آداب المريد الكسنزاني مع شيخ الطريقة
آداب المُريد مع شيخ الطريقة من أهم الآداب ، ولعلها الأصل الذي تتفرع منه بقية الآداب ، ولأهل الطريقة في ذلك اقتداء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، فقد روى البخاري ما جرى في الحديبية مع عروة بن مسعود لما عاد لقومه ، قال : ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا (1) .
وروي : لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟
قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرونَ وأنا رفيع الصوت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار.
فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فسدي عليَّ الضَبَّة (3) بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفته(4) ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
فلما أتى عاصم النبي وأخبره بخبره قال صلى الله تعالى عليه وسلم : إذهَبْ فادعُهُ ، فجاء عاصم إلى المكان الذي فيه رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بـيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله يدعوك .
فقال : أكسر الضَبَّة ، فأتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ ؟ .
فقال: أنا صَيِّت(5) وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيَّ !
فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا ، وتُقْتَلَ شَهِيدًا ، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ .
فقال : قد رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى: إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ… (6) ( 7) .
ومما علمهم الله تعالى قوله سبحانه : إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (8) . وكان هذا الحال من وفد بني تميم جاءوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنادوا : يا محمد اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين ، قال فسمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إليهم وهو يقول : إنما ذلكم الله عزَّ وَجَل ، فَمَا تُرِيدُونَ ؟ (9) في قصة طويلة ، وكانوا أتوا بشاعرهم وخطيبهم ، فغلبهم حسان بن ثابت وشبان المهاجرين والأنصار بالخطبة ، وفي هذا تأدب للمريد في الدخول على الشيخ والإقدام عليه وترك الاستعجال وصبره إلى أن يخرج الشيخ من موضع خلوته .
ومن جملة الآداب التي يجب على المريد الكسنزاني مراعاتها مع شيخ الطريقة :
- قبل كل شيء يجب على المُريد أن لا يدخل على الشيخ أو يحضر مجلسه إلا وهو على طهارةٍ كاملة ووضوءٍ تام وان يستأذن عليه في الدخول (10) .
- أن يجلس بين يدي شيخه على نعت السكينة والوقار ناكساً رأسه غاضاً بصره (11).
- على المريد أن يواظب على حضور مجالس الشيخ ، فإن كان في بلد بعيد فعليه أن يكرر زيارته بقدر المستطاع ، وذلك لأنه كما قيل: زيارة المربي ترقي وتربي .
وقد عد الصوفية ان سيرهم بني على ثلاثة أصول : الاجتماع والاستماع والإتباع ، وبذلك يحصل الانتفاع (12) .
- على المريد أن ينظر إلى الشيخ في مجلسه بقدر الحاجة للرابطة القلبية وان لا يلتفت إلى غيره ، يقول الشيخ أحمد الرفاعي الكبير قدس الله سره : « المشايخ عند المريدين كالقِبلة ، والنظر إلى وجه الشيخ عبادة تزيد في الدين والعقل والإيمان ومن البلاء أمان »(13) .
- على المريد أن يحب شيخه محبة فائقة ، وإنما تقوى محبة المريد لشيخه بموافقته له أمراً ونهياً ، ومعرفتِهِ لله تعالى في سيره وسلوكه ، فالمريد كلما كبرت شخصيته بالموافقة ازدادت معرفته ، وكلما ازدادت معرفته ازدادت محبته (14).
قال سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : المخلص يحبني والمنافق يبغضني ، السُنّي يحبني والبِدَعي يبغضني … وما يحبني إلا عالم بالله عز وجل … إن أحببتني فنفع ذلك عائد إليك وأن أبغضتني فضرر ذلك عائد عليك ، وما أنا واقف مع مدح الخلق وذمهّم (15) .
ومن تكن محبته لشيخه غالبة يكن منظوراً بالنظر الإلهي بواسطة المحبة لشيخه ، لأن الله تعالى ينظر بنظر الموهبة والمحبة إلى قلوب الأولياء ، فبواسطة الاستقرار وتمكن حبه في قلب الشيخ ينـزل الله تعالى عليه آثار الرحمة والفيض الرباني متواتراً ، وقبول الشيخ علامة قبول الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم (16) .
- مما يجب على المريد أن لا يشارك في محبة الشيخ أحد غيره ولا في الاستمداد منه ولا في الانقطاع إليه بقلبه لئلا يتشتت قلبه بين شيخين ، فمثل المريد في ذلك كمثل المريض الذي يطبب جسمه عند طبيبين في وقت واحد فيقع في الحيرة والتردد وقد قيل : ( الذي بين شيخين كالذي بين سيفين ) .
وينبغي الملاحظة أن المقصود بالشيخ هنا هو شيخ التربية لا شيخ التعليم ، إذ يمكن لطالب العلم أن يكون له عدة أساتذة في التعليم لأن ارتباطه بهم ارتباط علمي ، بينما صلة المريد بشيخ التربية صلة قلبية وتربوية وروحية (17).
- على المريد أن يعظم شيخه وان يحفظ حرمته حاضراً وغائباً (18) .
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره : من وقع في عِرض وليٌّ ابتلاه الله بموت
القلب (19).
ويقول الشيخ ابن عربي في الفتوحات – الباب ( 108 ) منشداً :
ما حرمة الشيخ إلا حرمـة اللهِ فقـم بهـا أدبــاً للهِ باللـهِ
هم الأدلاء والقربى تؤيدهــم على الدلالة تأييداً علـى اللهِ
كالأنبياء تراهـم في محاربهـم لا يسألون من الله سـوى اللهِ
- وينبغي أن يكون تطلعه إلى مبهم من حاله يستكشف عنه من الشيخ ، لأن الشيخ مستنطقاً نطقه بالحق ، وحضرته رافع قلبه إلى الله تعالى يستمطر للمريدين ويستسقي لقلوبهم البركة ، فلسانه وقلبه في القول والنطق مأخوذين إلى مهم الوقت من أحوال الطالبـين المحتاجين إلى ما يفتح به عليهم .
- على المريد أن يكون مبادراً إلى خدمة الشيخ بقدر الإمكان بنفسه
أو بماله أو بقوله ، إذ خدمة الرجال سبب الوصال لمولى الموالي ، فمن خَدَم خُدِم (20) ، ونقل عن الشيخ علي وفا أنه قال : « من تقرب إلى أستاذه بالخدم قرب الحق تعالى إلى قلبه بأنواع الكرم »(21) .
ومما يذكر في هذا الشأن أن إبراهيم المواهبي لما جاء إلى الشيخ أبي المواهب يطلب الطريق أمره أن يجلس في الإسطبل يخدم البغلة ويقضي حوائج البيت فمكث سنين حتى دنت وفاة الشيخ ، فقال : ائتوني بإبراهيم ، فأتوه به ففرش له سجادة وقال له : تكلم على إخوانك في الطريق ، فأبدى لهم العجائب والغرائب نظماً ونثراً حتى انبهرت عقول الحاضرين (22).
- حسن العقيدة بشيخه حتى يعتقد بأن شيخه معه في كل وقت ومكان ، وأنه يتصرف في كل أموره من هذا المنطلق ، فالشيخ أولى بالمريدين من أنفسهم كما النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (23) .
- على المريد أن يستسلم لشيخه وأن يطيعه في جميع أوامره ونصائحه ، وليس هذا من باب الانقياد الأعمى الذي يهمل فيه المرء عقله ويتخلى عن شخصيته ، ولكنه من باب التسليم لِذي الاختصاص والخبرة ، وهذا يشبه تماماً استسلام المريض لطبيبه استسلاماً كلياً في جميع معالجاته وتوصياته ، ولا يُعَدُّ المريض في هذا الحال مهملاً لعقله متخلياً عن كيانه وشخصيته ،بل يُعْتَبَرُ منصفاً عاقلاً لأنه سلَّم لذي الاختصاص ، وكان صادقاً في طلب الشفاء (24) .____________________
الهوامش :-
(1) – صحيح البخاري – ج 9 ص 256 – باب لا مانع لما أعطى الله – حديث 2529 .
(2) – الحجرات : 2 .
(3) – الضَبَّة : حديدة أو خشبة يُضبُّ بها الباب (المنجد في اللغة والأعلام – مادة ضبَّ –
ص 444) .
(4) – العِطْف : من كل شيء : جانبه ، وعطَّفَ الوسادة : ثناها (المنجد في اللغة والأعلام – مادة عطف – ص 512 ) .
(5) – الصَيِّت : الشديد الصوت ( المنجد في اللغة والأعلام – مادة صات – ص 439 ) .
(6) – الحجرات : 3 .
(7) – تفسير ابن كثير – ج 4 ص 208 .
(8) – الحجرات : 4
(9) – أبو نعيم الأصبهاني – معرفة الصحابة – ج 3 ص 273 .
(10) – السيد الشيخ محمد الكسنـزان – الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – ص 306 .
(11) – السيد الشيخ محمد الكسنـزان – الأنوار الرحمانية في الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – ص226 .
(12) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 67 .
(13) – السيد محمد أبي الهدى الرفاعي – قلائد الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر –
ص 177 .
(14) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 66 .
(15) – الناشر الشيخ محمد الكسنـزان – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص 8 .
(16) – الشيخ تاج الدين بن زكريا العثماني – مخطوطة آداب المريدين برقم ( 13723 ) – ص 27 .
(17) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 66 ( هامش 3 ) .
(18) – المصدر نفسه – ص 65 .
(19) – المصدر نفسه – ص 66 .
(20) – المصدر نفسه – ص 67 .
(21) – الإمام الشعراني – الأنوار القدسية – ص 150 .
(22) – المصدر نفسه – ص 127.
(23) – الأحزاب : 6 .
(24) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 63 .