الشيخ محمد بن أحمد
والصالحون أربعة أقسام : سالك ، ومجذوب ، وسالك متدارك بالجذبة ، ومجذوب متدارك بالسلوك .
فالسالك المجرد لا يُؤهَّل للمشيخة ولا يبلغها لبقاء صفات نفسه عليه فيقف عند حظه من الله تعالى في مقام المعاملة والرياضة ولا يرتقي إلى حال يُرَوِّحُ بها عن وهج المكابدة .
والمجذوب المجرد من غير سلوك يبادئه الحق بآيات اليقين ويرفع عن قلبه شيئاً من الحجاب ولا يؤخذ في طريق المعاملة وللمعاملة أثر تام وهذا أيضاً لا يؤهل للمشيخة ويقف عند حظه من الله تعالى مروحاً بحاله غير مأخوذ في طريق أعماله ،
ما عدا الفريضة .
والسالك الذي تدورك بالجذبة هو الذي كانت بدايته المجاهدة والمكابدة والمعاملة بالإخلاص أو الوفاء ثم أخرج من وهج المكابدة إلى روح الحال فوجد العسل بعد العلقم وتروح بنسمات الفضل وبرز من مضيق المكابدة إلى متسع المساهلة ، وأونس بنفحات القرب ، وفُتح له باب من المشاهدة فَوَجَدَ دواءه ، وفَاض وعاءه ، وصدرت منه كلمات الحكمة ، ومالت إليه القلوب ، وتوالى عليه فتوح الغيب ، وصار ظاهره مسدداً وباطنه مشاهداً ، وصلح للخلوة ، وصار له في جلوته خلوة ، فيغلب ولا يغلب ، ويفترس ولا يفترس ، يؤهل مثل هذا للمشيخة لأنه أخذ في طريق المحبين ، ومُنِحَ حالاً من أحوال المقربين بعدما دخل في أعمال الأبرار الصالحين ، ويكون له أتباع ينتقل منه إليهم علوم ويظهر بطريقه بركة ، ولكن قد يكون محبوساً في حاله محكماً حاله فيه لا يطلق من وثاق الحال ولا يبلغ كمال النوال ، يقف عند حظه وهو حظ وافر سني ، والذين أوتوا العلم درجات ، ولكن المقام الأكمل في المشيخة .
القسم الرابع وهو المجذوب المتدارك بالسلوك يبادئه الحق بالكشوف وأنوار اليقين ويرفع عن قلبه الحجب ويستنير بأنوار المشاهدة وينشرح وينفسح قلبه ويتجافى عن دار الغرور وينيب إلى دار الخلود ويرتوي من بحر الحال ويتخلص من الإعلال والأغلال، يقول معلناً:
لا أعبد رباً لم أره ، ثم يفيض من باطنه على ظاهره ويجري عليه صور المجاهدة والمعاملة من غير مكابدة وعناء بل بلذاذة وهناء ، يصير قالبه بصفة قلبه لامتلاء قلبه فيزيده الله تعالى إرادة خاصة ، ويُرزق محبة خاصة من محبة المحبوبين المرادين ، ينقطع فيواصل، ويعرض فيراسل ، يذهب عنه جمود النفس ، ويصطلي بحرارة الروح ، وينكمش عن قلبه عروق النفس ،
قال الله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ }( 1) ، أخبر أن الجلود تلين كما أن القلوب تلين ، ولا يكون هذا إلا حال المحبوب المراد ، فالمحبوب المراد الذي أهل للمشيخة سَلَّمَ قلبه ، وانشرح صدره ، ولان جلده ، فصار قلبه بطبع الروح ، ونفسه بطبع القلب ، ولانت النفس بعد أن كانت أمارة بالسوء مستعصية ، ولان الجَلد لِلين النفس ورد إلى صورة الأعمال بعد وجدان الحال ولا تزال روحه تنجذب إلى الحضرة الإلهية فيستتبع الروح القلب ويستتبع القلب النفس ويستتبع النفس القالب فامتزجت الأعمال القلبية والقالبية وانخرق الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر والقدرة إلى الحكمة والحكمة إلى القدرة والدنيا إلى الآخرة والآخرة إلى الدنيا ، ويصح له أن يقول : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً .
فعند ذلك يطلق من وثاق الحال ويكون مسيطراً على الحال أي مسلطاً عليه
لا الحال مسيطراً عليه ، ويكون حراً من كل وجه ، والشيخ الأول الذي أخذ في طريق المحبين حرٌ من رق النفس ، ولكن ربما كان باقياً في رق القلب ، وهذا الشيخ في طريق المحبوبين حر من رق القلب كما هو حر من رق النفس ، وذلك أن النفس حجاب ظلماني أرضي اعتق منه الأول أي الشيخ الأول ، والقلب حجاب نوراني سماوي اعتق منه الآخر ، فصار لربه لا لقلبه ، ولموقته لا لوقته ، فعبد الله حقاً وآمن به صدقاً ، ويسجد لله سواده وخياله ، ويؤمن به فؤاده ، ويقر به لسانه كما قال رسول الله 3 في بعض سجوده ، ولا يتخلف عن العبودية منه شعرة وتصير عبادته مشاكلة لعبادة الملائكة وليس هذا لمن أخذ في طريق المحبين
لا يستبشع صور الأعمال ويمتلئ بما أنيل من وجدان الحال ، وذلك قصور في العلم وقلة في الحظ ، ولو كثر العلم رأى ارتباط الأعمال بالأحوال كارتباط الروح بالجسد ، ورأى أن لا غنى عن الأعمال كما لا غنى في عالم الشهادة عن القوالب ، فما دامت القوالب باقية فالعمل باق ، ومن صح في هذا المقام الذي وصفناه هو الشيخ المطلق والعارف المحقق والمحبوب المعتق ، نظره دواء ، وكلامه دواء ، بالله ينطق ، وبالله يسكت كما ورد : { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ، بي ينطق } ، الحديث .
وقال القشيري رحمه الله فأما المصطلم عن شاهده ، المستوفي عن إحساسه بالكلية ، فإذا بطل عن جملته ونفسه وحسه وكذلك عن المكونات بأسرها ثم ما دام به هذه الغيبة فهو محو فلا علم ولا عقل ولا فهم ولا حس ولا تلوين ولا تمكين ولا مقام ولا حال ، وما دام بهذا الوصف فلا تشريف ولا تكليف ، اللهم إلا أن يرد بما يجري عليه من غير شيء منه ، ومعنى قوله ( اللهم إلا أن يرد إلى آخره ) أن يأتي بالتكاليف التي أوجبها الله تعالى عليه من غير تعب ولا عناء بل بلذاذة وهناء .
قال ابن عطاء الله فأرباب الحديث يكشف لهم عن كمال ذاته ثم يردهم إلى شهود صفاته ثم يرجعهم إلى التعلق بأسمائه ثم يردهم إلى شهود آثاره ، والسالكون على عكس هذا فنهاية السالكين بداية المجذوبين ، وبداية السالكين نهاية المجذوبين، لا بمعنى واحد فربما التقيا في الطريق هذا في ترقيَّه وهذا في تدليَّه .
وقال سيد الطائفة الجنيد قدس الله روحه : وسنة الله تعالى مع القاصدين مختلفة فأكثرهم يوفقون للمجاهدات ثم يصلون بعد مقاسات اللتيا والتي إلى أسنى المعالي ، وكثير منهم يُكاشفون في الابتداء ويصلون إلى ما لم يصلِ إليه كثير من أصحاب الرياضات إلا أن أكثرهم يردون إلى المجاهدات بعد هذه الأرفاق ليستوفي منهم ما فاتهم من أحكام أهل الرياضات .
قال الشيخ جبريل الخرمابادي قدس الله سره : واعلم أن الشيخ يجب أن يكن كاملاً واصلاً قد تجلى الله تعالى له في ذاته وصفاته التسعة والتسعين فما بقيت صفة يكون ناقصاً ، وينبغي أن يكون سالكاً مجذوباً أو مجذوباً سالكاً ، فالسالك الأبتر وهو الذي اجتهد وسلك طريق المعاملة والرياضة لكنه لم يصلِ إلى روح الحال ولم يتصل كسبه بالموهبة ولم يتدارك سلوكه بالجذبة
لا يصلح للاقتداء لأنه بَعِدٌ في الطريق ، غير واصل ، إذ الواصل لا يكون إلا بالجذبة ، فكيف يُوصِل غيره ؟
ولأن الشيخ يجب أن يكون مقبول الحضرة ، وبينه وبين الله باب مفتوح دائماً ينزل الحوائج كلما أراد ، والسالك الأبتر لم يرتق لهذا المقام .
والمجذوب الأبتر وهو الذي هبت عليه نسمات الموهبة لكنه لم يسلك طريق الرياضة والمجاهدة والمعاملة ولم يكن تحت حكم شيخ لا يصلح أيضاً إذ المجذوب على نوعين : واصل ، وغير واصل .
أما غير الواصل فهو طفل الطريق فحكمه حكم السالك الأبتر بل أقل منه في الاقتداء به إذ السالك الأبتر يعرف بعض علامات الطريق ولأنه صحت له نسبة البنوة إلى حضرة النبوة ، بخلاف المجذوب الغير الواصل .
وأما الواصل فإنه وإن قطع بوادي الطريق وبلغ مبلغ الرجال لكنه غير عارف بعلامات الطريق إذ مثله مثل من قطع البرية ووصل إلى الكعبة لكنه كان في المجازة فإنه وإن كان حاجاً لكنه غير مفتوح العين ولم يحصل له الوقوف على المنازل والمراحل والطرق وعلاماتها فكيف يصلح دليلاً لغيره؟ ومعنى آخر أنه لم يتعلم هذه الصنعة ولم يحصلها بالكسب ولم يحصل له تجربة وعلم بالمضار والمنافع والآفات فكيف يعلم غيره ولم يسلك طريق الكسب ولم يعبر فيها فكيف يسلك فيها غيره ؟ فمثله كمثل من عثر على كنز ولم يسع في تحصيله ولم يباشر سبباً من أسباب الكسب ، هل يصح مثل هذا أن يتصد للتعليم ويعلم الناس أنواع الكسب من التجارة والمعاملة والحراثة والكيمياء وغير ذلك ؟ بل يجب عليه إن كان فطناً أن يجعل هذا الكنز آلة ويصرفه في طريق تحصيل العلم بالتحصيل والكسب فإذا جُعل له العلم بالتحصيل وهُدِيَ إلى الكسب ومهر في صنعته يعدُّ غنياً ، وإن كان صفر اليدين وإن اغتر بما في يده وأعجب بماله ولم يتعلم لا يعد من الأغنياء إلا عند الأغبياء إذ الذهب عُرضة للذهاب والتلف فإذا تطرق إليه آفة من الآفات فتلف ، وصاحبه غير عارف بطرق التحصيل لا يكون أسوأ حالاً منه ، لأنه مفلس له رعونة الاثرياء وكِبَرَهم ، ولا يرضى أن يكون محكوماً ما لم يعلم هذه الصنعة حتى يرده إلى حالته الأولى ويعلمه الصنعة بل يزل قدمه ويرى أنه على ذلك الحال فيبقى مظنة للرياء والنفاق ، وهنا كلام يقتضي الوقت ذكره ، وهو أن المقصد الأعلى التشبث بذيل إرادة الشيخ ، والاحتياج إلى تربيته أن يلقح باطن المريد ويصب في رحم إرادته نطفة الذكر .
والسالك الأبتر والمجذوب الذي ليس بواصل طفلاً لم يبلغ مبلغ الرجال فلا يجيء منهما التلقيح والإحبال . والمجذوب الواصل وإن بلغ مبلغ الرجال لكنه جاهل بكيفية التلقيح والإحبال ، ودقيقة أخرى أن المكمل على سبيل الأصالة إلى الحضرة النبوية وغيره إنما يكمل بالخلافة عنه إذا صحت نسبته إليه ، والمجذوب غير السالك لم يصح له نسبة البنوة إلى حضرة النبوة فكيف يكون خليفة عنه في التكميل .
وأما السالك المجذوب ، والمجذوب السالك ، فيصلحان للمشيخة والاقتداء بهما في الطريقة إذ مثلهما كمثل من قطع البرية بقدم الصدق مراراً بعد أن وصلِ إلى الكعبة وتكرر مجيئه وذهابه فيها ووقف على العلامات واحدة فواحدة فهو يصلح دليلاً لغيره ، ومن تبعه لا يضل ولا يشقى ، ومشايخ الطريقة رضوان الله عليهم أجمعين على هذه الصفة قطعوا بادية النفس وعرفوا كيدها وعبروا عقبات الهوى وحاربوا الشيطان ووقفوا له على هذين الحيالين الخداعين ، فمن أراد أن يصلِ إلى الكعبة الحقيقية فأمثال هذا لا يجوز أن يكون أمير الحاج ودليلهم ويقومون بمهابته وبما يحتاج إليه في الطريق وكم بين من حج على الجمل في المجازة وبين من قطع الطريق بقدميه وقاسا الشدائد والجوع والعطش وإن اشتركا في الحج فلا يظن أحداً أن هذا الطريق يمكن قطعها من غير دليل فيقطع عليه الطريق ، والذي يقضي منه بالعجب أن طالب سعدى وسلمى لا يصلِ إليهما مع وجود الجنسية والقرب القريب إلا بواسطة تهديه وتوصله ، وهذا العاقل يطمع أن يصلِ إلى الحضرة الإلهية مع ذلك البعد البعيد من غير واسطة ودليل ،
ما أهون عليك أمر ربك يا عاقل »(2 ) .
_________
اعداد مكتب الارشاد والمتابعة
_____________
الهوامش:-
1- الزمر 123
2 – الشيخ محمد أحمد – مخطوطة الدرية المضية – جامعة الملك سعود – ورقة 9 أ – 12 أ .