إعداد :علاء محسن
لو نلاحظ أن كلمة الحب وردت في القرآن الكريم ثلاث وثمانون مرة ، على اختلاف مشتقاتها ، منها قوله تعالى : {فسَوْفَ يَأْتي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلى الْكافِرينَ } .
وكذلك في السنة النبوية المطهرة : عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : { إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض} .
فالحب هو روح التصوف ، وهو شعاره ودثاره ، والحال المشترك بين المتصوفة جميعاً ، هو بداية البداية ، كما انه نهاية النهاية ، وكأس المحبة لديهم تمكن فيها كل الأسرار والأنوار .
والحب عند المتصوفة ، لا يمكن تحديده ولا تعريفه ، ولا شرح حقائقه ، وإنما يحد باللفظ فقط ، ويعرف بالعرف والاصطلاح ، أو كما يقول محيي الدين بن عربي ( من حد الحب ما عرفه ؟ ومن لم يذقه شرباً ما عرفه ؟ ومن قال رويت منه ما عرفه ؟ ) فالحب شرب بلا ري ، قال بعض المحجوبين شربت شربة فلم اظمأ بعدها أبدا ، فقال أبا يزيد : الرجل من يحسو البحار ولسانه خارج على صدره عن العطش .
وهكذا هو الحب ، حنين متجدد ، وشوق مستمر وظمأ دائم لا حد له ولا غاية ، لأنه متجدد مع الأنفاس ، فالشوق لا نهاية له ، لان أمر الحق لا نهاية له ، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أتم وأوفى ، ويقول الإمام الغزالي : أن تبلغ الحالة تعرف ما هي . ولكل محب من هواه على قدر همته ، أو على قدر موهبته .
ولقد استمد المتصوفة أصول هذا الحب من نور القرآن الكريم ، فالقرآن لمن يتدبره هتاف حار بالمحبة الإلهية ، ودعوة صريحة إلى بذل كل طيبات الحياة في سبيل الفوز بمحبة الله . ولقد كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في مناجاته لربه يسأله الحب ويسأله أن تكون قرة عينه في الصلاة ، وهي أسمى مراتب الوصول والمحبة اللهم اجعل أحب الأشياء إلي ، وخشيتك أخوف الأشياء عندي ، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم ، فأقرر عيني في عبادتك .
وأي مرتبة تسمو إلى الحب الإلهي ، يخلو المحب إلى ربه في محاريبه ، يسمر بطاعته ويضيء ليله بنور وجهه ، ويقطع نهاره بجميل ذكره ، ثم تأتي النشوة الكبرى ، بالأنس والرضا .
يقول الشيخ ابن عربي : جرت مسألة المحبة بمكة فتكلم فيها الشيوخ ، وكان الجنيد أصغرهم سناً فقالوا له هات ما عندك يا عراقي ، فاطرق برأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبدٌ ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه ، احرق قلبه أنوار هيبته ، وصفى شربهُ من كأس وده ، وانكشف له الجبار من أستار غيبه ، فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فمن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو بالله ولله ومع الله .
إن الحب هو سبب إيجاد العالم ، ففي الحديث القدسي كنت كنزاً مخفياً لم أعرف ، فأحببت أن اعرف ، فخلقت الخلق ، وتعرفت إليهم ، فبي عرفوني . فأخبر أن الحب كان سبب خلق العالم ، فالعالم بالحب خلق وبالحب يعيش ، وقد خلقنا لنعبد الله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، وهذا هو سر الحياة .
فالعالم بأسره إنما يتنفس بالحب ويعيش له وبه ، والكون كله يتحرك بحب موجده ومبدعه ، ولكن صور الحب خداعة ، اتخذت ألوانها البراقة حجباً ومظهراً لحقيقة مضمرة ، فما تنفس الحب في قلب إنسان على الحقيقة لغير خالقه ، ولكنه احتجب بحجب الصور الدنيوية بحسب المشاكلة ، احتجب في الجنس بصور زينب وهند وليلى ، وفي الشهوات بحب الدرهم والدينار والجاه ، وكل مرغوب محبوب من شهوات الحياة زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
وللحب سببان ، الجمال وهو في علاه لله ، والإحسان ، وما ثم إحسان إلا منه ، فإن أحببت للاحسان فما أحببت في الحقيقة إلا الله فإنه المحسن ، وإن أحببت للجمال ، فما أحببت إلا الله ، فإنه الجميل نور السموات والأرض .
وإن أحد أهم أهداف الطرق الصوفية ( الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية ) هو تنوير الطريق لمريديها كي يصلوا إلى أعلى مراتب المحبة الخالصة الكاملة لله تعالى ، أن يصلوا إلى المحبة الإلهية المطلقة ، أو ما يعرف في اصطلاحات طريقتنا : بمرتبة الفناء في الحضرة الإلهية ، أي : إلى مرتبة التحقيق الذاتي لقوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ .
لقد رسم مشايخ الطريقة الكسنزانية الكرام قدس الله أسرارهم الطريق الشرعي العملي الأقصر للوصول إلى مرتبة الحب الكامل ، وذلك من خلال الفهم الصحيح والتطبيق لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة .
إن نقطة الانطلاق للحب في الطريقة تبدأ من الفهم الصحيح لقوله تعالى :
{ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ، فهي تنص على أن محبة المسلم لله تعالى غير مجدية ما لم تقترن باتباع حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، فهذا الإتباع يوصل العبد إلى مرتبة المحبوبية ، أي يصبح من أحباب الله ، ومن يحبه الله فهو ذو حظ عظيم .
وبمعنى آخر : إن المحبة لله إذا لم تكن مقرونة باتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها محبة صورية وليست محبة حقيقية ، أي محبة وهمية يخدع الإنسان بها نفسه ، قال تعالى : { يُخادِعونَ اللَّهَ والَّذينَ آمَنوا وَما يَخْدَعونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرونَ } ، وأما المحبة الحقيقية فهي التي نصت الآية الكريمة على ان السبيل الوحيد للوصول إليها هو إتباع الحضرة المحمدية المطهرة .
وتأكيداً على أمر الإتباع المطلق ، بين الله عز وجل في كتابه الكريم أنه لا يجوز للمؤمنين أن يجعلوا من أحد ، بما في ذلك أنفسهم ، أقرب إليهم من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لما في قوله تعالى : النَّبِيُّ أولى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .
ولقد جسد المسلمون الأوائل من الصحب الكرام هذا التفضيل المطلق لحضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم على النفس في كل أمورهم ، ومن ذلك ذودهم بأجسادهم وأرواحهم عن حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم خلال معاركهم مع أعدائهم من المشركين والكافرين .
إن الأمر القرآني بتقديم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على النفس يعني تقديمه على كل الخلق ، قريبهم وبعيدهم ، ولذلك جاء الحديث الشريف : { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } ، إن هذا الإتباع والتفاني لحضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم عندنا ، هو الحجر الأساس في سبيل سلوك طريق المحبة الإلهية . وهو ما نعبر عنه في مصطلحاتنا : بالفناء في الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولكن كيف السبيل للوصول إلى هذا الفناء .. ؟
من الواضح أن الوصول إلى هذا الإتباع المطلق أو الفناء في حضرة الرسول
الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم في زمن ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم كان مقترناً بأمرين :
الأول : ما يحاول الصحابي أن يبذله في سبيل طاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الطاعة الكاملة .
الثاني : ما كان يفيضه حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم على صحابته من أحوال التزكية ، التي كانت تطهر نفوسهم ، وتسمو بأرواحهم إلى حالات من الشفافية ، تستشعر فيها روحانيته الشريفة ونورانيته المقدسة ، فتنجذب لروحه أرواحهم ، ولصفاته صفاتهم ، ولأفعاله أفعالهم ، فلا يعودون بعدها يحبون شيئاً في الوجود كله كحبهم له .
إذاً ما يبذله الصحابي من إيمان وتسليم وطاعة للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبالمقابل ما يبذله حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم لهذا الصحابي من فيوضات حبية نورانية يغمر بها كيانه ، هو ما يوصله إلى الفناء في محبته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا الفناء يوصله بالتالي إلى محبة الله تعالى .
وإذا كان الوصول إلى التحقق بإتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في زمن ظهوره سهلاً على اعتبار المواجهة المباشرة ، فإن مثل هذه المواجهة باقية إلى يوم القيامة وإن كانت بصورة غير مباشرة .
لقد أورث حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم أحوال التزكية وتطهير القلوب لسلسلة متصلة ، غير منفصلة ، باقية إلى يوم الدين ، من أهل الله هم مشايخ الطريقة الذين يحملون لواء المحبة إلى جانب القرآن الكريم ، جيل بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . وقد نص حضرته صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك بقوله : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، فصار السير على منهج الوارث المحمدي من أهل البيت ، والوفاء له ، والإخلاص في طاعته ، ومحبته هو السبيل للوصول إلى محبة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
إن الحب وهو أسمى وأرقى أنواع العلاقات في الوجود يتأتى نتيجة صفاء القلب ونقائه مما فيه من شوائب مختلفة الألوان ، وتظل العلاقة بين المحب ومحبوبه تسمو وتظهر وتتشابك لتؤدي إلى تطويع إرادة المحب تحت تصرف محبوبه ، وفي نهاية المطاف يمنح المحب أغلى ما لديه واشرف ما يملكه لمحبوبه وهو روحه التي بين جنبيه .
إنها الميل الدائم نحو المحبوب ، والإيثار له ، وهذه بداية بحارها التي لا قرار لها ، يعقبها لحظة من أخطر لحظات المحب بأن ينسى نفسه ، فتذوب صفاته في صفات محبوبه ، فلا يدرك شيئاً إلا ما أراد ورغب ، ويسعى المحب بكل جهوده إلى موافقة محبوبه في رغباته لإرضائه ، فيكون كل كثير عنده قليل حينما يمنحه له ، وكل قليل لدى المحبوب كثير في نظر المحب .
فالمحبة في نظر المحبين : بأن يضع المحب أفعاله ونفسه وماله ووقته لمن يحب منحة منه له ، كما يقتضي من المحب أن يمحو من القلب كل شيء سوى المحبوب ، وهذا كمال المحبة ، أما إذا كان في القلب بقية لغير المحبوب ، فالمحبة مدخولة ، ولا يزال المحب غاضباً على نفسه حتى يرضى محبوبه .
لقد اتخذ مشايخ الطريقة العلية القادرية الكسنزانية محبة الشيخ وسيلة لتوصيل المريد إلى المحبة المحمدية والإلهية ، لأن الحب هو واسطة انتقال التأثيرات الروحية ، لكونه حالة تتجاوز الحواجز المكانية ولا تعتمد على ما يصل بالحواس من أمر الحبيب .
خلاصة القول : إن اتباع الوارث المحمدي ( شيخ الطريقة ) يوصل إلى محبته ، وهذه المحبة هي الطريق إلى محبة حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهي الطريق الوحيد إلى محبة الله تعالى .
ومن أقوال العارفين في المحبة
يقول الشيخ داود الطائي قدس سره : المحبة هي دوام ذكر المحبوب .
ويقول الشيخ معروف الكرخي قدس سره : المحبة هي الأنس بالمحبوب ، وبذل النفس في هوى المطلوب ، وأن لا تنظر إلى سواه مخافة أن تضل فلا تراه ، لأن من نظر إلى سواه ضل عن طريق هداه .
ويقول الشيخ السري السقطي قدس سره : المحبة تيسير العسير ، وتعسير اليسير ، وغربة في الأوطان ووحشة من الخلان .
ويقول الشيخ الجنيد البغدادي قدس سره : المحبة استيلاء ذكر المحبوب على جميع قلب المحب ، واستغراق كلية المحب ، ولو في بعض رضا المحبوب ، وهو أن يغلب أمر المحبوب على قلبه حتى لا يحس بما بدا منه ، فلا العتاب ينفع ولا العذل ينجع .
ويقول الغوث الأعظم الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : المحبة هي تشويش في القلوب يقع من المحبوب ، فتصير الدنيا عليه كحلقة خاتم أو مجمع مأتم . والحب : سكر لا صحو معه ، وذكر لا محو معه ، وقلق لا سكون معه ، وخلوص للمحبوب بكل وجه سرا وعلانية ، بإيثار اضطرار لا بإيثار اختيار ، وبإرادة خلقة لا بإرادة كلفة . والحب : العمى عن غير المحبوب غيرة عليه ، والعمى عن المحبوب هيبة له ، فهو عمى كله .
ويقول حضرة السيد الشيخ السلطان الخليفة محمد الكسنزان قدس الله سره : {إذا كنت تريد الله تعالى ، تريد أن تتقرب إلى الله ، فيجب أن تحب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، بمحبة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم تكسب التقرب إلى الله ، بمحبة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم تحب الله ، وحتى تحبه يجب أن تكثر من ذكره والصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، فعليك بالإكثار من ذكره ، ومن أكثر من ذكر شيء أحبه} .
ويقول قدس الله سره: {الهدف الرئيس للطريقة هو المحبة ، محبة الشيخ لأنها توصلك إلى محبة محبوبه وهو شيخه ومن شيخ إلى شيخ إلى حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذي توصلك محبته الصادقة إلى محبة الله تعالى} .
ويقول قدس الله سره : {الوصول إلى الحب بعرق الجبين أفضل من الحصول عليه بلا جهد ومجاهدة ، أن المريد الذي ينال الحب بعرق الجبين يتمسك به ويحافظ على بركته في قلبه ، ليس كالذي يناله بسهوله معتمداً على كرامة من شيخه ، لهذا فمنهجنا يعتمد على إعطاء المريد ما يستحق بعرق الجبين }.
ويقول قدس الله سره : {إن المريد إذا أخلص في محبة شيخه ، يستطيع أن يطبق كل ما يأمره به الشيخ من المعروف ، وأن ينتهي عن كل ما ينهاه عنه من المنكر بدون كلفة أو مشقة }.
_______________
وصَلِّ الَّلهُمَّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الوَصفِ وَٱلوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَالحِكْمَةِ وَعَلى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلِّمْ تَسليماً