الأمانة بمعناها الروحي هي نفسها بالمعنى الظاهر ، أي : أنها الوديعة المفروض المحافظة عليها وأداؤها إلى أهلها كما هي ، ومن الطبيعي والحال هذا أن تتعدد الأمانات وتتنوع إلى ما لا يمكن حصره ، فكل شيء يصلح أن يكون أمانة ، ومن هنا جاء الاختلاف في فهم المراد بقوله تعالى :{إِنّا عَرَضْنا الْأَمانَةَ عَلى السَّماواتِ والْأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها}(1) وقوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدّوا الْأَماناتِ إلى أَهْلِها}(2) سواء عند أهل الظاهر أو عند أهل الكشف والحقائق .
والذي نراه هو أن الأمانة في ذاتها حقيقة كلية امتدت من الحقيقة المطلقة المحمدية فكان نورها في كل قلب يعكس معنىً يتناسب ومستوى ذلك اشلقلب من الطهارة والسلامة والصفاء ، حالها في ذلك حال ضوء الشمس الذي ينعكس بألوان مختلفة حين ينفذ من خلال الزجاج الملون ، فأنوار الحقائق المحمدية أو القرآنية الكلية حين تنفذ من زجاج القلب الذي هو حاله الملون بألوان الاعتقادات تنصبغ بصبغته ، وعلى هذا فإن كل ما ذكره أهل الظاهر في تفاسيرهم ومباحثهم ، وكذلك كل ما ذهب اليه الصوفية عن طريق الكشف وتناقلوه فيما بينهم أو سطروه في مصنفاتهم إنما هو أوجه حق تمثل مستويات مختلفة لفهم النص القرآني أو المحمدي المطلق .
ومن هنا فإن لنا وجهاً في فهم هذه النصوص الكريمة ، معتمدين في هذا الفهم عــلى ما أرانا الله ورسوله في ذواتنا من حقائق الأمور المستمدة من قوله تعالى :{ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ }(3) ، ولقد بسطنا فهمنا على أساس القاعدة الظاهرة التي تقول 🙁 إن القرآن يفسر بعضه بعضاً ) لتكون أبين لأولي الألباب .
فنقول :
إن الأمانة في أصلها ترجع إلى أمانتين : أمانة الله تعالى وأمانة رسوله صلى الله تعالى عليه واله لقوله
تعالى :{ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَخونوا اللَّهَ والرَّسولَ وَتَخونوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ}(4) ، أي : لا تخونوا الله في أمانته ، ولا تخونوا أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه واله . فما هي أمــانة الله جل جلاله؟ ومــا هــي أمــانة الرســول صلى الله تعالى عليه واله.
أمانة الله تعالى
إن أمانة الله التي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها لعظمها المطلق : هي نور الرسول محمد نفسه ، ولقد أكد الحق سبحانه وتعالى عدم إمكانية أي شيء في الوجود على تحمل نزول هذا النور في قوله :{لَوْ أَنْزَلْنا هَذا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ}(5) ، فلما كان القرآن هو محمد لم تستطع الجبال ولا غيرها من الموجودات تحمل النفحات الجمالية والسطوات الجلالية لهذا الكمال المطلق ، ولكن الإنسان بما أودع الله فيه من أسرار النفخة الروحية قَبِل حملها . أي قبل اتباع النور المحمدي وطاعته ومحبته والفناء فيه من أول مخلوق من جنسه وهو آدم وإلى آخر من سيخلق من ذريته ، وكان هذا من ظلمه وجهالته .
وبعد قبول الإنسان لحمل هذه الأمانة أخذ الله تعالى الميثاق على النبيين وأممهم
وعاهدهم على ذلك فقال سبحانه :{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ ميثاقَ النَّبِيّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إِصْري قالوا أَقْرَرْنا قالَ فاشْهَدوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدينَ }(6) ، فكان حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه واله قبل ظهوره أمانة الله تعالى عند الأمم السابقة ، فكانوا حين يدعون إلى الله تعالى يذكرون الناس بميثاق الأزل وأن عليهم اتباعه ، فإذا ظهر الرسول محمد صلى الله تعالى عليه واله في زمنهم فعليهم أن يفوا بعهدهم ولا يخونوا أمانتهم ، فكان بعض الناس يذّكرون وبعضهم الآخر يظلمون أنفسهم ويتجاهلون ، وهكذا تتابعت الأنبياء في أممهم يحملون أمانة الله منتظرين أن يؤدوها إلى أهلها أي يطيعوا الرسول محمد صلى الله تعالى عليه واله إن ظهر في زمنهم واستمر التبشير والتنذير إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً وأذن بظهور الذات المحمدية المقدسة ، ووقتها عرفه العارفون فوفوا بعهد الله في الازل ، وجهله الجاهلون :{وَما ظَلَمْناهُمْ وَلَكِنْ كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمونَ}(7) . إذ أصل الأمانات وأعظم الأمانات ويمكن القول أمانة الأمانات : هي أمانة الله سبحانه وتعالى: وهـي حـــضرة الرسول الأعـظم ســـيدنا محمد صلى الله تعالى عليه واله ، وتأديتها كان ولا زال بتصديقه وطاعته ونصرته .
أمانة الرسول
وأما أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه واله التي تركها لنا وأوصى بالتمسك بها على اعتبار أنها تمثله شخصياً بعد رجوعه إلى عالم الشهود والحق ، إنما هي ما ورد ذكره في الحديث الشريف :{إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي آل بيتي}(8) إنهما الصورة المحمدية الباقية إلى قيام الساعة وهما الأمانة التي هي في حقيقة الأمر أمانة الله ، فما أوجبه الله تعالى على الأمم كلها في الميثاق أوجبه حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه واله على أمته وأخذ عهدهم عليه .
إن الكتاب والعترة المطهرة في اجتماعهما معاً يشكلان الطريقة ؛ لان الطريقة في حقيقتها تعني : الوارث المحمدي المتحقق بالقرآن قولاً وفعلاً وحالاً أي أنه القرآن الناطــق . إذ أمـانة الله : هي أمــانة الرســــول ، وأمانة الرسول : هي الطريقة ( الكتاب والعترة ) .
وأما أداء أمانة الطريقة إلى أهلها : فأصبح واضحاً من اتخاذها وسيلة تقريب إلى الله تعالى عن طريق التمسك بها ، والعمل بما تنص عليه من منهج الاستقامة الذي يشترط أول ما يشترط محبة الرسول وآل بيته وموالاتهم ومناصرتهم والسير على نهجهم وهداهم ، وكذلك نشرها بين الناس لتعم بركتها على الأمة كلها . وكما تجاهل البعض وخان هذه الأمانة في عهد الأنبياء وفي عهد الظهور المحمدي فقد خان بعض الناس هذه الأمانة بعد انتقاله . فمنهم : تارك للكتاب والعترة غرته الحياة الدنيا ،
ومنهم : تارك لأحدهما غره بالله الغرور . فهذا هو المراد من قوله تعالى :{لا تَخونوا اللَّهَ والرَّسولَ وَتَخونوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ}(9).
_____________________
الهوامش :
[1] الأحزاب : 72 .
[2] النساء : 58 .
[3] الأنبياء : 79 .
[4] الأنفال : 27 .
[5] الحشر : 21 .
[6] آل عمران : 81 .
[7] النحل : 118 .
[8] سنن الترمذي ج: 5 ص: 663 .
[9] الأنفال : 27 .
المصادر :
السيد الشيخ محمد الكسنزان – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان ج2 مادة(ا م ن).