يرى مشايخ التصوف في هذه القصة القرآنية ما لا يراه غيرهم من المفسرين من أنها تشير إلى دقائق صوفية وحقائق روحية ، ومن ذلك :
إشارة القصة عند الإمام فخر الدين الرازي
يقول الإمام فخر الدين الرازي : « أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له ، وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر » .
ويقول : ( اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى راعى أنواعاً كثيرة من الآداب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر :
فأحدها : أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال :هَلْ أَتَّبِعُكَ.
وثانيها : أن استأذن في إثبات هذه التبعية ؛ فإنه قال : ( هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك ) ، وهذا مبالغة عظيمة في التواضع .
وثالثها : أنه قال :عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ، وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم .
ورابعها : أنه قال :مِمّا عُلِّمْتَ وصيغة من للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله ، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع ، كأنه يقول له : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء علمك ، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من أجزاء ماله .
وخامسها : أن قوله :مِمّا عُلِّمْتَ، إعتراف بأن الله علمه ذلك العلم .
وسادسها : أن قوله :رشداً ، طلب منه الإرشاد والهداية ، والإرشاد هو الأمر الذي لولم يحصل لحصلت الغواية والضلال .
وسابعها : أن قوله :تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ، معناه : أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك عليَّ عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ، ولهذا المعنى أنا عبد من تعلمت منه حرفاً .
وثامنها : أن المتابعة : عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير … قوله :هَلْ أَتَّبِعُكَ، يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ آتياً بها ، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم ، وترك المنازعة والاعتراض .
وتاسعها : أن قوله : أتبعك ، يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء .
وعاشرها : أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل ، وأنه هو موسى صاحب التوراة ، وهو الرجل الذي كلمه الله من غير واسطة ، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم أنه مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ، وذلك يدل على كونه آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة ، وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت أحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان طلبه لها أشد ، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد .
والحادي عشر : أنه قال :هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ ، فأثبت كونه تبعاً له أولاً ، ثم طلب ثانياً أن يعلمه ، وهذا منه ابتداء بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم .
الثاني عشر : أنه قال :هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم » (1) .
ويقول الإمام فخر الدين الرازي : « … وقول موسى له :َتَجِدُني إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصي لَكَ أَمْراً (2) : تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد ، وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات ، وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره ، فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة ، وذلك يمنعه من التعلم »(3) .
إشارة القصة عند القاضي عياض
قال القاضي عياض في الشفاء : « إنما جيء موسى إلى الخضر للتأدب لا للتعليم »(4).
إشارة القصة عند القشيري
ذكر الشيخ القشيري لهذه القصة المباركة جملة من الإشارات في تفسيره ( لطائف الإشارات ) ما خلاصته :
ميز الشيخ بين نوعين من السفر وهما : سفر التأديب ويكون فيه متحملاً ، وسفر التقريب ويكون المسافر فيه محمولاً .
يقول القشيري : « كان موسى في هذا السفر متحملاً ، فقد كان سفر تأديب واحتمال مشقة ، لأنه ذهب لاستكثار العلم ، وحال طلب العلم حال تأديب ووقت تحمل للمشقة ، ولهذا لحقه الجوع فقال :لَقينا مِنْ سَفَرِنا هَذا نَصَباً(5). وحين صام في مدة انتظار سماع الكلام من الله ، صبر ثلاثين يوماً ، ولم يلحقه الجوع ولا المشقة ، لأن ذهابه في هذا السفر كان إلى الله ، فكان محمولاً »(6) . ميز بين لفظة ( عبد ) وبين ( عبدي ) ، فقال : « إذا سمى الله أنساناً بأنه عبده جعله من جملة الخواص ، فإذا قال ( عبدي ) جعله من خاص الخواص » (7) .
أشار إلى امتلاك الخضر خاصية الرحمة للغير « فقال : آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا (8) أي صار مرحوماً من قبلنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا ، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوماً ، ويكون بها راحماً على عبادنا » (9) .
وقال الشيخ في قوله تعالى:{فإن اتَّبَعْتَني فَلا تَسْأَلْني عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}(10)« فإنه ليس للمريد أن يقول(لا) لشيخه ولا التلميذ لأستاذه ولا العامي للعالم المفتي فيما يفتي ويحكم » (11) .
نبه على أن المريد الذي لا يتجمل بخلة الصبر تفارقه الشيوخ ، فقال : « لما لم يصبر موسى معه في ترك السؤال ، لم يصبر الخضر أيضاً معه في إدامة الصحبة فاختار الفراق »(12) .
نبه إلى حظ النفس وحظ الغير فقال : « ما دام موسى عليه السلام سأله لأجل الغير – في أمر السفينة التي كانت للمساكين وقتل النفس بغير حق – لم يفارقه الخضر ، فلما صار في الثالثة إلى القول فيما كان فيه حظ لنفسه من طلب الطعام ابتلي بالفرقة »(13) .
إشارة القصة عند ابن عربي
في مجال الآداب الصوفية استنبط الشيخ من هذه القصة تنـزيه الرب من العيب ونسبه للعبد ، وذلك من خلال ثلاث كلمات قالها الخضر وهي :
1 – فأردت أن أعيبها .
2 – فأردنا أن يبدلهما ربهما .
3 – فأراد ربك .
_____________________
الهوامش:
[1] – الإمام فخر الدين الرازي – التفسير الكبير – ج5 ص 739 – 740 .
[2] – الكهف : 69 .
[3] – الإمام فخر الدين الرازي – التفسير الكبير – ج5 ص 742 .
[4] – القاضي عياض – الشفاء بتعريف حقوق المصطفى – ج 2 ص 136 .
[5] – الكهف : 62 .
[6] – الإمام القشيري – تفسير لطائف الإشارات – ج 4 ص 78 .
[7] – المصدر نفسه – ج 4 ص 79 .
[8] – الكهف : 65 .
[9] – الإمام القشيري – تفسير لطائف الإشارات – ج 4 ص 79 .
[10] – الكهف : 70 .
[11] – الإمام القشيري – تفسير لطائف الإشارات – ج 4 ص 81 .
[12] – المصدر نفسه – ج 4 ص 82 .
[13] – المصدر نفسه – ج 4 ص 83 .
المصدر: السيد الشيخه محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج 7- مادة (خ ض ر ) .