المرابط ولد عبد الرحمن / باحث في العلوم الشرعية
يشرفني ويسعدني –إخواني وأعزائي الزوار الكرام- أن أتناول في إطار الكتابة عن هذا الجانب الثر من التراث العربي الإسلامي الأصيل مواضيع جد هامة وحساسة للغاية، وذلك ضمن سلسلة مقالات ننوي بحول الله وقوته كتابتها ونشرها عبر هذا الموقع المبارك إنشاء الله تعالى؛ ذلك أن مواضيع كهذه ليست ككل المواضيع التي ألفها وتعودها القراء إذ أنها لخصوصيتها واقتصارها على الأفذاذ والأعلام لا تطرق دائما بصفة موضوعية وجادة وحيادية على مستوى الحقل الديني والثقافي والإعلامي، ونظرا لأهميتها القصوى في إنارة الدروب والمسالك فإننا سنسعى جاهدين من خلال هذا المنبر إلى القيام بكشف النقاب عن مكامنها ومكنوناتها. منطلقين من أسسها ومرتكزاتها المستلهمة من روح وأصول الشريعة الإسلامية مؤصلين كل ذلك كتابا وسنة لأن هذه الروافد الثقافية العربية والإسلامية المكينة التي تشكل موروث الأمة ومخزن كنوز وينابيع التراث الإسلامي الروحي الأصيل ظلت من أهم مقومات الشخصية العربية في هذه الربوع الشنقيطية بل في عالمنا الإسلامي عموما وساحتنا العربية خصوصا، عبر أحقاب التاريخ الإسلامي.
ومن المعلوم أن دخول التصوف لموريتانيا كان منذ بداية الفتح الإسلامي حيث كان الفاتحون الأوائل هم أول من مثلوا جانب السلوك والأخلاق والتربية والتزكية في هذه الربوع والأصقاع العريقة من الوطن العربي والإسلامي، وقد ظل التصوف في هذه البلاد القاصية محافظا على سنيته وأصالته وطابعه التوفيقي الجامع بين التشرّع والتحقّق اعتمادا على قولة الإمام مالك المشهورة: “من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوّف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق”، وكان التصوف ولا يزال داخل البلاد وفي كثير من المناطق والبقاع الإسلامية متأثرا شكلا ومضمونا بطريقة الجنيد السالك الملقب بسيد الطائفة القائل: “الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وعلى المقتفين أثره والمتابعين”، وهو ما تترجمه “المرشدة” وغيرها من المراجع المعتمدة في الموضوع، ولا يخفى على أحد ما تشهده الساحة الوطنية والعالمية عموما خلال هذه الظرفية التاريخية الخطيرة من فراغ روحي وخواء ديني فظيع وخطير سببه الأوحد إغفال الجانب الروحي من اهتمامات الإنسان المعاصر الذي شغل باله الجانب الحسي واستهوته عولمة الماديات عن كل ما سوى ذلك من جوانب معنوية روحية لها مالها من النفع العاجل والآجل بالنسبة للإنسان المسلم حيث كان وكيف كان، حيث تمرد الإنسان في هذا الزمان على المرجعية الروحية نتيجة جرأة العقلانية المنفتحة المتنامية في اطراد والتي لم تعد لصاحبها قناعة في أهمية البناء الروحي.
ونظرا لذلك فإنه من الضروري – والحالة هذه- أن يُملأ ذلك الفراغ وأن تسد تلك الثغرة الواسعة حتى ترقى الأمة والإنسانية جمعاء من حضيض التلوث بكثافة الحسيات المادية إلى أوج سمو الروحانية العالية، ولا يتأتّى ذلك بطبيعة الحال إلا من خلال التعرّف على واقع وحقيقة تراثنا الإسلامي الأصيل والمتنوع، هذا التراث الذي يتجلّى ويتمثل في الجوانب الخلقية والروحية من الرسالة المحمدية السمحة، وكثيرا ما تطرح بين الفينة والأخرى وبين الحين والآخر التساؤلات حول مدى شرعية أو مشروعية التصوف في الإسلام وهذا ما سنتطرّق له في المقالات المقبلة بشيء من التفصيل بحول الله وقوته، وقبل ذلك أود القول بأن التصوف في الإسلام ظل عبر العصور الإسلامية جوهرا مستهدفا من قبل من غلوا فرموا أهله وذووه بالبدع والضلالات والكفريات والشركيات حتى اعتبره بعض المغرضين قائما على الرهبنة والشعوذة وما إلى ذلك من الأمور الخارجة عن إطار الشرع الحنيف، في حين أن البعض الآخر ممن له خبرة وتخصص بهذا المجال اعتبره جوهر الدين وأساسه المتين.
وعلى كل حال وأمام هذه الازدواجية في الآراء والتصورات فإنه يمكن القول بأنه ثمة فرق بين الصوفيين كأتباع غير معصومين يعتريهم ما يعتري سائر أفراد المسلمين وبين التصوف كمنهج إسلامي أصيل وكمدرسة روحية متميزة تعتبر ميراث التزكية التي ورد ذكرها في أكثر من آية وحديث كقول الله تبارك وتعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقول النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو نعيم في الحلية: “من علم بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم” هذه المدرسة السلوكية الروحية التي تبلورت وتميزت في القرن الثاني الهجرى على غرار نشأة سائر المدارس الإسلامية الأخرى من فقهية ونحوية وما شابه ذلك وشاكله. ومنهجها ينبني على التخلي والتحلي والتجلي أي على التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل ليحصل تجلي النور في القلب مصداقا للآيات القرآنية الكريمة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) إلخ، وميدانها طبّ القلوب والأرواح الذي يميز به بين لَمّة الملك ولمّة الشيطان.
والحاصل أنه مهما اختلفت الآراء والاجتهادات البشرية فإن مقام الإحسان الذي هو أصل التصوف لا يكمل إيمان المرء بدونه بدليل حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. إلى أن قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”، ولهذا فإنه مما يجب أن يعلمه المسلم أن دين الإسلام له ثلاثة أركان فركن يدعى بالإسلام، وركن يدعى بالإيمان، وركن يدعى بالإحسان؛ وهذا الأخير معناه لغة الإتقان وله ميزة يختص بها من حيث صعوبته وصعوبة القيام به ولذلك ندب الله عباده إليه وإلى التمسك به وجعله قائما في الجسد الإسلامي مقام القلب من الإنسان، فإذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، إلا أنه اختلفت حوله تعابير وشروحات العلماء قديما وحديثا ووقعت عليه ولأجله نزاعاتهم، وأبلغ ما يمكن أن يقال في ذلك أنه السير بالقلب إلى الله (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) ذلك أن القلب آلة تتعرض للخير والشر.
وهذا ما جعل الإنسان يدور بين النقص والكمال ويتأرجح بين الخيرية والشرية: (أولئك هم خير البرية) (أولئك هم شر البرية) وإذا فهذا الاسم الذي سقط على الإحسان ألا وهو التصوف وليدعه من شاء اسما يونانيا أو سريانيا ..أو غير ذلك فهو اسم من أسماء النِّسب التي لا تخضع للاشتقاقات اللغوية، وبصرف النظر عن كل ما قيل في ذلك إلا أن الأسماء بعكس الصفات لا تعلل ولا يلزم فرض اشتقاقها، وهذه التسمية تسمية اصطلاحية لمن اتصف بالمواصفات والأخلاقيات والشمائل المحمدية الكريمة. وعموما فهو اسم لباب كبير من العلوم يعجز آلاف العلماء عن جمع شتات معلومات وكتب ونوادر وشذرات ما يعنّ ويقع ويعرض بسبب هذا الاسم والاسم الذي قبله.
ومهما يكن فالتصوف بالنسبة لنا نحن المسلمين هو أسمى وأعلى ما يعبر عن كل ما تطمح إليه نفوسنا وما علينا إلا أن نأخذه من الوجه المصفّى.
_______
المصدر : موقع المنار والرباط
http://manarebat.com/modules.php?name=News&file=article&sid=36