بقلم : عبد الله عيسى شوكة
ماجستير تربية
استخدم النبي ﷺ طرائق وأساليب متنوعة في التربية والتعليم، ومن هذه ما يسميه المختصون في التربية الإسلامية: (التربية بالأحداث) أو (التربية باغتنام الفرص والمناسبات). وهي طريقة في التعلم استخدمها النبي ليربط بين الثواب والسلوك المرغوب فيه، والعقاب والسلوك غير المرغوب فيه. وكان لهذه الطريقة الأثر البالغ في نفوس المتعلمين وهم الصحابة رضي الله عنهم وكانت استجابتهم سريعة ومباشرة، فكان الواحد منهم إذا نُهِيَ عن شيء أو ربط له النبي ﷺ بين الإثم وسلوك معين سرعان ما ينتهي الصحابي عن هذا الفعل، وإذا أمره النبي ﷺ بسلوك معين، أو ربط له بين الثواب وسلوك معين سرعان ما يستجيب له ويلزم ذلك السلوك. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه وفيه “أن رجلين قد ذكرا أخاً لهما بسوء ثم سار النبي ساعة فمرّ بجيفة حمار .
فقال : أين فلان وفلان؟
فقالا: نحن ذا يا رسول الله.
فقال لهما: كُلا من جيفة هذا الحمار.
فقالا: يا رسول الله، من يأكل من هذا ؟
فقال : ما قلتما من عِرْضِ هذا الرجل آنفاً أشدّ من أكل هذه الجيفة .
فهل تظن – أيها القارئ العزيز – أن واحداً ممن كانوا مع رسول الله في تلك الحادثة سيفكر مجرد تفكير بالغيبة، والتي تعدّ سلوكاً سيئاً نهى عنه رسول الله ؟ وهل تظن أن هذين الرجلين سيفكران بتكرار هذا الخلق السيء بعد هذه الحادثة وهذا الدرس العظيم ؟! لقد أقام النبي رابطة عصبية مؤلمة بين الأكل من الجيفة (الألم) وبين الغيبة (سلوك أخلاقي).
وإليك مثالاً آخر رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ” قدم رسول الله ﷺ بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيّاً في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله ﷺ: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها ” متفق عليه.
يصور لنا الحديث مشهداً في غاية الرقة والرحمة، حيث الأم الفاقدة ولدها في إحدى المعارك وهي في حالة ذعر وحزن، تبحث عن طفلها الرضيع بين السبي، وإذا بها فجأة تجده فتقوم بحضنه وإرضاعه، بكل حنان وشفقة ورحمة والدمعات تتساقط من عينها التي امتلأت فرحاً.
في تلك الحالة والنبي والصحابة ينظرون إليها- ولا شك أن قلوبهم رقّت لهذا المشهد- يخبرهم النبي أن الله أرحم بعباده من هذه التي رأوها الآن. ففي الحالة التي تتجلى فيها رحمة الأم بولدها تكون رحمة الله بعباده أعظم من رحمة هذه المرأة.
إن هذا المشهد -بلا شك- ولَّد عند من شاهده من الصحابة رضي الله عنهم رجاء وطمعاً في رحمة الله، وفي مغفرة الله لذنوبه، وبالتالي لن يجد الشيطان سبيلاً لإدخال اليأس أو القنوط في قلبه، ذلك فيما لو أذنب فشعر بعدها باليأس أو القنوط وتذكر هذه الحادثة، سرعان ما ينجلي عنه الهم واليأس، ويعاوده الرجاء والطمع في رحمة الله، بل سيسارع في الخيرات رجاء الحصول على هذه الرحمات. وفي هذا الزمان نجد كثيراً من علماء التربية والسلوك يقومون بدراسة مثل هذه الأساليب وعمل التجارب عليها، وسنقف مع أحد المختصين في علم السلوك، وننظر كيف استخدم نفس الأساليب النبوية، خصوصاً في موضوع الربط بين الثواب والسلوك المرغوب والعقاب والسلوك غير المرغوب، وسماه (الترابط العصبي). وهو مصطلح وضعه الدكتور (أنطوني روبنز) في كتابه الشهير ” أيقظ قواك الخفية” وهو من الكتب الأكثر مبيعاً.
والمقصود بـ (الترابط العصبي) -كما بيّن (روبنز)- : “الربط بين الألم الشديد وبين أي سلوك أو نمط من الشعور العاطفي، فإن الفرد سيتجنب الإقدام عليه بكل ما لديه من قوة، وكذلك الربط بين المتعة وبين السلوك، بحيث يقدم الفرد على ذلك السلوك بكل ما لديه من قوة للحصول على هذه المتعة”. وهذا المفهوم يقوم على فكرة الألم والمتعة، والتي يسعى الناس بطبيعتهم إلى تجنب الأولى – أي الألم- والحصول على الثانية – أي المتعة-.
و (الترابط العصبي) -كما يقول روبنز- له أثر كبير في اتخاذ القرارات، وتغيير السلوك بناءً على ذلك في هذه الحياة. ولتوضيح هذا المفهوم، قام (روبتر) بضرب بعض الأمثلة من خلال واقعه المعاش، فقال: ” أحد الأسباب التي وَقَتْني من تناول المسكرات مثلاً، هو أنه كان هناك بضعة أشخاص في عائلتي يتصرفون بصورة بغيضة عند تناولهم لها، بحيث إنني قرنت بين أقصى درجات الألم وبين تناول هذه المشروبات، وبحيث إنني أشعر حتى الآن بالغثيان حين أشم رائحة المسكرات في نَفَس أي شخص أقابله، كما إنني أقرنها بالتقيؤ والشعور المريع. وهذا ما أسميه بـ (الترابط العصبي) وهو ما وجّه قراراتي في مستقبل حياتي، ولذا فإنني لم أتناول رشفة واحدة في حياتي من هذه المشروبات المقيتة”.
وقد طبق (روبنز) هذه الطريقة على أبنائه وعلّمهم إياها، بل عدّها أفضل طريقة لتجنب الأولاد السلوكيات السيئة، ففي يوم من الأيام أخذ أبناءه إلى أحد الأبنية التي يسكنها مجموعة من المتعاطين للمخدرات، ورأى الأولاد بأعينهم حالة هؤلاء وقذارة المكان الذي يعيشون فيه، حيث الفئران تسرح في هذه الأبنية، ورائحة المراحيض العفنة تنتشر في ذلك المكان. فما كان من الأولاد إلا أن شعروا بالاشمئزاز من هذه المناظر، وبيّن لهم الأب أن هذه المناظر هي نتيجة لسلوك تعاطي المخدرات، فقام بعملية ربط بين الألم الذي شعر به الأولاد، والسلوك وهو تعاطي المخدرات.
ويظهر جليّاً من خلال هذين المثالين أن فكرة (الألم والمتعة) وراء ما يقوم الناس به من السلوك. وبعبارة أخرى يعدّ (الألم والمتعة) المثير وراء الاستجابات المرتبطة بها. ولعل مفهوم (الترابط العصبي) مأخوذ مما يسمى في علم النفس التربوي (التعلم بالإشراط) الذي يعدّ من أهم نماذج التعلم، والتي تركت أثراً كبيراً في ميدان التعلم، ويعدّ أيضاً من المحاولات الجادة لتفسير سيكولوجية التعلم.
إن أساليب التربية كثيرة ومتنوعة، وما زالت التربية الحديثة، تزودنا بالجديد من نظريات التربية وأساليبها، وفي كتاب ربنا وسنة نبينا، منها الكثير الكثير، بالرغم من أنها بين أيدينا منذ خمسة عشر قرناً من الزمان!
______________
المصدر : موقع الفرقان .
http://www.itimagine.com/hoffaz/forqan/F2005/F43/furqan43-09.htm