إن الطرق الصوفية هي المناهج الربانية الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية كاملة ، أي : بأحكامها المتعلقة بظاهر المسلم وقلبه أو باطنه . وغاية كل طريقة الوصول إلى الأهداف التي نزل بها الوحي من السماء .
ولطريقتنا الكسنـزانية كبقية الطرق منهج خاص وأهداف إسلامية خاصة تسعى لأجل إيصال مريديها إليها ، بل أن لطريقتنا أقوى منهج في تسليك المريدين وأقصر ، كما وأن أهدافها أرقى ما نص عليه الدين الإسلامي وأعظم .
أحد أهم أهداف الطريقة الكسنـزانية تنوير الطريق لمريديها كي يصلوا إلى أعلى مراتب المحبة الخالصة الكاملة لله تعالى ، أن يصلوا إلى المحبة الإلهية المطلقة ، أو ما يعرف في اصطلاحات طريقتنا : بمرتبة الفناء في الحضرة الإلهية ، أي : إلى مرتبة التحقيق الذاتي لقوله تعالى :{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ}(1) .
لقد رسم مشايخ طريقتنا الكرام قدس الله أسرارهم الطريق الشرعي العملي الأقصر للوصول إلى مرتبة الحب الكامل ، وذلك من خلال الفهم الصحيح والتطبيق لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة .
إن نقطة الانطلاق للحب – في الطريقة – تبدأ من الفهم الصحيح لقوله تعالى :{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(2) ، فهي تنص على أن محبة المسلم لله تعالى غير مجدية ما لم تقترن باتباع حضرة الرسول الأعظم(صلى الله تعالى عليه واله وسلم) فهذا الاتباع يوصل العبد إلى مرتبة المحبوبية ، أي يصبح من أحباب الله ، ومن يحبه الله فهو ذو حظ عظيم .
وبمعنى أخر : إن المحبة لله إذا لم تكن مقرونة باتباع الرسول فإنها محبة
صورية وليست محبة حقيقية ، أي محبة وهمية يخدع الإنسان بها نفسه ، قال تعالى:
{يُخادِعونَ اللَّهَ والَّذينَ آمَنوا وَما يَخْدَعونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرونَ}(3) ، وأما المحبة الحقيقية فهي التي نصت الآية الكريمة على ان السبيل الوحيد للوصول إليها هو اتباع الحضرة المحمدية المطهرة .
وتأكيداً على أمر الاتباع المطلق ، بين الله في كتابه الكريم أنه لا يجوز للمؤمنين أن يجعلوا من أحد ، بما في ذلك أنفسهم ، أقرب إليهم من الرسول كمــا في قوله تعالى :{ النَّــبِيُّ أولــى بِالْمُؤْمِــنينَ مِنْ أَنْــفُسِهِمْ}(4) .
ولقد جسد المسلمون الأوائل من الصحب الكرام هذا التفضيل المطلق لحضرة الرسول الأعظم (صلى الله تعالى عليه واله وسلم)على النفس في كل أمورهم ، ومن ذلك ذودهم بأجسادهم وأرواحهم عن حضرة الرسول الأعظم (صلى الله تعالى عليه واله وسلم)خلال معاركهم مع أعدائهم من المشركين والكافرين .
إن الأمر القرآني بتقديم الرسول على النفس يعني تقديمه على كل الخلق ، قريبهم وبعيدهم ، ولذلك جاء الحديث الشريف :{لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}(5) .
إن هذا الاتباع والتفاني لحضرة الرسول الأعظم عندنا ، هو الحجر الأساس في سبيل سلوك طريق المحبة الإلهية . وهو ما نعبر عنه في مصطلحاتنا : بالفناء
في الرسول(صلى الله تعالى عليه واله وسلم)، ولكن كيف السبيل للوصول إلى هذا الفناء .. ؟
من الواضح أن الوصول إلى هذا الاتباع المطلق أو الفناء في حضرة الرسول
الأعظم في زمن ظهوره كان مقترناً بأمرين :
الأول : ما يحاول الصحابي أن يبذله في سبيل طاعة الرسول الطاعة الكاملة .
الثاني : ما كان يفيضه حضرة الرسول الأعظم على صحابته من أحوال التزكية ، التي كانت تطهر نفوسهم ، وتسمو بأرواحهم إلى حالات من الشفافية تستشعر فيها روحانيته الشريفة ونورانيته المقدسة ، فتنجذب لروحه أرواحهم ، ولصفاته صفاتهم ولأفعاله أفعالهم ، فلا يعودون بعدها يحبون شيئاً في الوجود كله كحبهم له .
إذاً ما يبذله الصحابي من إيمان وتسليم وطاعة للرسول ، وبالمقابل ما يبذله حضرة الرسول الأعظم لهذا الصحابي من فيوضات حبية نورانية يغمر بها كيانه ، هو ما يوصله إلى الفناء في محبته . وهذا الفناء يوصله بالتالي إلى محبة الله تعالى .
وإذا كان الوصول إلى التحقق باتباع الرسول في زمن ظهوره سهلاً على اعتبار المواجهة المباشرة ، فإن مثل هذه المواجهة باقية إلى يوم القيامة وإن كانت بصورة غير مباشرة .
لقد أورث حضرة الرسول الأعظم(صلى الله تعالى عليه واله وسلم) أحوال التزكية وتطهير القلوب لسلسلة متصلة ، غير منفصلة ، باقية إلى يوم الدين ، من أهل الله هم مشايخ الطريقة الذين يحملون لواء المحبة إلى جانب القرآن الكريم ، جيل بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . وقد نص حضرته على ذلك بقوله :{إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا}(6) ، فصار السير على منهج الوارث المحمدي من أهل البيت عليهم السلام ، والوفاء له ، والإخلاص في طاعته ، ومحبته هو السبيل للوصول إلى محبة الرسول .
إن الحب وهو أسمى أرقى أنواع العلاقات في الوجود يتأتى نتيجة صفاء القلب ونقائه مما فيه من شوائب مختلفة الألوان ، وتظل العلاقة بين المحب ومحبوبه تسمو وتظهر وتتشابك لتؤدي إلى تطويع إرادة المحب تحت تصرف محبوبه ، وفي نهاية المطاف يمنح المحب أغلى ما لديه واشرف ما يملكه لمحبوبه وهو روحه التي بين جنبيه .
إنها الميل الدائم نحو المحبوب ، والإيثار له ، وهذه بداية بحارها التي لا قرار لها ، يعقبها لحظة من أخطر لحظات المحب بأن ينسى نفسه ، فتذوب صفاته في صفات محبوبه ، فلا يدرك شيئاً إلا ما أراد ورغب ، ويسعى المحب بكل جهوده إلى موافقة محبوبه في رغباته لأرضائه ، فيكون كل كثير عنده قليل حينما يمنحه له ، وكل قليل لدى المحبوب كثير في نظر المحب .
فالمحبة في نظر المحبين : بأن يضع المحب أفعاله ونفسه وماله ووقته لمن يحب منحة منه له ، كما يقتضي من المحب أن يمحو من القلب كل شيء سوى المحبوب ، وهذا كمال المحبة ، أما إذا كان في القلب بقية لغير المحبوب ، فالمحبة مدخولة ، ولا يزال المحب غاضباً على نفسه حتى يرضى محبوبه .
لقد اتخذ مشايخ طريقتنا محبة الشيخ وسيلة لتوصيل المريد إلى المحبة المحمدية والإلهية ، لأن الحب هو واسطة انتقال التأثيرات الروحية ، لكونه حالة تتجاوز الحواجز المكانية ولا تعتمد على ما يصل بالحواس من أمر الحبيب .
نخلص إلى القول
إن اتباع الوارث المحمدي ( شيخ الطريقة ) يوصل إلى محبته ، وهذه المحبة هي الطريق إلى محبة حضرة الرسول الأعظم(صلى الله تعالى عليه واله وسلم) ، وهي الطريق الوحيد إلى محبة الله تعالى .
ترتيب المحبة في منهج الطريقة
يأتي ترتيب المحبة في منهج طريقتنا في مرتبة الوسط بين بداية السلوك ونهاية الوصول ، فالمحبة هي الطريقة التي من خلالها تتلاشى المسافات غير الحسية المعبر عنها بالحجب بين العبد وربه .
إنها الطريقة التي تجعل العابد ينتقل من الحضور مع العبادة إلى الحضور مع المعبود فيعبد الله كأنه يراه ، ثم توصله إلى مرتبة فناء العابد في المعبود ، حيث يذوب بنور المحبة ، فلا يبقى منه لنفسه شيء ، فيذهب المحب الفاني وتتجلى فيه أنوار المحبوب الباقي ، أي يفنى عن نفسه ويبقى بربه .
إن أوضح نص شرعي يكشف حقيقة المرتبة الوسطية للمحبة ومدى تأثيرها في حياة المريد الروحية هو قوله تعالى :لا يزال عبدي يتقرب ألي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها(7) الحديث .
والملاحظ في هذا الحديث انه نص على مراتب ثلاث :
الأولى : مرتبة العبادة النفلية .
الثانية : مرتبة المحبة .
الثالثة : مرتبة الفناء في حضرة المحبوب .
ومن المعروف أن لكل شيخ طريقة صوفية ، منهج تعبدي نفلي خاص به وبطريقته ، استنبطه من القرآن الكريم ، وأُذن له بالعمل به وتلقينه لمريديه ، وفي طريقتنا الكسنـزانية يقوم هذا المنهج على الذكر الكثير آناء الليل وأطراف النهار بأقسامه الثلاث : اللساني والقلبي والعملي .
فعندنا أن الذكر هو الحجر الأساس الذي يوصل إلى محبة المذكور ، فمن أكثر من ذكر شيء أحبه ، ولهذا جاء منهج الطريقة بأعداد كبيرة جداً من الأذكار والأوراد المأذون بها لمريدي الطريقة ، لأنها بالنسبة لهم النافلة التي يبتغون من ورائها الحصول على المحبة .
إذاً بداية الطريق عندنا الذكر الكثير الدائم ، وذلك لأنه يجلو القلب بل يجلو الجوانح والجوارح كلها ويجعلها مستعدة لاستفاضة الإشعاعات النورانية للمحبة ولا يزال المريد يتقرب بهذه النافلة حتى تغمره تلك الإشعاعات على قدر ذكره وصفائه ، وعلى قدر قابليته واستعداده .
إنها أنوار غير منفصلة عن مصدرها تمد من تنـزل فيه بحلاوتها فتجعله يشعر بالقرب الروحي من نور السماوات والأرض ، بل وتجعله يلمس ذلك ويتذوقه ، ويرى من خلالها رأي العين الكثير من الحقائق الغيبية التي لا يراها ولا يشعر بها ولا يطلع عليهاإلا المحبين خاصة .
هذه الإشعاعات الحبية حين تملأ فؤاد المحب وكيانه تجذبه بشدة إلى محبوبه ، ترفع عن كاهله ثقل المشقة في العبادة وعن قلبه ثقل الرين والحجب . إذ أن المحب لا يطيع طمعاً في النعيم ولا خوفاً من الجحيم ، وإنما المحبة وحدها هي التي تحمله بذاتها على طاعة المحبوب ، ومهما كان في تلك الطاعة من ثقل أو مشقة ، فإنما هي عند المحب لذة ومتعة وقربة ، فوصال المحبوب وحده هو نعيم المحب الذي يطمع فيه ، والانفصال عنه هو جحيمه الذي لا يخشى سواه ، والمحبة وسيلته الوحيدة للوصول والحصول ، والسبيل إليها عندنا هو الذكر الدائم والورد الكثير .
ولكن هل الوصول إلى المحبة هو نهاية الطريق ..؟
وهل هذا الهدف هو أسمى ما يقصد إليه .. ؟
الحقيقة إننا نرى أن المحبة غاية المبتدئ ، ولكنها وسيلة للواصل لها المتحقق بها . فليست المحبة وهي القوة الروحية النورانية إلا طاقة علوية نرتجي من ورائها ثمار وفوائد يصعب حصرها ، لعل أهمها الوصول إلى مرتبة طاعة المحبوب ، الطاعة المطلقة في الظاهر والباطن ، في السر والعلن .
ليست الطاعة كما يتوهم البعض هي القيام ببعض الأوامر والانتهاء عن بعض النواهي بطريقة مجردة عن الحضور بل والإحساس بالمطاع . فالطاعة إذا كانت مصحوبة بالغفلة عن المطاع فهي هياكل خاوية أو مظاهر فارغة ، ليس فيها حياة ، وكيف يكون فيها حياة وهي مفرغة عن لبها ، وعلى سبيل المثال : فإن الصلاة هي عماد الدين ، وثابت أن من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم دينه ، فهل المراد بهذا العماد هو مجرد الألفاظ و الحركات الخالية من حضور القلب مع المصلى له .. ؟!
هل أن الوقوف بين يدي الله تعالى في الصلاة لغرض عبادته ثم التغافل عنه والانشغال بأمور الدنيا وخطرات الشهوات التي وصفها حضرة الرسول الأعظم بأنها جيفة وطالبيها كلاب ، يسمى طاعة ؟ ! ويسمى هذا المصلي مطيع ؟!
إن طاعة الله تعالى ورسوله في الصلاة وغيرها من فروض الشريعة ونوافلها ، والانتهاء عن جميع محرماتها وشبهاتها ، يشترط فيه حضور القلب بما يناسب نوع الطاعة ، ولا يتحقق هذا الحضور إلا بالمحبة ، لأن المحبة تعني نزول حال من المحبوب في المحب ، وهذا الحال هو ما يجعل المحب في حضور مع المحبوب .
نخلص إلى القول
إن المحبة هي الوسيلة للوصول إلى الطاعة الكاملة ، أي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية كاملة بظاهرها وباطنها ، مما يحقق المريد بمرتبة المسلم الكامل ، أو المسلم الحقيقي ، تمييزاً له عن المسلم بالاسم فقط ، أو المسلم في الظاهر .
وعلى هذا الترتيب فإن الذكر يوصل إلى المحبة ، والمحبة توصل إلى الطاعة الكاملة ، وإذا دخل المريد في هذه الدائرة فلا يزال في التزود والتقرب الدائمين فذكره يزيده محبة ، ومحبته تزيده طاعة ، وطاعته تحمله على الذكر الكثير ، ويبقى هكذا إلى أن يصبح مستعداً تمام الاستعداد إلى التحقق بالمرتبة الثالثة من الحديث القدسي : وهي الفناء في المحبوب ، وفي هذه المرتبة تصبح كل حركات العبد وسكناته وخواطره وأفكاره وإراداته ووارداته بالمحبوب ، فلا يسمع إلا به ، ولا يبصر إلا به ، ولا يعلم إلا به ، وكل شيء به ، وعندها يصبح هذا المريد المحب إنساناً كاملاً يواجه الحضرتين الحقية والخلقية في آن واحد ، ويعطي كل حضرة ما يناسبها بالحق .
وهكذا كانت المحبة في الطريقة وسيلة للانتقال من البداية إلى النهاية ، بل على التحقيق أن المحبة هي عين الطريقة ، والطريقة عين المحبة عندنا .
ونخلص إلى ذكر ترتيب المنهج الروحي في طريقتنا بالشكل الآتي :
الذكر يوصل إلى المحبة المطلقة ، والمحبة توصل إلى الطاعة الكاملة ، والطاعة توصل إلى الفناء في حضرة المحبوب .
_______________________________
الهوامش :
[1] المائدة : 54 .
[2] آل عمران : 31 .
[3] البقرة : 9 .
[4] الأحزاب : 6 .
[5] صحيح مسلم ج: 1 ص: 67 .
[6] سنن الترمذي ج: 5 ص: 663 .
[7] صحيح البخاري ج: 5 ص: 2384 برقم 6137 .
المصادر :
السيد الشيخ محمد الكسنزان – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان ج5 مادة(ح ب).