل الذي يعدّ أساس فعل المعارضة.
لقد جرّب المتصوفة كلّ آليات التفاعل النصّي، واستعانوا بمعظم الأشكال التعبيرية، غير أنّ الشعر كان الفضاء الرحب الذي استطاعوا فيه اختزال كلّ تلك الآليات، ولا يمرّ بيت من الشعر الصوفي إلا ونقرأ فيه اقتباساً أو إيحاء بنصّ سابق، أو تحولات كمية بتمطيط نصّ أو اختصاره أو معارضته. وإنّ اتساع دائرة التفاعل مع الشعر تستغرق الإحاطة بها فضاء أكثر ممّا مرّ من البحث، فإنّنا نعتمد، وتبعاً للغرض المنهجي الذي يسيّر البحث، على أهمّ الظواهر المجسّدة لعملية التفاعل، على الرغم من أنّ متصوّفة القرن الثالث لم يكونوا شعراء بالمفهوم المتعارف عليه، فإنّه أمكننا ملاحظة التأثير الذي مارسه شعراء آخرون عليهم، فكتبوا مقطوعات من وحي ذلك التأثير، وخاصة الحلاج، الذي أشار ماسنيون في تعليقات عن شعره إلى بعض مظاهر التشابه فيها مع غيره من الشعراء كبشّار بن برد وأبي نواس، وأبي العتاهية(6). هذا فضلاً عن نسبة كثير من المقطوعات الشعرية إليهم، وهذا وإن لم يندرج ضمن التفاعل النصّي، فإنّه يجعلنا نُخَمِّن في طبيعة التحويلات (محاكاة ومعارضة) التي كان يمارسها المتصوّفة ضمن التراث الشعري، حتّى وهم ينطقون من داخل التجربة، وقد أصبحت هذه التحويلات في وقت لاحق مع ابن عربي وابن الفارض واقعاً ملموساً من خلال علاقة الشعر الصوفي بشعر الخمر والغزل.
ولقد أشار عدنان العوادي في حديثه عن شعر الحلاج إلى تأثره بأبي نواس، والحسين بن الضحاك، بإيراد نصين لهما، وسنرى من خلال مقارنة بسيطة بنصّين للحلاج طبيعة التحويل الممارس. يقول أبو نواس:
يا عاقد القلب منّي
هلا تذكّرت حلا
تركت منّي قليلا
من القليل أقلا
يكاد لا يتجزأ
أقلّ في اللفظ من لا(7)
وعن الحسين بن الضحاك قوله:
إنّ من لا أرى وليس من يراني
نصب عيني ممثل بالأماني
بأبي من ضميره وضميري
أبداً بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان، إن نظرت وروحا
ن إذا ما اختبرت يمتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أو همّ
بشيء، بدأته وبداني
كان وفقاً ما كان منّي ومنه
فكأنّي حكيته وحكاني
خطرات الجفون منّا سواء
وسواء تحرك الأبدان(8)
أمّا الحلاج فقد ورد فيما يتفاعل فيه مع أبي نواس قوله:
إذا هجرت فمن لي؟
ومن يجمّل كلّي
ومن لروحي وراحي،
يا أكثري وأقلّي
أحبّك البعض منّي
وقد ذهبت بكلّي
يا كلّ كلّي، فكن لي
إن لم تكن لي، فمن لي؟
يا كلّ كلّي وأهلي
عند انقطاعي وذلّي
ما لي سوى الروح خذها
والروح جهد المقلّ(9)
ويقول فيما له علاقة بقول ابن الضحاك:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
نحن، مذ كنّا على عهد الهوى،
تضرب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا،
لو ترانا لم تفرّق بيننا
روحه روحي وروحي روحه
من رأى روحين حلاّ بدنا؟(10)
وعلى الرغم من أنّ العلاقة بين نصي أبي نواس والحلاج لا تؤكد تحويلاً واضحاً على مستوى الأسلوب، فإنها تنبئ عن العلاقة في الموضوع، حيث تم تحويل وصف المعاناة في الحبّ الإنساني المؤسس على الانفصال بين المحب والمحبوب. نحو موضوع قائم على الاتصال بينهما هو ما عبّر عنه بالحلول. ومن ثم اعتبار نصوص الحلاج نقطة تحول أساسية في موضوع الحب الصوفي وهو الأمر الذي نجده يتداول بعده بأساليب مختلفة مثل قول ابن الفارض:
أخذتم فؤادي، وهو بعضي، فما الذي
يضرّكم لو كان عندكم الكلّ(11)
إن مقصديه تغيير الرأي، باصطلاح محمد مفتاح([12])، كانت وراء تحويل موضوع الحب كما لاحظنا في نصّي الحلاج وأبي نواس، لكن في نصّي ابن الضحاك والحلاج تتأكد مقصدية التثبيت، حيث نلاحظ محاكاة الموضوع في النصين، بؤرته هي امتزاج الروحين، عكستها المعارضة الأسلوبية على مستوى الصياغة.
لقد كانت المحاكاة أداة لممارسة فعل المعارضة، ولأن أثر فعل الحب في نفس كلا الشاعرين واحد لم يجد الثاني (الحلاج) إلا الصوغ على المنوال نفسه الذي حمل ذلك الأثر. وهي طريقة حملت المتأخرين كابن عربي على إعلان التباري غاية لتجسيد المعارضة، حتى وإن لم يكن هناك ما يبرر ذلك التباري من الناحية الدلالية.
ولقد ذكر عبد الحفيظ فرغلي أن كتاب محاضرة الأبرار لابن عربي قائم كلّه على إعادة صياغة أبيات أعجب بها، أو ممارسة تحولات كمية على بعض منها. وأورد بعض الأمثلة التي جعلتنا نعتقد أن المعارضة الواردة فيها أصبحت تعبر عند ابن عربي عن ترف فني في الكتابة، كما تعكس التفاعل المفتوح الذي مارسه النّص الصوفي، والذي لم يكتفِ فيه المتصوفة بما يمكن أن يكون أداة لإبراز دلالة صوفية فحسب، بل تعدَّوا ذلك إلى استنساخ أهم وأخطر الأغراض الشعرية العريقة في الثقافة الرسمية، وهو الغزل والخمريات، ليكون ذلك دليلاً صارخاً على التصالح بين التصوّف والثقافة المركزية، كما عند ابن الفارض وابن عربي.
يحيلنا عبد الحفيظ فرغلي إلى كثير من النماذج التي استقاها من كتاب محاضرة الأبرار لابن عربي نورد منها للتمثيل ما يلي:
يقول ابن عربي:
1-ومن جيّد الشعر ما قال القائل:
لئن ساءني أن نلتني بإساءة
لقد سرني أنّي خطرت ببالكا
وأحسن منه لو قال ما قلنا:
لئن سرني أن نلتني بمساءة
فما كان إلا أن خطرت ببالكا
2-ومن أحسن الشعر ما قال الآخر في باب الشكوى:
فالليل إن وصلت كالليل إن هجرت
أشكو من الطول ما أشكو من القصر
وأحسن منه ما قلنا:
شغلي بها وصلت بالليل أو هجرت
فما أبالي أطال الليل أم قصرا
3-وذكر أنه أعجبه قول ابن شبل في وقت وصف الربيع:
عرائس الأرض تجلى في غلائلها
وفي حليّ عليها صاغها الدّيم
تستل في حلل الأنوار مذهبة
في كلّ حاشية من نسجها علم
درّ من الأقحوان الغض زيّنه
حمر اليواقيت في المنثور ينتظم
كأنما بالسماء الأرض شامته
تبكي السماء وثغر الأرض يتبسم
فقال ابن عربي:
أما ترى الروضة الغناء تضحك إذ
جاءت على الأرض بالأزهار أنواء
تبسم الأرض إذ تبكي السماء فهل
بين السماء وبين الأرض شحناء؟
لا والذي بضروب الزهر أضحكها
ما ثم شحناء لكن ثم أشياء
إن السماء تقول الزهر من زهري
والأرض تأبى الذي قالته والماء(13)
نلاحظ كيف أصبح النّص الشعري مكوناً لدائرة من الفعل، قد تضيق أو تتسع بحسب طبيعة العلاقة التفاعلية التي تربطه بغيره من النصوص، كأن تكون نفياً كلياً يعمد فيه إلى قلب المعنى الأصلي بمعنى آخر يناقضه، وقد يحافظ عليه ويمنح له بعداً جديداً يسهم في إخضاع وحداته الدلالية لنظام دلالي مخالف للنظام السابق، كارتباط العشق بالله والعبادة بعدما كان يندرج ضمن نظام مخالف هو سياق الحب الإنساني حسيّاً كان أو عفيفاً، وتغيّر النظام الدلالي الذي ترد فيه الخمرة، فترتبط بالعبادة وعدم التحريم، كما سنرى فيما بعد.
وقد يكون النظام الأسلوبي ذاته هو المستهدف، بهدف إثبات القدرة على محاكاة النموذج، ولنا في الأمثلة السابقة مثال، حيث اعتمد أبسط الآليات في المعارضة، كما في البيت الأول باستبداله ساءني بسرّني، وتفضيله مساءة على إساءة، وفي حين تكون عبارة خطرت ببالك في البيت مبرراً تالياً لنسيان الإساءة التي ساءته، فإنها عند ابن عربي مبرر سابق لم يحدث إلا السرور بما ناله من إساءة، وكأنه يعارض الأول في أن يكون السرور، بأن يخطر بباله آخر ما يفكر فيه. إنه بهذه الطريقة يفسّر منطق طبيعة الأثر الذي يحدث حينما يخطئ المرء منطق السبب والنتيجة. وهي الطريقة نفسها تقريباً في البيت الثاني، حيث استنبط من شكوى طول الليل وقصره بشغل صاحبه بحبيبته، لذلك ركز عليه بالبدء به لأن الاشتغال بالحبيبة أولى من الاشتغال بطول الليل وقصره.
أمّا في الأبيات الأخريات فإن راعى الشاعر الأول منظر الربيع، فذهب يصف مظاهر ذلك الجمال في الأرض، وانتهى باختزاله في ابتسام الأرض وبكاء السماء، فإن ابن عربي ذهب بعيداً في تعليل تلك الصورة بطريقة طريفة تعكسها طرافة التقابل بين الأرض المبتسمة الضاحكة والسماء الباكية وبين الإقرار بالفضل من السماء وعدم اعتراف الأرض. وتبرز المفارقة كآلية من آليات المعارضة التي ارتآها ابن عربي وتجسد مواطن الحسن في أبياته التي تفوق ما اعترف به من جودة وحسن أشعار الآخرين.
إنّها ردود أفعال مبرّرة لتلقي ابن عربي الجمالي لهذه النصوص من خلال تحويل الفعالية الفنية للرسالة بحسب ما يرغب فيه كقارئ، يتلخّص في كون المنطق الأكثر تعبيراً عن الجودة هو منطق العلة والسبب وليس النتيجة.
ولمّا كانت المعارضة ممارسة نلمسها ضمن الجنس أو النوع الواحد، وجدنا كثيراً ممن تعرضوا للشعر الصوفي يبرّرون التفاعل الحاصل بين الغزل والخمرة والتصوّف بالتحوّل الطبيعي، هو نفسه التوالد الذي يحدث من الأصل إلى الفرع، فيلاحظ علي الخطيب أنّ الشعر الصوفي كان “تحولاً للشعر الديني والغزل العذري المتصوف الهائم في مسارج الجمال الروحي، وكان قسم منه تصعيداً لشعر الخمريات العربي”(14). هل هذا يعني أن المتصوفة لم يكن لهم وعي لغوي ممركز في كتابه الشعر؟ حيث كان الصوفي يدور بين الأشكال والأغراض الشعرية بحثاً عن مادته، لينتزع منها دون عناء طرائقها في التعبير، ولم يعد الحديث سوى عن عملية استبدالية يقوم بها القارئ فيستحضر السياق الخارجي لتعيين الموضوع الصوفي في نص الغزل أو الخمرة، وربما هذا ما حدا بزكي مبارك إلى التساؤل عن عجز جماهير المتصوفة في طوال الأزمان عن خلق لغة للحبّ الإلهي تستقل عن الحب الحسّي كل الاستقلال، ويعلّل ذلك بأن الحب الإلهي يغزو القلوب بعد أن تكون انطبعت على لغة العوام أصحاب الصبوات الحسية، فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي، ومعه من عالم المادة أدوات وأخيلة هي عدته في تصوير عالمه الجديد(15).
والحقيقة أن الكلمة حين تواجه موضوعها، والموضوع حيث يعثر على لغته لا يستطيع الشاعر إلا أن يستجيب لهذا التفاعل، حتى وإن كانت الملامح الأسلوبية للنص المتعلق به أكثر بروزاً من الملامح الخاصة بالشاعر، لذلك يبدو من الصعب استخراج ما هو صوفي مما هو غزلي أو خمري، إلا بما تعطيه إيانا بعض الكلمات الصوفية، لذلك كان وما زال التأويل الوسيلة الوحيدة التي نقرأ من خلالها هذه النصوص، وكذلك فعل ابن عربي حين أحب ابنة شيخه النّظام، ثم أصبحت تمثل مجلى من مجالي الحق، وبالتالي لم يعشق فيها إلا الله، فعمد إلى تأويل تعبيراته إلى معان صوفية باطنية دعا القارئ لكي يصرف الخاطر عن مظهرها، وطلب الباطن حتى يتسنى لـه فهم ما تنطوي عليه من معان وأسرار بقوله:
فاصرف الخاطر عن ظاهرها
واطلب الباطن حتى تعلما
ولم يكن الظاهر سوى شكل مستوحى من التراث الشعري العربي كالغزل والطلل، ومن الثقافة الدينية، فكان معجمه اللغوي تقليدياً، لأنه كان ينسج على منوال القدامى، يبكي الأطلال ويصف الرحلة ومشاقها، وما يرتبط بها من أودية وآثار، ويأخذ من أسلوب الغزل أساليبه فتبدو المسارات الصورية للحبيبة هي نفسها في قصص الغرام بشقّيه العفيف والصريح، ولنا في هذه النماذج أمثلة حيث يقول:
قف بالطلول الدراسات بلعلع
واندب أحبتنا بذاك البلقع
قف بالديار وناجها متعجّباً
منها بحسن تلطّف بتفجّع
عهدي بمثلي عند بابك قاطفاً
ثمر الخلود وورد روض أينع(16)
ويقول:
عج بالركائب نحو برقة ثهمد
حيث القضيب الرّطب والروض الندي
حيث البروق بها تريك وميضها
حيث السحاب بها يروح ويغتدي
وارفع صويتك بالسحير منادياً
بالبيض والغيد الحسان الخرّد
من كل فاتكة بطرف أحور
من كلّ ثانية بجيد أغيد
تهوى فتقصد كلّ قلب هائم
يهوى الحسان براشق ومنهد(17)
ويقول:
يا مبسماً أحببت منه الحببا
ويا رضاباً ذقت منه الضربا
يا قمراً في شفق من خفر
في خدّه لاح لنا منتقبا
لو أنه يسفر عن برقعه
كان عذاباً فلهذا احتجبا
شمس ضحى في فلك طالعة
غصن نقا في روضة قد نصبا
مذ عقد الحسن على مفرقها
تاجاً من التبر عشقت الذهبا(18)
إنّ المحاكاة الأسلوبية البادية في هذه النماذج قد تخفي المقاصد التي تخترقها والتي دعا ابن عربي القارئ لإدراكها من خلال ترك الظاهر، لأنه أدرك أن كلمات الغير وأساليبهم تفوح منها رائحة السياق الذي تكونت فيه، وليس من السهل أن يجتر أسلوباً وكلمات ويجعلها أسلوبه، لأن أسلوب الغير يقاوم بمقاصد الآخر المأهول به، ولذلك وجدناه في شرحه يجرد كلّ كلمة من سياقها ومقصد صاحبها، ليجعلها ترمز إلى معان ترتبط بتجربته الروحية، وهكذا أصبح مثلاً البرقع تعبيراً عن حالة العارفين المجهولة التي تسترهم عن بقية الناس، والبزّل، وهي الإبل المسنّمة رمزاً للأعمال الظاهرة والباطنة، والحادي: الشوق الذي يحدو بالهمم إلى منازل الأحبة. والخرود رمز للتكاليف والأعمال. والديار هي المقامات، والربوع الدارسات، هي آثار العارفين بالله، وسلمى: حالة واردة من مقام سليمان، والشموس: الأنوار الإلهية، والطلول: أثر منازل الأسماء الإلهية بقلوب العارفين، والظبي: اللطيفة الإلهية. والعيس الهمم، والكواعب هي الحكم الإلهية واللطائف والإشارات العلوية وغيرها الرّموز الموجهة نحو مقاصده الخاصة(19).
ولكي يجرد الكلمات من معانيها التي لصقت بها اعتمد ابن عربي على البنية الصوتية من أجل الإشارة إلى العلاقة بين الرمز ومرموزه، كجعل منعطف الوادي رمزاً للعواطف الإلهية، وسلمى إشارة سليمانية، والشيح من أشاح تعنى الميل، وغيرها من الرموز التي يعجّ بها ترجمان الأشواق.
هل هذا يعني أن ابن عربي نزع عن نصوصه التي استعار فيها النظام التقليدي بأطره التغريضية المعروفة، كل علامة تدل على هذا النظام؟
لا يبدو الأمر كذلك ما دامت العلامات التغريضية للحب الإنساني تلتقي مع مثيلاتها من الحب الإلهي، فالمعاناة، واللّوعة والإحساس بالبعد، نفسها، وقد تبلغ هذه الحالات شدّتها فيلتقي المتصوف في نشوته الروحية بنشوة من تأخذه الخمرة، لذلك وجدنا المتصوفة يؤكدون العلامات التغريضية نفسها المرتبطة بوصف الخمرة وحالة السكر.
إنه أمر طبيعي لأنه كما يقول باختين “ليس كل عصر يمتلك أسلوباً، ذلك أن الأسلوب يفترض وجهات نظر ذات نفوذ قوي”(20).
ولم يكن ينظر للخطاب الصوفي سوى باعتباره تنويعاً على الخطاب الديني حتى لدى أصحابه، وعدم امتلاكه أسلوبه الخاص يرجع إلى كون وجهة النظر الصوفية كانت في كل عصر محل ريب وتشكيك، الأمر الذي جعل نفوذها يتغلغل على مستوى العامة والخاصة من المتصوفة، ولم تستطع الثقافة الرسمية أن تستسيغ هذا النفوذ. لذلك حين يغيب الشكل الملائم للتعبير عن الأفكار يتحتم اللجوء إلى عكس هذه الأفكار في الكلمة الغيرية. لذلك اختار المتصوفة أرقى الأغراض التقليدية لممارسة وجهة النظر وبسط النفوذ، فأصبح تقليد أسلوب الآخرين هو الأسلوب.
ولم يكن الأمر مختلفاً عند ابن الفارض حين مارس هذه الكتابة العلائقية، كما لم يعد بحاجة إلى شرح وتأويل لأن الأسلوب الصوفي أصبحت له علاماته الخاصة، ومن أهمها دوران المصطلحات الصوفية التي أضحت المعينات الأساسية للتعبير عن الشخصية الصوفية بدليل أن الفقهاء الذين استاؤوا من تغزل ابن عربي الذي رأوه يتنافى مع الصلاح والعبادة، بادروا إلى اتهام ابن الفارض بالحلول والاتحاد، ولم تعد الخمرة والغزل تعني لهم إلا ما ترمز إليه، وقد يتخفى وراءها الشاعر لبثّ أفكاره في الاتحاد أو الحلول كما كانوا يعتقدون.
لقد استعمل ابن الفارض الألفاظ التي جرت على ألسنة المتصوفة، وتداولوها بينهم للكشف عن معانيها لأنفسهم، وجعلها مستبهمة على غيرهم، وكان ذلك في البداية حين كان كتم السرّ هدفهم لاعتبارات مرتبطة بأزمة التواصل التي أشرنا إليها في البداية.
وبعد شيوع هذه المصطلحات بين الناس أصبحت من أهم المميزات المرتبطة بالأسلوب الصوفي فلا عجب أن تكون مؤشرات على طبيعة هذا الأسلوب يمكن للقارئ إدراكها حين يقف على البنية التقابلية التي قامت عليها أشعار ابن الفارض التي فرضها التقابل بين المصطلحات كالقبض والبسط، والسكر والصحو، والفرق والجمع، والمحو والإثبات وغيرها من المصطلحات التي تقف جنباً إلى جنب مع المصطلحات التي فرضتها محاكاة الأساليب التقليدية من الشعر الغزلي، والخمري والطللي، ولكن ذلك لم يمنع ابن الفارض من تنبيه القارئ إلى أنه يعتمد الرمز ويقصد ما يصرح به في قوله في التائية الكبرى:
وعنّي بالتلويح يفهم ذائق
غنيّ عن التصريح للمتعنّت(21)
وهو كما نرى يلتقي مع ابن عربي في إلزام قارئه بالولوج إلى باطن روحاني، ظاهره غزل يقطع كأصحاب الحب الرحلة في الفيافي سعياً إلى ديار الحبيبة، وباطنه مستور يعكس إشارات صوفية ومعاني تشير إلى أحوال ومقامات ومواجيد وأذواق، كمثل قوله:
أوميض برق بالأبيرق لاحا
أم في رُبى نجد أرَى مصباحا
أم تلك ليلى العامرية أسفرت
ليلاً فصيرت المساء صباحاً
يا راكب الوجناء وقيت الردَى
إن جئت حزناً أو طويت بطاحَا
وسلكت نعمان الأراك فعُجْ إلى
وادٍ هناك عهدته فيّاحا
وإذا وصلت إلى ثنيات اللّوَى
فانشد فؤاداً بالأبيطح طاحَا(22)
ويقول كذلك:
وصرّح بإطلاق الجمال ولا تقل
بتقييده ميلاً لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها
معار له بل حسن كل جميلة
بها قيس لبنى هام، بل كل عاشق
كمجنون ليلى أو كثير عزة
وتظهر للعشاق في كل مظهر
من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة
وآونة تدعى بعزّة عزّة
وما القوم غيري في هواها وإنما
ظهرت لهم للبس في كل هيئة
ففي مرة قيساً وأخرى كثيراً
وآونة أبدو جميل بثينة(23)
ففي حين يهيب ابن الفارض في المقطوعة الأولى بالشكل التقليدي للقصيدة العربية، والذي تؤسس له العناصر المرتبطة بالرحلة والصحراء والراحلة وآثار الحبيبة، مما يؤكد المعارضة في النص والموضوع، نقف في المقطع الثاني عند أسباب المعارضة، فيكثّف كل التعيينات الجزئية، مما هو جميل في قصص الحب العذري، ليعلن من خلالها عن تشكيل صورة مطلقة للجمال تختصر تاريخ كل العشاق، ويعكس تعدد كل الصور التي تبدو بها الحبيبة، صور التجلي التي تحدث عنها المتصوفة، والمتعلقة بالذات الإلهية التي لا تتجلى مرة واحدة في صورة واحدة، وهي نفسها فكرة الجمال المطلق وسريانه في كل الصور الجميلة مع بقائه على ما هو عليه من الإطلاق، و”هذا الذوق هو الذي يكشف لمن تحقق به أن الوجود الواحد المطلق قد تعشَّق ذاته وسرى في عين العاشق وفي عين المعشوق، فهو لبنى وبثينة وعزّة، وهو قيس وكثير وجميل”(24).
إنّه شبه بيان يبرّر من جهة لجوء المتصوفة إلى أساليب المتقدمين من الشعراء ومحاكاة أشكالهم، ومن جهة أخرى يبيّن كيفية تحوّل شخصيات الحبّ العذري إلى رموز للحب الإلهي، نظراً للاستغراق المبالغ فيه في العاطفة، وإن استعادة الطلل مثلاً وإن كان استعادة للمعايير الجمالية المتراصّة عبر التاريخ، يعبِّر عن فهم لمتطلبات جديدة في التواصل. وسواء كانت التجربة تجربة حب إلهي حقيقية أم تجربة عاطفة تعلق بامرأة حقيقية كما تكرر عند بعض الباحثين، كرجاء عيد في كتابه لغة الشعر، فإن هذا لا ينفي إتباع النموذج الشعري القديم الذي لا شك أنه يعكس الوعي التاريخي للغة، في لحظة عصيبة من تاريخ الأمة العربية الإسلامية التي عاش فيها ابن الفارض حين برزت القومية الإسلامية كردّ فعل ضد الحروب الصليبية، تماماً كما حدث لشعراء الإحياء في العصر الحديث حين استنسخوا القوالب القديمة التي كثيراً ما جرّت وراءها مضامينها.
وإذا كان يرهق القارئ رد كل الألفاظ إلى إشارات تخرج بالرموز الغزلية إلى معاني الحب الإلهي، والرموز الخمرية في حالة الفناء والسكر الروحي، مما يؤسس للرتابة في التأويل، فإنه لا يمكن للقارئ أن يرى أكثر مما رآه ابن عربي في تأويله شعره، أو قاله النابلسي في شرحه ديوان ابن الفارض، ويفسّر دوران الفكرة الوحيدة المتداولة بين الدارسين قديماً وحديثاً بإرجاع الظاهر (الغزل- الخمرة) إلى التباطن (الحب الإلهي والفناء). وإذا سلّمنا بأن المتصوفة يتّخذون المرأة استعارة للتعبير عن الذات الإلهية، واختلفت المقومات الجوهرية والعرَضية للذات الإلهية والمرأة إلا فيما يتعلق بمقوم الجمال، فالاستعارة محض خيال هو أقرب إلى التوهم. ولذلك ظل الاستغراب يحوم حول العلاقة التي أحدثها المتصوفة بين المرأة والله. ذلك أن المقومات الجوهرية والمقومات العرضية كلّما اشتركت وكادت تتطابق فإن الاستعارة لا تثير استغراباً، وتوتراً لدى المتلقي، وكلما افترقت زاد التوتر والغرابة(25)، فكيف الحال والعلاقة التي أقامها المتصوفة بين الله والمرأة والخمرة والفناء لا تحتوي على مقومات جوهرية. لذلك كان لا بد على قارئ الغزل الصوفي الذي لا يمتلك المؤشرات التي تجعله يعلم أنه شعر في الحب الإلهي أن يتخذ طريقين:
1- إما أنه يدخل إلى النص باستراتيجية “تسمح له بتحديد مسبق للبحث عن تأويل استعاري أو رفضـه “(26).
2- أو يدخل باستراتيجية تعتبر التصوف غزلاً حقيقياً، ويأخذه على حرفيته، وإذا ما حدث الأمر الأول، وهذا ما يجب أن يحدث، فيجب أن تكون له الآليات التي من شأنها تحديد المقوم والمشترك هو الجمال.
إن محاولة رد هذه الظاهرة إلى قراءة المتصوفة التفاعلية للتراث الشعري، وسريان قانون العلائقية النصيّة لأسباب أجناسية إقرار بحتمية التناسخ في الكتابة من جهة، وبدور المتصوفة في تغيير أفق انتظار القارئ العربي من جهة أخرى ووضعه أمام بديهية ظلت إشكالية بالنسبة للعرب وهي ما ينسب لعلي بن أبي طالب في قوله “لولا أن الكلام يعاد لنفد”، لأن “التقليد راعي حياة الكلام وجوهره، كلما أعدنا الكلام ورددناه نما وازدهر.. وكلّما ارتقينا الماضي لاحظنا اجتراراً متواصلاً للكلام، ومن هذه الزاوية سكن القدماء مسكن المحدثين”(27).
سمح الشعر التقليدي للمتصوفة بأن يمارسوا فعل المعارضة من أبسط معانيها التي ترجعها إلى مجرد احتذاء للشكل، إلى أعقدها المتجسد في محاكاة الأسلوب والموضوع معاً، والذي هيأ لهم هذه الممارسة هو الإطار الإجناسي المشترك الذي اشتغلوا فيه، فمن اليسير أن يتفاعل الشعر مع الشعر، تماماً كتفاعل بعض العناصر الكيماوية مع بعض، وليس من البساطة الحكم على درجة التفاعل بين قصيدة وخطبة أو حكاية، إلا من باب التحويل الكمّي transformation quantitative، فنصفه بالحل أو العقد باصطلاح القدامى، ولعل من أشد مظاهر العلائقية النصيّة بروزاً عند المتصوفة هي تلك التحويلات الكمية التي يمكن عدّها النتاج الطبيعي لكل آليات التفاعل النصي التي ذكرنا أهمها. لأنه لا يمكن أن نحوّل نصاً سابقاً دون أن تلحقه تحويلات كمية، ولقد كان الشعر عند المتصوفة الفضاء الذي تجسدت فيه الظاهرة، نظراً لطبيعته المتميزة في التشكيل، القائمة على التكثيف. فقرأنا في كثير من النصوص إشارات إلى القرآن الكريم، وكان الاختصار أهم الآليات تلك الممارسة. وإن المتصفح للديوان الكبير لابن عربي وديوان ابن فارض يقف على كثير من النماذج، من ذلك قول ابن الفارض في التائية الكبرى:
قتلت غلام النفس بين إقامتي
الجدار لأحكامي وخرق سفينتي
فبي قدس الوادي وفيه خلعت
نعلي على الوادي وجدت بخلعتي
وآنست أنواراً فكنت لها هدى
وناهيك من نفس عليها مضيئة
وأسست أطواري فناجيتني بها
وقضيت أوطاري وذاتي كليمتي
نلاحظ كيف تتحول قصة الخضر مع سيدنا موسى من الصيغة القصصية المبنية على الاسترسال في ذكر الأعمال التي قام بها الخضر برفقة موسى، فخرق سفينة أناس كانوا يرتزقون منها، وأقام جداراً يريد أن يسقط دون أن يأخذ عليه أجراً، وقتل غلاماً بدون ذنب، مثلما جاء في سورة الكهف، ويعيد اختزالها في بيت واحد، هو في الوقت نفسه إيحاء إلى آيات القرآن، ومن جهة أخرى يجسد من خلالها تأويل المتصوفة لهذه الوقائع استناداً إلى التأويل الذي ألحقه الخضر عند افتراقه عن سيدنا موسى، بإشارته إلى الفرق بين الشريعة والحقيقة، وصارت عندهم ترمز إلى حجب الظاهر للباطن. وفي هذا الإطار أُوِّلَت هذه الوقائع عند ابن الفارض من قبل شراحه، حيث يشير بقتل الغلام إلى “انحلال حواسه وانطلاق نفسه عن وثائق القيود إلى فضاء الشهود، وأشار بخرق السفينة إلى رفع ستر البدن عن النفس وبإقامة الجدار إلى الوجود بالحق، فهو إذا خرق سفينة بدنه بالرياضيات والمجاهدات، وتجلّى شاهد نفسه على منصّة الظهور في حلل الأسماء والصفات ظهر حجاب نفسه الحائل بينه وبين الذات الأحدية، فأفنى الوجود ليظهر المقصود، ثم أقام جدار وجوده بالحق لأحكام ذاته”(28).
ونجد في الأبيات الأخرى الطريقة نفسها في الإحالة إلى القرآن الكريم وقصة سيدنا موسى في التجلي السيناوي. في قوله تعالى: وهل أتاك حديث موسى* إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعليّ آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى* فلما أتاها نودي يا موسى* إني أنا ربك فاخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى*[(29).
وهي كما نرى خضعت إلى تحويل كمي تمثّل في اختزال العناصر المفاتيح من هذه الآيات، وجعلها رموزاً لأذواقهم ومواجدهم الروحية، وهي تعكس الروابط المتينة بين الخطاب الصوفي والخطاب القرآني. وبغض النظر عن درجتها، فإن هذه العلاقات الكمية مسّت بنية النص القرآني باختصاره وتكثيفه وبعدة طرق أخرى، لا يسمح مقام البحث بالتفصيل فيها، لأن الهدف هو الوقوف على الظاهرة، ولقد تمّ لنا حصر حضور النص القرآني في أكثر من موضع، نستنتج من خلاله العلاقة الحميمة التي تربط النص الصوفي بالنص القرآني، وبالتالي تربط التصوف، كتجربة وفلسفة، بالدين الإسلامي، وتدحض الاتهامات التي لاحقت المتصوفة عبر العصور باستقائهم من مصادر وثنية ومسيحية.
وفي الأخير إنّ الملاحظات التي بدت من تحليل بعض مظاهر التفاعل النصّي في علاقة الخطاب الصّوفي تسمح للباحث بأن يتناول الظاهرة في إطارها الأجناسي (Générique)، ويتمكّن بها من حلّ إشكالات كثيرة أحيطت بالكتابة الصوفية.
_____
الهوامش :
([1]) أحمد الشايب، تاريخ النقائض في الشعر العربي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1946، ص6.
([2]) Gerard Genette , palimpsests p. 104.
([3]) المواقف، ص 159.
([4]) محمد المدني، الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، تصحيح وتعليق محمود أمين النواوي، دار الجبل، بيروت، د. ت، ص 134.
([5]) عبد الحليم محمود، مقدّمة المواقف والمخاطبات، ص 34.
([6]) Voir Husayn Mansûr Hallêj, Dîwân, Traduit de I’arabe et presénté par Louis Massignon, éd. Seuil, 1981.
([7]) عدنان حسين العوادي، الشعر الصّوفي، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامّة، بغداد، 1986، ص 256.
([8]) م. ن، ص 257.
([9]) ديوان الحلاج، ص 85.
([10]) م. ن، ص 55.
([11]) ابن الفارض، أبو حفص عمر بن أبي الحسن، الديوان، دار صادر، ودار بيروت، بيروت، 1962، ص 135.
([12]) يراجع محمد مفتاح، دينامية النصّ، تنظير وإنجاز، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1987، ص 86.
([13]) نقلاً عن عبد الحفيظ فرغلي على القرني، كتاب الشيخ محي الدين بن العربي سلطان العارفين، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة، 1986، الصفحات: 90، 91، 94.
([14]) علي الخطيب، اتجاهات الأدب الصّوفي بين الحلاج وابن عربي، ص 86.
([15]) يراجع زكي نجيب مبارك، التصوف في الأدب والأخلاق، منشورات المكتبة العصـريـة ، بيــروت، ص 49.
([16]) ابن عربي، ترجمان الأشواق، ص 101.
([17]) ترجمان الأشواق، ص 90-91.
([18]) م. ن. ص 105، 107.
([19]) للإطلاع على هذه الرموز وغيرها يراجع شرح ابن عربي لديوانه.
([20]) ميخائيل باختين، شعرية دوستويوفسكي، ترجمة جميل التكريتي، مراجعة حياة شرارة، ط1، دار توبقال، المغرب، 1986، ص. 280.
([21]) ابن الفارض، أبو حفص عمر بن أبي الحسن، الديوان، دار صادر للطباعة والنشر ودار بيروت، بيروت، 1962، ص 83.
([22]) م. ن. ص 123.
([23]) ديوان ابن الفارض، ص 69-70.
([24]) عاطف جودت نصر، شعر عمر بن الفارض، دراسة في فن الشعر الصوفي. ط1، دار الأندلس، بيروت، 1982، ص 117-118.
([25]) محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1986، ص 93.
([26]) م، ن، ص 101.
([27]) عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1985، ص 19.
([28]) عاطف جودت نصر، شعر عمر بن الفارض، ص 129، نقلاً عن كشف الوجوه الغـــرّ، جــ 1، ص 188.
([29]) طه: الآيات 9، 10، 11، 12.
_______
المصدر : موقع اتحاد العرب .
http://www.awu-dam.org//book/01/study01/359-a-b/book01-sd017.htm